تلفزيون سوريا-هاني العبدالله
تواصل الليرة السورية انهيارها يوماً بعد يوم، في وقتٍ يقف فيه نظام الأسد عاجزاً عن تحسين قيمتها أو ضبطها على الأقل، حيث تجاوز سعر صرف الليرة مقابل الدولار حاجز 600 ليرة سورية، وسط تساؤلاتٍ من قبل الموالين عن سبب التراجع المستمر في قيمة العملة المحلية رغم استعادة النظام مساحاتٍ واسعةٍ من سوريا وترويجه لعودة الحياة إلى طبيعتها؟ .
شهدت الليرة السورية منذ 2011 تراجعاتٍ مستمرةٍ بشكل تدريجي، تخللتها فتراتٌ قليلةٌ من التحسّن سرعان ما تراجعت بعدها، لتبلغ ذروة انهيارها عام 2016 حين وصل سعر صرف الليرة مقابل الدولار إلى 645 ليرة، بينما وصلت قيمة الليرة نهاية الأسبوع الماضي إلى 607 أمام الدولار، وسط تخوفٍ من انهيار قيمتها مجدداً إلى مستوياتٍ غير مسبوقة.
لكن لماذا تواصل الليرة السورية تراجعها ويعجز الأسد عن ضبطها؟
في هذا الإطار قال الخبير في الشأن الاقتصادي يونس الكريم: “قبل الحديث عن أسباب انهيار العملة المحلية، لابد من الإشارة إلى أن هناك سعرين لصرف الليرة السورية، سعر اقتصادي لا يُعلن عنه النظام يتجاوز وفق تقديرات الخبراء 700 ليرة، وهناك سعر سياسي هو المتداول عبر السوق السوداء ويبلغ 600 ليرة أمام الدولار”.
وأضاف الكريم لموقع تلفزيون سوريا “يعود السبب في اعتماد الأسد السعر السياسي لصرف العملة، هو أنه في حال كان سعر الصرف أكثر من 600 ليرة فهذا يجعل الرواتب الممنوحة من قبل النظام للمواطنين تفقد قيمتها النهائية (صفر)، وبالتالي يبدأ النظام بالاعتماد على المساعدات كلياً لإطعام المواطنين، ويخلق حالة من الفوضى الاقتصادية العارمة ويجعل النظام في حالة ضغط كبير، ويساهم في عزوف كل المستثمرين والشركات عن التعامل معه”.
وحول أسباب الانهيار المستمر لليرة السورية قال الكريم: إن “استعادة النظام السيطرة على مناطق واسعة من سوريا كان عاملاً سلبياً وليس إيجابياً على الليرة السورية وساهم في تراجعها بدل تحسنها، كون تلك المناطق كانت عبارة عن أحد أهم الموارد المالية للأسد، عن طريق استفادته من المساعدات والمنح المقدمة من الأمم المتحدة للمناطق المحررة، أو عبر الإتاوات الضخمة التي كان يفرضها على البضائع التي تدخل إلى تلك المناطق ولاسيما ما كان يحصل في المناطق المحاصرة كالغوطة الشرقية، إضافة لحرمان النظام من التحويلات المالية التي كانت تصل إلى المناطق المحررة، والتي كان صرفها من قبل السكان يؤمن له القطع الأجنبي”.
وأفاد الكريم أن “العقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة بشكل متزايد على النظام، عملت على تضييق الخناق على الموارد المالية التي كانت تأتي من مؤيدي الأسد أو داعميه الخارجيين، وهذا التضييق بدأ يظهر بشكلٍ واضحٍ في العام الحالي وساهم في انهيار الليرة إلى 600 ليرة مقابل الدولار، بينما كانت تتراوح العام الماضي بين 450-500 ليرة”.
وتابع قائلاً: “كما توقفت الصناعات والمبادلات التجارية وتراجعتِ حجم الصادرات التي تولّد العملة الأجنبية نتيجة العقوبات الاقتصادية المفروضة وتدمير البنى التحتية في مناطق النظام، وبالتالي أصبح الأسد مضطراً للاعتماد على الاحتياطات النقدية لتلبية الاحتياجات المختلفة، ما أدى إلى انهيار الليرة وتراجع الاحتياطي للقطع الأجنبي من 18 مليار دولار في العام 2011، إلى 700 مليون دولار العام الحالي”.
من الأمور التي ساهمت في تراجع الليرة السورية أيضاً الحصار العربي لسوريا، وعدم رغبة الدول المجاورة لها في استيراد المواد التي تُنتج من قبل النظام، وعدم تحقيق المعابر التي فتحها الأسد مع لبنان أو الأردن الآمال المتوقعة من الربح الاقتصادي، خاصةً في ظل العقوبات الأميركية والأوروبية التي منعت دول الخليج من إعادة تطبيع العلاقات من جديد مع نظام الأسد، وفق ما يرى الكريم.
وفي المقابل يرى الباحث الاقتصادي الدكتور فراس شعبو، أن “العقوبات المفروضة على الأسد ليست السبب الرئيسي في انهيار الليرة كما يُروّج النظام دوماً عبر إعلامه، حيث إن العملة المحلية تراجعت بشكل تدريجي خلال الثمان السنوات الماضية وعلى عدة مراحل، في ظل انعدام السياسة النقدية للبنك المركزي، فقد سعى الأخير إلى جعل سعر الصرف الرسمي بعيداً عن سعر السوق الفعلي، ما أدى إلى خسائر كبيرةٍ لحقت بالمصارف والاقتصاد السوري، فبدلاً من أن تصرف الحوالات في بنوك النظام أصبحت تُصرف في السوق السوداء، كون سعر الحوالات لدى النظام 435، بينما في السوق السوداء يتجاوز 600 ليرة وهذا يدفع الأشخاص الحاملين للقطع الأجنبي إلى تصريفها في السوق السوداء”.
وأوضح شعبو لموقع تلفزيون سوريا أن “انعدام السياسة النقدية تمثل كذلك في منح البنك المركزي إجازات استيراد والسماح لشركات القطاع الخاص باستيراد النفط، ولبعض الصناعيين بافتتاح مصانعهم، ما اضطر التجار لشراء العملات الأجنبية من السوق السوداء لتمويل عمليات الاستيراد وشراء المواد الخام بعد انسحاب المركزي من تمويلها، كل تلك الإجراءات ساهمت في تراجع قيمة صرف الليرة بعد تراجع الطلب عليها وزيادته على غيرها من العملات”.
وأشار شعبو إلى أن “النظام بات في الغالب يعتمد على الاستيراد فقط، وليس هناك تصدير وهذا يساهم في إحداث خلل في الميزان التجاري، حيث يعتمد فقط على العملة الصعبة لتمويل المستوردات ولا يأتيه في المقابل أي قطع أجنبي لغياب الصادرات، وهذا يؤدي إلى تدني العملة المحلية، كما أن الأسد فقد مقوماته الاقتصادية كالنفط والغاز والسلة الغذائية والقطاع السياحي، فاضطر للاعتماد على مصادر أخرى لتأمين الدخل، كالمخدرات عبر شخصيات سياسية واقتصادية مرتبطة به”.
حلفاء الأسد خارج الخدمة
وفي ظل التدهور الذي أصاب الليرة السورية، يتساءل موالو النظام لماذا لا يبادر حلفاء الأسد (روسيا وإيران) لدعمه اقتصادياً، وحول ذلك قال يونس الكريم: إن “موسكو وطهران لا تسارعان لدعم الأسد بسبب عدم قدرة الأخير على إيفاء الديون المترتبة عليه، إضافةً إلى الفساد ضمن المؤسسات التابعة للنظام، وبالتالي فإن الدعم المقدم لن يحقق الأهداف المرجوة منه، كون رجالات الأسد هي من تستحوذ على تلك الأموال”.
وأضاف الكريم أن “العقوبات الأميركية والأوروبية على إيران وروسيا ساهمت في تحجيم الإمكانيات المتاحة لهما ومنعتهما من دعم الأسد، كما أن حلفاء النظام لم يعد لديهما مصالح يودون تحقيقها مع الأسد بعد حجم التنازلات التي قدمها الأخير لهما، حيث سيطرا على معظم مؤسسات الدولة السورية، وتم تفكيك وإعادة بناء الدولة لصالحهما”.
وأوضح أن “البنك المركزي سعى لضبط سعر الصرف بأدنى رقم ممكن، حتى أصبح الفارق في سعر الصرف بين البنك وسعره في السوق السوداء يصل إلى 100 ليرة سورية، حتى إن المواطنين باتوا بحاجةٍ للحصول على إذن لسحب أرصدتهم من البنك المركزي، ولاسيما بعد أن امتنعت روسيا عن طباعة عملة جديدة للنظام السوري، لذلك بات لدى الأخير نقص في العملة السورية المطبوعة والدولار”.
في حين قال فراس شعبو: إن “الروس والإيرانيين بدؤوا بمرحلة جني الأرباح من سوريا، وتوقفوا عن مساعدة النظام اقتصادياً، لأنهم أيقنوا أن أي مساعدة للأسد لم تساهم في تحسين وضعه، وأن إعادة تعافي الاقتصاد السوري يحتاج لضخ أموال ضخمة، وهذا دفع روسيا إلى تقاسم الثروات مع إيران، من خلال عقود استثمار حقول النفط والفوسفات والموانئ والمطارات والسيطرة على بعض المناطق الاستراتيجية وهذا انعكس سلباً على الوضع الاقتصادي السوري”.
كيف تعود الليرة للتحسّن؟
وفي ظل تعدد الأسباب التي ساهمت في انهيار الليرة السورية، يبقى التساؤل كيف يمكن للنظام إعادة تحسين سعر الليرة، وفي هذا الإطار قال يونس الكريم: إن “النظام يحتاج إلى 4.5 – 5 مليارات دولار لتحسين سعر الليرة، وهو ما يعادل ميزانيتين للحكومة، وهذا الرقم بطبيعة الحال غير متوفر، كما أن الأسد لو حاول التدخل بظروف السوق الحالية، فإن الليرة سوف تتحسن خلال مدة التدخل فقط لتعاود التراجع من جديد”.
وأضاف يونس أنه “لابد أن تتوفر عدة عوامل حتى تعود الليرة السورية كما كانت قبل بدء الثورة، أبرزها توقف الحرب نهائياً، وأن تكون الدولة ذات سيادة وليس مصيرها بيد دول أخرى كروسيا وإيران، وبالتالي الوضع في سوريا يحتاج إلى حكومة انتقالية وحكومة إعمار وحكومة استقرار، عندها يمكن أن تتحسن قيمة الليرة السورية”.
وتوقع يونس أنه “مع ارتفاع سعر الدولار أمام الليرة السورية، سيلجأ النظام إلى رفع قيمة الضرائب المفروضة على المواطنين، ورفع الدعم الجزئي عن بعض السلع الأساسية وهذا يُسبّب عبئاً على الناس، وانخفاض في القدرة الشرائية لدى الليرة نتيجة ارتفاع أسعار السلع، ما يؤدي إلى انتشار الفقر”.
ومع كل تراجع في سعر صرف الليرة السورية يكون المواطن السوري الخاسر الأكبر، وقال أبو سعيد من سكان حي الزاهرة بدمشق: “مجرد أن يرتفع الدولار قليلاً أمام الليرة، تجد أصحاب المحلات والتجار يسارعون إلى رفع أسعار البضائع رغم أن أغلبها محلية وليست مستوردة، لكن حين يتحسّن سعر الليرة السورية فلا تنخفض أسعار السلع، لأن التجار وأصحاب المحلات يدّعون أنهم اشتروا السلع حين كان صرف الدولار مرتفعاً”.
كما عانى السكان في مناطق النظام من امتناع بعض محلات الصرافة عن بيع الدولار، ويرى المحلل الاقتصادي محمد بكور أن ذلك يعود إلى “عدم ثقة تلك المكاتب بأن الليرة ستتحسن مستقبلاً، ومع اتجاه العملة المحلية إلى الانهيار وفق رؤيتهم، تميل تلك المكاتب إلى الاحتفاظ بالدولار وبيعه لاحقاُ حين تنخفض قيمة الليرة أكثر وبالتالي يحققون أرباحاً كبيرة، فضلاً عن رفض مكاتب وشركات الصرافة الشروط المفروضة من المركزي، نتيجة استحواذه على كامل العملات الأجنبية الواردة إلى الشركات من الحوالات، واقتصار أرباحهم على الفرق في سعر الصرف الرسمي بين المبيع والشراء”.
ويفرض النظام على السوريين في الداخل تسلّم حوالاتهم بالليرة السورية وفق السعر الرسمي البالغ 435 ليرة للدولار، كما يفرض على شركات الصرافة تسليم المبالغ الواصلة إليها من الدولار إلى المركزي بسعر 438 ليرة، ما دفع غالبية المُحوّليِنَ من الخارج إلى اختيار الشركات غير المرخصة لتحويلاتهم مع وصول الفارق بين سعر المركزي والسوق السوداء إلى أكثر من 150 ليرة لكل دولار.