تجارة المخدرات وآلية ترويجها دخلت مرحلة جديدة في سوريا
أكثر من 15 طنا في إيطاليا وقبلها 30 مليون حبة في اليونان، وملايين أخرى ضبطتها السلطات الأمنية في مصر والسعودية والأردن وغيرها من الدول، التي باتت وجهة “الكبتاغون السوري” أو ما يسمى بأقراص “أبو هلالين”.
منتجٌ يبدو أن صناعته لم تعد كما في السابق عشوائية ومتفرقة، بل تحولت إلى منظّمة، تديرها شخصيات نافذة، ويقف من ورائها نظام الأسد، وهو ما تؤكده تفاصيل طرق التهريب، عبر البر من الحدود أو البحر من الموانئ السورية التي لا يمكن لأي شخص دخولها أو التجارة عبرها، سواء طرطوس الذي تهيمن عليه روسيا أو ميناء اللاذقية، الذي كانت إيران قد دخلت فيه بعقود استثمارية في السنوات الماضية.
نظام الأسد ليس الوحيد فإلى جانبه “حزب الله” اللبناني، والذي تشير التقارير الأمنية في عدة دول إلى أنه مسؤول أساسي أيضا في صناعة المخدرات، ومن ثم شحنها بطرق مختلفة إلى دول الجوار مع سوريا أو دول بعيدة في القارة الأوروبية، وهنا يحقق هدفا يتعلق بالمبالغ الطائلة التي يجنيها من هكذا تجارة، في مدخول لتمويل عملياته العسكرية والحصول على الأسلحة.
وفي العامين الماضيين كانت هناك تقارير كثيرة أثبتت مصدر الحبوب المخدرة بأنها من جانب نظام الأسد و”حزب الله”، لكن لم يكن هناك شيء مثبت حول المناطق التي تتم فيها عمليات التصنيع والترويج، وبحسب ما قالت ثلاثة مصادر تحدث إليها موقع “الحرة” وقاطع معلوماتها فإن صناعة المخدرات في سوريا باتت منظّمة بشكل كبير، وأصبح لها أسواق ليس للخارج فقط بل للداخل، وعلى جميع مناطق النفوذ.
من العبور إلى بلد التصنيع
لا يخفى على أي سوري أن تهريب المخدرات وآليات ترويجها ليس جديدا على بلادهم، بل يعود الأمر إلى تسعينيات القرن الماضي وقبل ذلك أيضا.
لكن في تلك الفترة لم يكن هناك تصنيعٌ بشكل منظم، بل اقتصر الأمر على عمليات التغليف بطرق سرية، وفيما بعد الشحن إلى وجهات متفرقة، لتكون سوريا بذلك بلد لعبور هذه المواد، والتي كانت تأتي من عدة وجهات سواء من لبنان أو دول أوروبية أيضا من أجل إيصالها إلى منطقة الخليج.
الآلية المذكورة في ترويج وتهريب المخدرات انسحبت على شخصيات نافذة وأخرى غير نافذة من أبناء بعض العشائر، وعلى مختلف المحافظات السورية، أبرزها محافظة حمص التي كانت محطة وسطى لتجار المخدرات، وفيها كانت تتم عمليات التغليف بطرق سرية، في إطارات السيارات أو أقفاص البيض أو حتى ألواح الرخام، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك.
بعد عام 2011 ومع مرور سنوات الصراع المسلح وما تبعها من مناطق نفوذ متفرقة، دخلت تجارة المخدرات وآلية ترويجها مرحلة جديدة في سوريا، ليتم التحول من “بلد العبور” إلى “بلد التصنيع والعبور معا”، وساعد في هذا الأمر مقومات عدة، على رأسها دخول “حزب الله” بشكل رسمي إلى جانب قوات الأسد، وصولا إلى سيطرته على كامل الشريط الحدود بين لبنان وسوريا، من القصير في ريف حمص وصولا إلى جرود القلمون.
بين مرحلتين
محمود علي ضابط برتبة “لواء” منشق عن نظام الأسد، وكان سابقا ضمن ملاك “وزارة الداخلية” يقول في تصريحات لموقع “الحرة” إنه يجب التمييز بين مرحلتين في سوريا، الأولى ما قبل “الحراك” وما بعده.
ويضيف علي أن سوريا قبل الثورة السورية كانت بلد عبور فقط للمواد المخدرة كالكبتاغون والحشيش المخدر الذي كان يزرع في الأراضي اللبنانية، مشيرا إلى أن التهريب كان عبر طريقين: الأول إلى الأردن باتجاه الخليج ومصر، أما الطريق الثاني فكان عبر سوريا باتجاه أوروبا مرورا بالأراضي التركية.
المرحلة الثانية أي ما بعد الثورة اعتبرها اللواء المنشق محطة فاصلة لتجارة المخدرات في سوريا، لتتحول إلى صناعة منظّمة ضمن مصانع وورش، تديرها شخصيات نافذة في نظام الأسد و”حزب الله”، وهو أمرٌ مثبت ويعرفه كل من عمل في السلك الأمني بسوريا.
ويضيف علي أن الانتقال إلى صناعة المخدرات، جاء بعد سيطرة قوات الأسد و”حزب الله” على عدة مناطق في سوريا بعد تهجير المدنيين منها، وكان للفلتان الأمني وتشابك القوى المسيطرة على الأرض عاملا مساعدا لما سبق، بالإضافة إلى غياب الرقابة الدولية التي كانت مشددة على نحو أكثر ما قبل عام 2011.
ورشات بحجم مصانع
لم يتخذ نظام الأسد أي موقف رسمي حتى الآن من الشحنات التي أعلنت دول أوروبية وأخرى عربية ضبطها من مادة “الكبتاغون”، لكنه في ذات الوقت تتجه “وزارة الداخلية” التابعة له بين الفترة والأخرى إلى الإعلان عن ضبط شحنات داخل الأراضي السورية، خاصة في المنطقة الواصلة بين محافظتي السويداء ودرعا.
وحبوب “الكبتاغون” هو الاسم التجاري للفينثيالين، الذي يعتبر من مشتقات مادة “الأمفيتامين” المخدرة والمنبهة للجهاز العصبي، ومعروفة محليا في سوريا باسم أبو هلالين لأن كل حبة منها تحمل رسما لهلالين.
الصناعة المنظّمة للحبوب المخدرة ترتكز على شبكة من المصانع المتفرقة تقع في عدة محافظات سورية، حددتها مصادر مطلعة تحدث إليها موقع “الحرة” بمصنع “ميديكو” في محافظة حمص، ومعمل منطقة البصة في ريف اللاذقية، إلى جانب “معمل التضامن” الذي تديره “الفرقة الرابعة” في قوات الأسد.
وتقول المصادر التي طلبت عدم ذكر اسمها إن عدد المصانع التي تنتج فيها أقراص “الكبتاغون” في سوريا تفوق 15 مصنعا، والبعض منها ينتج أدوية مهدئة أخرى، كالمصانع الواقعة في منطقة حسياء على الطريق الدولي الرابط بين دمشق وحمص.
وتشير المصادر إلى ورشات متوسطة بحجم مصانع وتتبع لـ”حزب الله” اللبناني، وتتوزع بشكل أساسي في منطقة القصير بريف حمص التي لا يسمح لأحد بدخولها حتى الآن، وصولا إلى مناطق القلمون.
ما آلية التصنيع وكيف تتم؟
ربما يحتاج الشرح عن آليات تصنيع الحبوب المخدرة داخل سوريا إلى الحديث مع شخص من داخل المنظومة التي تشرف أو تراقب على هكذا نوع من الأعمال، والتي وحتى الآن تسير في السر، بعيدا عن العلن.
موقع “الحرة” تحدث إلى مروان فرزات وهو صحفي مشارك في التحقيق الأخير عن صناعة المخدرات والاتجار بها في سوريا الذي نشرته صحيفة “دير شبيغل” الألمانية، وكشف أن مصدر المواد المخدرة المهربة إلى إيطاليا مصدرها نظام الأسد “وحزب الله” وليس تنظيم “داعش”.
يقول فرزات بناء على مصادر مطلعة إن عملية تصنيع الكبتاغون في سوريا تتم بعدة مراحل، أبرزها مرحلة الحصول على المواد الأولية اللازمة مثل “الأنفيتامين”، والتي يتم استيرادها من الهند عن طريق معامل الأدوية، سواء الخاصة أو التابعة للحكومة السورية.
وكانت الهيئة الدولية لمراقبة المخدرات قد أعلنت في وقت سابق أن الهند أوقفت شحنة من 24 طنا من حمض الفينيليك (المكون الرئيسي لحبوب الكبتاغون) متجهة إلى سوريا، إذ تخوفت الهيئة من استخدام هذه المادة من قبل أشخاص ومصانع الأدوية لتصنيع الحبوب المخدرة.
وفي عام 2016 أعلنت الهيئة أيضا عن اختفاء كميات كبيرة من المواد الأساسية لتصنيع المخدرات في سوريا، وطلبت توضيح أين اختفت هذه الكميات من قبل السلطات السورية، إلا أنها لم تعط أي رد لغاية الآن.
ويضيف فرزات المقيم في غازي عنتاب، أن بعض المواد الأولية اللازمة لصناعة الحبوب المخدرة يتم استيرادها من روسيا أيضا، وفي بعض الحالات من بولندا، مشيرا إلى أن مصنع البصة في ريف اللاذقية يعتبر من أبرز النقاط المنتجة للكبتاغون، وذلك تحت إشراف وإدارة من قبل شخصيات من عائلة الأسد، على رأسها، سامر الأسد ابن كمال وأخيه أيهم، وأبناء طلال الأسد.
وتتوزع مصانع الحبوب في عدة محافظات سورية في ريف دمشق واللاذقية وحمص، وحسب الصحفي: “هناك ورشات أقل إنتاجا من المصانع الرئيسية، وتتبع لأشخاص نافذين على ارتباط بحزب الله”.
ويوضح فرزات أن تجارة المخدرات في سوريا ليست جديدة، لكن الجديد هو أن التصنيع أصبح داخل الأراضي السورية، بعد أن كانت سابقا في لبنان، مشيرا إلى أن طرق التهريب انحصرت في الأعوام الماضية بيد شخصيات من ثلاث جهات هي: “الحرس الجمهوري”، “الفرقة الرابعة”، “حزب الله”، وفيما بعد يتم نقل المنتج المخدر عبر البحر من ميناء اللاذقية، أو برا عبر معبر نصيب الحدودي، أو تجاه تركيا، التي تعتبر منطقة ترانزيت.
بـ “جودة عالية للخارج”
ما تحدث عنه الصحفي مروان فرزات أكده مدير تحرير موقع “صوت العاصمة”، أحمد عبيد، والذي يتركز عمل الموقع الذي يديره على تغطية الأخبار الخاصة بالعاصمة دمشق، وإعداد التحقيقات من داخلها، سواء الأمنية أو الإنسانية.
يقول عبيد في تصريحات لموقع “الحرة” إن المواد الأولية التي يحتاجها تجار المخدرات وصانعوها في سوريا هي في الغالب ما تكون لتصنيع العقاقير الطبية، وتدخل إما من الخارج، عبر وسطاء سوريين، أو عبر “حزب الله” من الأراضي اللبنانية.
ويضيف عبيد أن “الفرقة الرابعة” و”حزب الله” يعتبران شركاء في الإتجار بالمخدرات في معظم الصفقات، وهم المسؤولون المباشرون عن عمليات التصنيع في محيط دمشق، وإلى جانبهم هناك شخصيات من آل الأسد يتولون مسألة التصنيع في الساحل السوري، بشكل مستقل.
وتنتشر المخدرات في معظم المحافظات السورية وتُباع عبر وسطاء يعملون في مجال بيع المخدرات والحشيش والهروين، حسب مدير الموقع السوري الذي يشير إلى أن “هيئة مكافحة المخدرات تضبط دوريا بعض الأشخاص بتهم الاتجار، وغالبا من يكونون من صغار الموزعين، بعيدا عن أي تاجر أو مروج كبير”.
ولفت عبيد خلال حديثه إلى نقطة هامة تتعلق برواج المخدرات في الداخل السوري، وخاصة في مدينة دمشق، قائلا: “الأكشاك ومواقع بيع الشاي والقهوة المتنقلة في دمشق باتت مصدرا أساسيا للحبوب. بالطبع ليس جميعها لكن معظم النقاط تكون على هذه الشاكلة”.
ويختلف الإتجار الداخلي عن الخارجي، ولذلك شخصيات محددة ومسؤولين عن تلك العمليات، ويتابع عبيد: “عادة ما تكون الأصناف المعدة للتصدير الخارجي ذات جودة عالية، على خلاف ما يتم ترويجه في السوق المحلية”.
ويشير “يمكن وصف عمليات البيع الداخلية والخارجية على أنها على شكل شبكة كاملة تعمل على تصنيع وترويج الحبوب في سوريا ولبنان وإلى الخارج”.
موارد تفوق موازنة سوريا
بالنظر إلى القيمة المالية للمواد المخدرة التي يتم تهريبها يلاحظ أنها تحسب بمليارات الدولارات، وفي إيطاليا على سبيل المثال بلغت قيمة الشحنة مليار دولار، وقبلها في اليونان بـ 660 مليون دولار، الأمر الذي يفتح باب تساؤلات عن الحجم الذي تمثله هذه التجارة وعمليات التصنيع لصالح نظام الأسد و”حزب الله”.
الخبير والمحلل الاقتصادي السوري، يونس الكريم أشار إلى أن إصرار “حزب الله” على السيطرة على المناطق الحدودية بين سوريا ولبنان وخاصة القصير والزبداني، كان المراد منها تحويل هذه المناطق إلى مركز تصنيع وترويج للحبوب المخدرة والحشيش.
ويقول الكريم في تصريحات لموقع “الحرة”: “اتجاه حزب الله إلى سوريا للتصنيع، جاء بعد أن باتت الدولة اللبنانية في موقف محرج، لذلك كان لابد من البحث عن بديل، لنقل التجارة إلى سوريا، من أجل العمل بشكل آمن”.
ويضيف الخبير الاقتصادي إلى أن الانفلات الأمني في سوريا على مدار السنوات الماضية ساهم في رواج تصنيع وتجارة المخدرات، ويشير إلى أن أسواق متعددة لهذه التجارة باتت تشهدها سوريا وتعيشها في غالبية المحافظات، ولا تقتصر على حبوب “الكبتاغون” بل على “الكوكائين” الذي يشتهر به الروس، و”الهروين” الخاص بالميليشيات الأفغانية.
ومن وجهة نظر الخبير الاقتصادي، فإن تجارة المخدرات تمثل بالنسبة لنظام الأسد و”حزب الله” مصادر تمويل سريعة، وتأتي في الوقت الذي يتعرض له الطرفان لعقوبات أميركية وأوروبية، أدت إلى فقدان القدرة الشرائية وانهيار سعر صرف العملة.
واعتبر الكريم أن الكميات المنتجة التي يتم ضبطها بين الفترة والأخرى من الحبوب لا يمكن أن تنتجها ورشة صغيرة، بل يحتاج الأمر لمعامل، وتقنيات خاصة بالتصنيع والتخزين، وإلى ظروف هادئة وعمل منظم.
وحتى اليوم لا يمكن تقدير حجم مالي حقيقي لتجارة المخدرات في سوريا، ويرى الكريم أن ما يمكن تقديره هو أن الشحنات التي يتم ضبطها تتجاوز الموازنة السورية، التي تتحدد في بضعة مليارات.