اقتصادي – خاص:
تتزايد المخاوف من احتمال شن روسيا لحرب على أوكرانيا التي إن حدثت، ستنعكس تبعاتها على الاقتصاد العالمي ككل وبقطاعاته المختلفة، سواء الطاقة أو الغذاء وحتى أسواق الأسهم.
ولأن روسيا الأولى عالمياً من حيث تصدير القمح بنحو 37.3 مليون طن وأوكرانيا الرابعة بـ1.8 مليون طن، فإن الأمن الغذائي العالمي مهدد، وتسهم صادرات الدولتين من الطاقة ومكونات السلة الغذائية في ضبط الأسعار عالمياً، إلا أن ذلك لن يجعل تأثير الحرب، إن وقعت، مباشراً على العالم العربي، بل سيعاني من آثار متوسطة و بعيدة المدى تحددها بدقة سيناريوهات الحرب ومدتها.
ويتفاوت تأثر الدول العربية بالحرب في أوكرانيا تبعاً للوضع الاقتصادي لتلك الدول، فدول الخليج الغنية، ستكون أقدر على مواجهة نتائجها وتحمّل آثارها لعدة أسباب، منها:
• تمتلك أمناً غذائياً مغطى بعقود استهلاك لمدة 6-12 شهر، إضافة لاستثمارات واتفاقات اقتصادية زراعية خارجية، مع كل من استراليا والسودان وسيرلانكا والجزائر ولبنان وكمبوديا وصربيا ورومانيا ودول أخرى كثيرة.
وبدأت دول الخليج باتباع هذه الاستراتيجية منذ 2007-2008 بعد ارتفاع وتذبذب أسعار الغذاء، وبعد تجربة حصار قطر وأزمة مضيق هرمز وقيود كورونا التي منحت الخليج خبرة في إدارة ملف الأمن الغذائي.
• استثمارات كبيرة من الصناديق السيادية للخليج في مجال البنى التحتية الزراعية وشركات الأغذية بعضها في أوكرانيا، ولا خوف عليها لأن لديها تأمين زراعي من شركات عالمية، كما أن الأطراف المتصارعة سوف تأخذ بالحسبان مصالح الدول ومنهم الخليج اللاعب الأبرز بأسواق المال والطاقة.
• تحصل دول الخليج مع استمرار ارتفاع أسعار الطاقة في العالم نتيجة الحرب المتوقعة، على سيولة تمكنها من تغطية العجز في أسعار السلع من جهة، ومن جهة أخرى قد تكون أسعار السلع فيها، كونها دول منتجة للنفط والغاز، منخفضة مقارنة بدول ثانية، غير منتجة للطاقة والتي تضاف فيها تكاليف النقل المقدرة بـ 40% على أسعار السلع والمنتجات كافة.
• يمكن لدول الخليج، تطبيق الحد من الهدر الغذائي وتخفيضه إلى 15% كون هذه البلدان تعتبر الأكثر هدراً للغذاء بنسبة تتجاوز 30%، حسب منظمة الغذاء والزراعة (الفاو).
وعلى نقيض دول الخليج، تفتقر معظم الدول العربية الاخرى التي تعتبر دول فقيرة ومتوسطة الدخل لسياسات أمن غذائي تحميها من تبعات الحرب، خاصة وأن بعضها خرج مؤخراً من حروب وانقلابات وثورات وازمات متلاحقة، لم تسمح لها بوضع خطط لمواجهة الطوارئ سواء كانت مالية أم غذائية.
وتعتمد هذه الدول بشكل رئيسي على المساعدات وتتحمل صعوبات اقتصادية نتيجة بدئها بتحرير الأسعار بغية تخفيف العجز بميزانياتها للحصول على تمويل لمشاريع البنية التحتية، إضافة إلى أنها تعاني من الفساد في دوائر القرار كما يحدث في مصر واليمن وسوريا والمغرب والجزائر ولبنان وليبيا.
وستعاني هذه الدول في حال حدوث الحرب في أوكرانيا، من انخفاض الدعم الدولي المالي والغذائي، ما سيزيد من الضرائب فيها ويرفع نسبة الفسادـ
لكن علينا الإشارة إلى أن تبعات الحرب لن تبدأ قبل 6 أشهر على الأقل، وهي فترة انخفاض المخزونات لدى تلك الدول، أي أن الآثار على العقود الآجلة.
وعلى صعيد المواطنين، سوف يغير سكان تلك الدول من أولوياتهم نتيجة ارتفاع الاسعار وقلة السلع فلا خيارات لديهم، ومثال على ذلك ما يحدث في سوريا حالياً، حيث يعيش بعض السكان على رغيف خبز لكل فرد لا يزيد وزنه عن ٧٥ غ وساعة كهرباء واحدة في اليوم.
لكن لابد من الاشارة ان لشبح قيام الحرب خارج العالم العربي، ستكون له آثار قويّة في دول مثل إيران التي تعاني من ازمة مياه جعلت موسم القمح الماضي سيء ومن المتوقع أنها مع بداية شهر نيسان تبدأ باستيراد ٨ مليون طن من القمح لتكون اكبر مستورد للمادة، مما يعرضها، في حال عدم موافقتها على الاتفاق النووي والعودة الى انتاج النفط والحصول على ملياراتها المجمدة، لمزيد من التردي في الوضع الأمني، بسبب ارتفاع أسعار القمح الذي يتوقع أن يصل سعره للضعف، فالأسعار سوف تزاد نتيجة الزيادة بالطلب، مع خوف دول من بيع محاصيلها كفرنسا واستراليا ودول اوربية والهند وكازخستان وغيرها من المنتجين.
لكن ورغم ذلك، السيناريو ليس بهذا السوء، حيث توجد دول كثيرة تبيع القمح لأن التخزين مكلف وغير متوفر وتريد هذه الدول الاستفادة من أي وفرة للأسعار، كما أنها بعيدة بشكل أو آخر عن ساحة الحرب.
إضافة إلى ذلك، هناك ضمن دول الصراع في الحرب الأوكرانية، مصادر تبيع القمح لشركات ستعتبر وقت الحرب “صومعة الجياع” القادرين على الدفع فهي تستطيع اختراق خطوط الحرب والتوتر واختراق سلاسل التوريد وايصال الشحنات للراغبين.
ومثال على ذلك، ما حدث مع مصر عندما عرضت مناقصة لتزويدها بالقمح فتقدمت 17 شركة على غير العادة، علماً أنها تستورد 80% من احتياجاتها بين 50% من روسيا و30% من أوكرانيا، لأسباب تتعلق بالبنية التحتية للزراعة ومشكلة مياه نهر النيل والتخزين ويقدم القطاع الخاص 50% من الاحتياجات.
وتنبهت مصر لمشكلة القمح منذ عدة سنوات وعمدت إلى تطوير البنية التحتية بالنقل والتخزين، كما يتوقع ان تنخفض احتياجاتها الاستيرادية للنصف خلال العامين القادمين نتيجة تطوير البنى التحتية لزراعة القمح فيها عبر شركات فرنسية ودولية.
وفي سوريا، استطاعت قسد وبعض التجار جمع أكثر من مليون طن من القمح وهو معروض للبيع بالسعر العالمي لنظام الأسد ولمواطني مناطق الإدارة الذاتية، علماً أن سوريا ودول أخرى مثل اليمن ولبنان وليبيا تعاني مشاكل مركبة بموضوع الأمن الغذائي كمنعكس للمشاكل السياسية والعسكرية، وبالتالي يرتبط الأمن الغذائي بأثرياء البلد، وهو متوفر للقادرين على الدفع، وليس تخطيط على مستوى الدولة وستكون هناك شركات قادرة على تلبية هذا الطلب.
أما المغرب الذي يستورد من أوكرانيا 35% من احتياجاته وهي نسبة ليست بالخطيرة لتحريك الشارع مثلاً، إضافة إلى أن لديه مصادر أخرى بديلة مثل فرنسا واسبانيا، وهي تقريباً ذات مصادر الجزائر التي تعتمد أساساً على فرنسا.
وبالنسبة لأستراليا وأمريكا وشرق آسيا والهند، فإن المشكلة الأساسية التي ستعاني منها تكمن بارتفاع تكاليف الشحن بالدرجة الأولى وهي قادرة على تزويد الدول والشركات القادرة على الدفع.
السيناريو أعلاه يحتاج نحو 6 أشهر ليظهر بعد بدء الحرب إن حدثت، ولا بد من التذكير هنا أن حصاد محاصيل القمح الربيعي بالعالم العربي يمنحه أشهر إضافية للمناورة لمعرفة اتجاه الصراع، كما أن الدول العربية سواء في الشرق الأوسط أو شمال إفريقيا تتجه نحو تحرير الأسعار وتخفيف العجز عن موازناتها بتخفيض الدعم، وتتجه لمنح القمح للقطاع الخاص، نتيجة العجز بميزانياتها بسبب النظرة التفاؤلية بإمكانيات هذه الدول لتجاوز تبعات الحرب، وتأمين مصادر التمويل.
إن الخطر الحقيقي هو استمرار “المنطقة الرمادية” وعدم الجزم بنشوب الحرب من عدمه إلى ما بعد شهر فبراير، ما سيؤدي إلى تلاشي السيناريو المطروح أعلاه، ويزيد المخاوف من انهيار الأنظمة السياسية مدفوعة بانهيار الاقتصاد في جميع الدول الغنية والفقيرة على السواء، فاستمرار المناوشات يقود إلى استمرار ارتفاع الأسعار، ما يجعل التصدير غير مجد في ظل الخوف من تحول التوتر إلى حرب، وبالتالي تتحول الأموال والأسهم إلى أمور ثانوية مقارنة بالغذاء والاستثمار بالغذاء.
ان المنطقة الرمادية تشكل منطقة الاضطراب في البورصات مع محاولات دول كثيرة السيطرة على الأصول المالية للشركات وصناديق الاستثمار، بهدف تأمين التمويل لشراء السلع لمواطنيها او استغلال الوضع المضطرب للتخلص منهم.
هذا السيناريو، المنطقة رمادية، سينتهي مع حلول موعد التجهيز لموسم حصاد القمح في روسيا وأوكرانيا وربما قبله بشهرين أي في حزيران.
سيصبح الاهتمام بالأمن الغذائي الروسي أولوية على الحرب تلافياً لعقدة انهيار الاتحاد السوفيتي بسبب الجانب الاقتصادي، فتصبح تلبية الزبائن وتنفيذ العقود أولوية لروسيا وأوكرانيا، وإلا ستتحول كلا الدولتين إلى شريك غير موثوق وتخرج تدريجياً من دائرة التعاملات التجارية، لينتهي الأمر بانهيار اقتصادهما.
أما في سيناريو الحرب، لن يبحث العالم عن القمح، بل سيبحث عما يؤكل، وعن النجاة لا أكثر.