اقتصادي – خاص:
تسارعت التصريحات التركية بشكل غير مسبوق بعد لقاء بين وزراء دفاع تركيا و النظام السوري برعاية وزير الدفاع الروسي، بعد قطيعة دامت 11 عاماً في موسكو، تجاه رئيس النظام بشار الأسد المُتّهم صراحةً من قبل الولايات المتحدة بتزعم تجارة المخدرات التي تغرق بها المنطقة، عبر القانون الأميركي الأخير المدعوم غربياً.
ويُفسر خبراء التصريحات التركية المتهافتة بأنها محاولة من قبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لإنقاذ مستقبله السياسي، بعد تسريبات صحفية من إعلام النظام تحدثت أن حليفه الروسي هو من يضغط عليه لإتمام الصفقة، وذلك بسبب الرغبة الروسية بالمحافظة على الحكومة التركية الحالية الداعمة لموسكو، خلال الانتخابات الرئاسية التركية في 23 حزيران/يونيو.
وبحسب التسريبات، فإن الدعم الروسي لأردوغان يأتي مدفوعاً باحتمالية أن تحمل الانتخابات التركية رئيساً تركياً جديداً بميول غريبة، يحكم حصار الدول الغربية المفروض على موسكو، إضافة إلى أن التطبيع التركي مع الأسد، يُمكّن الرئيس التركي من سحب ورقة مهمة من البرنامج الانتخابي للمعارضة.
لكن هذا التفسير، يُهمل الواقع الاقتصادي الذي تقبع خلفه مخاوف الشارع التركي الذي ناصر أردوغان بمواقف كثيرة ضد خصومه السياسيين المحليين والدوليين، إذ يعتبر الأتراك أن الملف السوري ليس إنسانياُ وحسب، بل اقتصادي أيضاً.
وحذّر صناعيون ورجال أعمال أتراك من أن انسحاب السوريون من السوق التركية سوف يزيد من تدهور الواقع الاقتصادي، سواء بفقدان الأيدي العاملة الماهرة الرخيصة، مثلما حذّر عضو جمعية رجال الأعمال المستقلين الأتراك (موصياد) علاء الدين شنجولر(Alaeddin Şengüler)، أو أن يتزامن خروجهم بفقدان كتلة مالية ضخمة يمتلكونها تُقدّر بـ 10 مليارات دولار موزعة على 20 ألف شركة صغيرة ومتوسطة الحجم، أسهمت بتشغيل 500 ألف عامل من ضمنهم أتراك، إضافة إلى إسهامهم بثلاثة مليارات دولار أمريكي من الصادرات التركية إلى أكثر من 50 دولة، وفق ما جاء في تقرير نشرته صحيفة (Takvim) التركية في أيار/مايو الماضي.
كما أن الخوف يطال أيضاً المساعدات الدولية المختلفة التي تحصل عليها تركيا، والتي بلغت 3.34 مليار دولار خلال العام 2021، فضلاً عن المساعدات الغربية الأخرى المقدمة للشعب التركي وفق برامج الأمريكية والأوربية للدول الحليفة لها، على اعتبار تركيا حليف لسياساتهم بالمنطقة.
إضافة إلى ذلك، فإن تغيّر موقف تركيا من القضية السورية دون توافق دولي عام عبر مظلة الأمم المتحدة قد يقود إلى إخراج أنقرة من الساحة الدولية كلاعب دولي، وذلك تحت اعتبار أن أدوات القوة الناعمة التي بنت نفوذ تركيا الدولي كان عنوانها الأبرز مساعدة الدول والشعوب الفقيرة والإصرار على تطبيق القانون الدولي بالصراعات الدولية، مما أعطاها أصوات داعمة لها بالمحافل الدولية، وهذا يعلمه صنّاع القرار في أنقرة، بينما تفتقد دول قوية مثل البرازيل وحتى إقليمية مثل مصر لهذا النوع من القوة الناعمة.
لذا، فإن قبول تركيا بصفقة التطبيع مع نظام الأسد والارتماء عليها بهذه الطريقة، يمكن تفسيره على أنه نتيجة فشل سياسة الرئيس أردوغان تجاه الخليج، إذ أنه فشل بالمصالحة مع الإمارات، حيث أنتجت زيارة ولي العهد أبو ظبي حينها محمد بن زايد إلى إسطنبول، إنشاء صندوق بقيمة 10 مليارات دولار تستثمر بالتكنولوجيا والصحة والصناعات المتقدمة، وتأثير مثل هذه الاستثمارات على الاقتصاد التركي يكون بالأمد وبالتالي، لا يُقدم أي إنقاذ سريع للاقتصاد الذي يٌستنزف.
كما أن المصالحة مع السعودية اِقْتِصَادِيًّا لم يسر كما ترغب السفن التركية، إذ اقتصرت على وديعة بقيمة 5 مليارات دولار، وهو أقل مما كان يأمله أردوغان لإنقاذ اقتصاده الذي انهارت فيه الاحتياطيات الأجنبية، وبلغت نسب التضخم فيه ٨٥ %، فضلاً عن كون الوديعة لم تسر بالسلاسة التي تقدمها المملكة العربية السعودية عادة لمن ترغب بالتوافق معها، فقد استغرقت الوديعة 5 أشهر من الوقت لوضع اللمسات الأخيرة لها !.
وجاءت الصدمة الأكبر لفشل سياسة الرئيس أردوغان مع الخليج من قطر، الذي دعم مواقفها ضد الخليج، فعلى الرغم من الفوائض المالية الضخمة لديها نتيجة ارتفاع اسعار الغاز عالميًا، لم يتجاوز إجمالي استثمارات قطر في تركيا خلال العام الماضي الـ10.3 مليار دولار فقط، منها 3 مليار استثمارات مباشرة.
وتكمن مشكلة هذه المساعدات سواء القطرية أو الخليجية عموماً، بأنها استثمارات مالية على شكل قروض(ديون) كودائع أو ما تسمى استثمارات بالسندات، مع تجنب الاستثمار الحقيقي الذي يميز الاقتصاد التركي والذي يعاني من أزمات بالسيولة، بينما يقود التسويق عجلة الاقتصاد.
أما التحليل القائم على أن تركيا تريد من التطبيع مع الأسد، أن تستخدم الطريق البري للوصول إلى السوق الخليجية، فهو تحليل عفا عليه الزمن، لأن سوريا يعد بلداً منهار البنى التحتية، ويعاني من شح بالمحروقات، فضلاً عن وجود مليشيات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية بدمشق، لكنها تابعة لها صورياً مثل “الفرقة الرابعة” و”لواء القدس” ، “الدفاع الوطني” و “المهام الخاصة” ، أو تلك التابعة للحليف الإيراني مثل “الحرس الثوري” و”حزب الله” اللبناني والمليشيات العراقية الشيعية، والتي تتجاوز في الحالتين جيش النظام الرسمي عديداً وعتاداً على الطرق البرية.
وعليه، فإن كل ذلك يجعل هذه الطرق بحاجة إلى حماية مستمرة، وبالتالي تزداد الكلفة الاقتصادية، كما أنها قد تتطلب تدخلاً تركيا بالعمق السوري لحمايتها مع انشغال روسيا بحربها في أوكرانيا، وهو أمرٌ لن يقبله الأسد وكذلك حلفاؤه الإيرانيون وحتى الدول العربية والغربية، ولا حتى الغرب الذي يسعى إلى تحجيم التدخل التركي في سوريا.
وفي حال تجاوز كل ذلك، فإن الحدود من الجانب الأردني والخليج مغلقة بفعل قانون الكبتاغون الأمريكي، كما أن الطلب الخليجي على منتجات تركيا لم يعد كما كمان، نتيجة منافسة منتجات من مصادر أخرى وعدم تشجيع الحكومات الخليجية لتلك البضائع..
وفي مسألة “قسد” التي يشير إليها بعض الخبراء كدافع رئيسي وراء سياسية أردوغان نحو التطبيع مع الأسد، سيكون النظام السوري هو الرابح وليس الساسة الأتراك، لأن إخراج “قسد” من المعادلة يمنح النظام نفوذاً على منابع النفط والغاز والحبوب، ويضعف التواجد الأمريكي والغربي، وهو ما يحتاجه النظام بهذه المرحلة لهيكلة بنيته وإعادة ترتيب أوراقه.
وفي هذه الأثناء، سيعيد “حزب العمال الكردستاني” المعروف اختصارًا PKK توحيد كوادره التي انقسمت بسبب مشروع “قسد”، ويعود إلى العمل المسلح من جبال قنديل، مستفيداً من التدريبات والأسلحة والأموال التي حصل عليها خلال شراكته مع التحالف الدولي، علماً أن تركيا أنها لم تنجح بإنهاء نفوذ حزب العمال الكردستاني PKKوتهديداته لها، على مدار أربعين عاماً.
كما أن هذا التحليل لا يراعي العلاقة العضوية لحزب العمال الكردستاني المعروف PKK مع نظام الأسد من خلال جميل بابيك، إضافة إلى أن حصول تركيا على تعديل اتفاقية أضنة لتصبح ٣٠ كيلو متراً داخل الأراضي السورية، هو شرط لن يقبل به الأسد، وإن قبل فهو اعتراف من أردوغان بسيطرة الأسد وشرعيته مما سيفتح المجال للأسد لدخول معارك تعويضية مع السياسة التركية لتحميلها أزمات سوريا الاقتصادية.
إضافة إلى ذلك، فإن أردوغان سيصبح بمواجهة مع القانون الأمريكي باختراقه قانون قيصر، وحتى إعادة الإعمار التي يتم تداولها بواسطة شركات تركية، لا يمكن تنفيذها إلا ببعض المدن الداخلية التي لا جدوى اقتصادية حقيقة من إطلاق إعادة إعمارها، لأن معظم العقود الأساسية تم توقيعها مع حلفاء النظام وعند تنازلهم عنها لا بد من مقايضته بثمن فمن سوف يدفع الثمن؟
دون أن ننسى أن الغرب الممول الرئيسي لإعادة الاعمار صرح أنه لا تعامل مع الأسد ولا تعامل مع النظام بهيكليته الحالية، وبالتالي لا انطلاق عمليات إعمار، كذلك الدول الخليجية ورغم الفوائض المالية لديها، إلا أن اقتصاداتها بدأت تمتص هذه الفوائض، مع تغير شكل الاقتصاد والسياسية فيها.
ماذا يريد أردوغان من محاولة تعويم الأسد؟
إنه ببساطة يسلك سلوك اليائس لإنقاذ اقتصاده بعد أن وجد نفسه بدون حلفاء (الناتو) ولا أصدقاء (قطر ودول الخليج)، باستثناء روسيا التي أبقت على دور كبير له بالساحة الدولية، رغم دعم أردوغان لأوكرانيا بمسيرات “بيرقدار” التي شكلت علامة فارقة بسير المعارك.
فقد منحت روسيا، أردوغان دوراً دولياً لتنفيذ اتفاق شحن الحبوب المتوقفة بالموانئ الأوكرانية على أن يتم التفتيش من خلال القوات التركية، إضافة إلى إعطاء روسيا الموافقة لتوقيع اتفاق توريد الغاز المسال إلى بلغاريا، وارتفاع صادرات موسكو إلى تركيا 50 مرة خلال الأشهر ال7 الأولى من عمر الغزو الروسي لأوكرانيا، حتى الأموال الروسية كانت تركيا محطة مهمة لها.
وبحسب ما أوضح مصدر مطلع لموقع “اقتصادي” بداية غزو أوكرانيا، فإن هدف روسيا من رعاية الاتفاق بين تركيا والأسد يعود إلى نيّة موسكو تحويل سوريا لمنصة اقتصادية وعسكرية روسيّة بالمياه الدافئة وهو ما يعني قوة للسيطرة على الملف الليبي الذي يبدو أن تركيا وروسيا قد توافقتا على إعلان وقف إطلاق نار هناك، إضافة إلى أن أنقرة سوف تدعم موقف روسيا بالجرف القاري التركي-اليوناني الذي يشكل بوابة روسيا جديدة على حدود أوروبا.
لذا يجد أردوغان أن هذه المقايضة عادلة، وفي سبيل الإبقاء على القوة الناعمة، فإنه يصر على تنفيذ الاتفاق مع الأسد وفق 2254، ويصرّ على عودة اللاجئين إلى ديارهم من مبدأ تلك القوة، لكنه أيضًا يعلم أن الأسد غير قادر على الموافقة نتيجة بناء خطط اقتصادية وتصرف بملكيات المهجرين مع حلفائه، وإعادتهم تعني اعترافا بشرعية المعارضة ومطالبهم.
وبناءّ عليه، سيكون هذا الرفض هو الحبل الذي سوف يناور به الرئيس أردوغان واشنطن وموسكو معاً، وستقف حدود التفاوض معهما على إنشاء مدن ضمن 30 كم بمناطق المعارضة تكون أشبه بغزة صغيرة تعطى لها فدرالية إدارية ينافس أبنائها للعودة إما إلى مناطق النظام أو الهروب من جحيمها إلى إحدى الدول.
لكن يبقى السؤال هو ما مدى جدية القوانين التي أقرتها الإدارة الأمريكية؟، ومدى جدية المعارضة السورية بالمحاربة للخروج من بوتقة كبش الفداء؟ ومدى جدية كل من تركيا والنظام بالتقارب في ضوء الظروف الحالية؟