شكّل الزلزال الذي ضرب شمال سوريا وجنوب تركيا في 6 فبراير/شباط 2023، نافذة جديدة يطل بها نظام الأسد على العالم، الذي أغلق باب التعامل معه وفرض عقوبات قاسية عليه منذ عام 2011 عقب قمع ثورة الشعب.
وأمام حجم الكارثة الكبيرة التي خلفها الزلزال البالغة قوته 7,8 درجات على مقياس ريختر، في مناطق شمال غربي سوريا الخاضعة للمعارضة وفي مناطق النظام بريفي حلب واللاذقية، باتت تلك العقوبات هي العائق الأكبر أمام وصول المساعدات للمنكوبين.
تخفيف العقوبات
ومن أجل ذلك، لجأت دول أوروبية وغربية وحتى الولايات المتحدة، للإعلان عن تخفيف العقوبات على نظام بشار الأسد، طالما تطلب تنفيذ الأنشطة الإنسانية أو توفير المساعدات للمدنيين في سوريا إجراء تغييرات في شروط تلك العقوبات.
لكن هذا الباب الغربي الذي فتح فجأة في وجه نظام الأسد، وضع الغرب تحت خيارات يراها المراقبون أنها ستصب في صالح النظام المنهار اقتصاديا والباحث عن أي خيط رفيع يعيد التعامل الدولي معه من جديد وكسر حالة الجمود السياسية الحاصلة.
وبحسب تقرير أصدرته “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” المعارضة في 28 فبراير/شباط 2023، فإن الزلزال أسفر عن مقتل 2534 في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، بينما قتل 394 في مناطق سيطرته.
وللمفارقة، فإن الضرر الأكبر والدمار جراء الزلزال وقع في مناطق المعارضة السورية، حيث شرد نحو مليون شخص، من أصل 5 ملايين يعيشون في ريفي حلب وإدلب، بينما دمر بشكل كلي 1123 منزلا هناك، وبلغ عدد المنازل غير الصالحة للسكن بسبب الزلزال نحو 14 ألفا.
ورغم ذلك، فقد قررت سويسرا في 3 مارس/آذار 2023، تخفيف عقوباتها على النظام السوري لتسهيل إيصال المساعدات الإنسانية خصوصا لمتضرري الزلزال.
ويمكن للمنظمات الإنسانية التي تتلقى أموالا من الاتحاد السويسري لأنشطتها على الأراضي السورية أن تحصل على إعفاءات من العقوبات لتقديم المساعدات الإنسانية ودعم المدنيين.
وأوضحت الحكومة السويسرية في بيان أنها قررت توسيع “الاستثناءات الإنسانية من أجل تسهيل الأنشطة الإنسانية في سوريا، ولا سيما الاستجابة الإنسانية لزلزال”، من دون تحديد مدة الإجراء.
وبذلك الإجراء الجديد، أصبحت سويسرا تسمح “بالتوريد، المباشر وغير المباشر، للأصول والموارد الاقتصادية للأشخاص والكيانات والشركات الخاضعة للعقوبات من الجهات الفاعلة الإنسانية التي تحصل على أموال من الاتحاد”.
أما بالنسبة “للجهات الفاعلة الإنسانية” التي لا تتلقى مساهمات من الاتحاد السويسري، فقد جرى وضع مخطط لمنحها تصاريح استثنائية لتوفير الموارد الاقتصادية للأشخاص والشركات والكيانات الخاضعة للعقوبات “طالما تطلب تنفيذ الأنشطة الإنسانية أو توفير المساعدات للمدنيين في سوريا”.
إعفاءات أوروبية
وتضاف الخطوة السويسرية أعلاه، لإجراءات مماثلة اتخذتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بحق النظام السوري عقب وقوع الزلزال.
وأعلن الاتحاد الأوروبي في 23 فبراير/شباط 2023، تخفيفا مؤقتا للعقوبات المفروضة على نظام الأسد؛ من أجل تسهيل إيصال المساعدات إلى هذا البلد المتضرر من الزلزال.
وقال المجلس الأوروبي، في بيان، إن المنظمات الإنسانية لن تحتاج مدة ستة أشهر إلى حصول على إذن مسبق من الدول الأعضاء في الاتحاد لإرسال مواد أو تقديم خدمات للكيانات الخاضعة لعقوبات التكتل.
وجاء هذا الإجراء “نظرا إلى خطورة الأزمة الإنسانية في سوريا والتي تفاقمت بفعل الزلزال”، وفق ما جاء في البيان.
وبعد الزلزال، قدم الاتحاد الأوروبي 3,5 ملايين يورو للمساهمة في تلبية الاحتياجات الإنسانية العاجلة في سوريا.
وتعقد عقوبات الاتحاد الأوروبي التي فرضت عام 2011 على نظام الأسد واستهدفت 291 فردا و70 كيانا وتشمل تجميد الأصول وحظر السفر، منح مساهمات أوروبية في مجال المساعدات الإنسانية.
لكن التغيير الذي جرى إجراؤه من التكتل الأوروبي يعني أن “الاتحاد قد أعفى المنظمات الإنسانية من السعي للحصول على إذن مسبق (…) من الدول الأعضاء لإجراء عمليات نقل أو توريد السلع والخدمات المخصصة للأغراض الإنسانية إلى الأشخاص والكيانات المدرجة في القائمة”، وفق البيان.
كما أصدرت وزارة الخزانة الأميركية بيانا في 10 فبراير/شباط 2023، حمل “الترخيص السوري العام GL 23“، الذي يسمح بجميع المعاملات المتعلقة بالإغاثة من الزلزال لمدة 180 يوما (ستة أشهر)، والتي كانت محظورة بموجب لوائح العقوبات المفروضة على النظام.
وشدد البيان، على أن “برامج العقوبات الأميركية لا يستهدف المساعدة الإنسانية المشروعة، بما في ذلك جهود الإغاثة في حالات الكوارث”.
وتابع: “لدى حكومة الولايات المتحدة العديد من التراخيص العامة المعمول بها، والتي تسمح بمعظم الأنشطة لدعم المساعدة الإنسانية، بما في ذلك بالمناطق التي يسيطر عليها النظام السوري، والتي تقدمها الأمم المتحدة أو الحكومة الأميركية أو المنظمات غير الحكومية التي تشارك في معاملات لدعم بعض الأنشطة غير الهادفة للربح”.
كما أن القرار الأميركي لا يسمح بأي معاملات تجارية مرتبطة بأشخاص مشمولين بنظام العقوبات ضد النظام السوري، بينما يشمل المنظمات غير الحكومية والمنظمات الدولية وحكومة الولايات المتحدة.
انفتاح على الأسد
وبحسب مدير دائرة الشرق الأوسط في البنك الدولي، جان كريستوف كاريه، فإن أضرار الزلزال في أربع محافظات سورية يقيم فيها 10 ملايين شخص بينهم العديد من النازحين داخليا، يقدر بنحو 5,1 مليارات دولار.
وألحق الزلزال دمارا هائلا في مناطق واسعة من محافظات حلب (شمال) وإدلب (شمال غرب)، وحماة (وسط) واللاذقية وطرطوس (غرب).
وكان وزير المالية والاقتصاد في الحكومة السورية المؤقتة (المعارضة)، عبدالحكيم حسين المصري، أكد في حوار مع “الاستقلال”، أن حجم
الخسائر الاقتصادية في مناطق المعارضة شمال غربي سوريا، التي خلفها الزلزال تتجاوز 100 مليون دولار.
وبحسب الأمم المتحدة، تأثر 8,8 ملايين شخص في سوريا بالزلزال، وتحولت مدارس عدة في المناطق المتضررة إلى مراكز إيواء للسكان الذين تضررت منازلهم أو تهدمت بفعل الزلزال الذي ألحق دمارا ببعض البنى التحتية، لا سيما خدمات المياه والصرف الصحي المتضررة أساسا.
وحددت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) من بين الأولويات الفورية “توفير إمكانية الحصول على مياه شرب مأمونة وخدمات صرف صحي ضرورية لمنع انتشار الأمراض” على غرار الكوليرا التي تسجل انتشارا في سوريا منذ سبتمبر/أيلول 2022.
ودعا المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبريسوس، خلال زيارة إلى مناطق المعارضة السورية مطلع مارس/آذار 2023، المجتمع الدولي إلى تقديم الدعم للسكان المتضررين جراء الزلزال، وذلك في أول زيارة لمسؤول أممي رفيع المستوى إلى المنطقة.
وجاءت زيارة غيبريسوس ريف إدلب، بعد رحلة قام بها في 11 فبراير، إلى مدينة حلب الخاضعة لسيطرة نظام الأسد في طائرة حملت حوالي 37 طنا من الإمدادات الطبية الطارئة استجابة للزلزال.
كما التقى غيبريسوس في اليوم التالي رئيس النظام بشار الأسد في دمشق، ونقل عنه انفتاحه على استخدام الأمم المتحدة لمعبرين، خارج نطاق سيطرته، من أجل إيصال المساعدات عبر الحدود إلى المناطق المتضررة من الزلزال والخارجة عن نفوذه.
وفاقم الزلزال من معاناة السوريين الذي يعيش معظمهم أساسا تحت خط الفقر ويعاني 14,9 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي ومن ظروف معيشية قاسية، في ظل اقتصاد منهك.
استغلال التمويل
وستبلغ الثورة السورية ضد نظام الأسد عامها الثاني عشر في 18 مارس/آذار 2023، مخلفة مئات آلاف القتلى المدنيين على يد قوات نظام الأسد، ودمار هائل في البنى التحتية، وتهجير نحو 13 مليونا باتوا حاليا بين نازح داخليا أو لاجئ خارجيا، من أصل عدد سكان البلاد البالغ 23 مليون نسمة.
ووصلت حتى 22 فبراير/شباط 2023، 258 طائرة محملة بالمساعدات الدولية إلى مناطق النظام حصرا، 129 منها من الإمارات التي تقود جهود الإغاثة الإقليمية.
بينما تركت مناطق المعارضة في الأسبوع الأول للزلزال وحيدة دون أي مساعدات من الأمم المتحدة، التي خذلت السوريين، وتركتهم يموتون بمفردهم لمدة 72 ساعة على الأقل، وفق ما قال المدير التنفيذي لمنظمة “بيتنا سوريا”، أسعد العشي، بتصريحات صحفية مطلع مارس 2023.
واعترف منسق الإغاثة في حالات الطوارئ في الأمم المتحدة، مارتن غريفيث، بأوجه القصور التي تعاني منها المنظمة الدولية في سوريا، قائلا على تويتر في 12 فبراير، إن “الشعب السوري محق في الشعور بالتخلي عنهم”.
وتتعرض جهود الإغاثة في سوريا لعرقلة شديدة بفضل سياسات نظام الأسد، الذي يشترط مرور جميع المساعدات الإنسانية المخصصة للمناطق التي تسيطر عليها المعارضة عبره، مما يؤدي حتما إلى إبطاء إيصال المساعدات ودخولها في باب الابتزاز السياسي.
لكن مع ذلك، فإن واشنطن حذرت من أن يؤدي تخفيف العقوبات على نظام الأسد إلى الاستسهال في تطبيع العلاقات معه من جديد.
ولهذا قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية نيد برايس حول رفع العقوبات عن نظام الأسد: “سيكون الأمر مثيرا للسخرية، إذا لم يكن الأمر كذلك، حتى يأتي بنتائج عكسية، بالنسبة لنا للوصول إلى حكومة مارست معاملة وحشية على شعبها”.
ولهذا يرى مراقبون أن تخفيف العقوبات عن نظام الأسد في حد ذاته ليس الدواء الشافي له، لكنه سيزيل عقبة رئيسية واحدة أمام الإغاثة والتعافي وإعادة الإعمار في الأشهر والسنوات المقبلة.
ولذ فإن إلغاء العقوبات، بحجة أنها تضر بالمواطنين السوريين، وتعيق إيصال المساعدات الإنسانية، سيسهم باستغلال نظام الأسد للتمويل الأجنبي لتحقيق مكاسب سياسية أو عسكرية.
وخاصة أن العقوبات الغربية على الأسد، هي أداة لمحاربة القمع الذي مارسه على الشعب منذ عام 2011، كما يجادل البعض بأنه لا يمكن الوثوق بالأسد لتقديم الخدمات أو المساعدة للأشخاص في مناطق المعارضة التي استهدفها وقصفها بشدة.
أخطر تخفيف العقوبات
وضمن هذه الجزئية، قال الباحث السوري ومدير موقع “اقتصادي”، يونس الكريم، إن “التخفيف على العقوبات المفروضة على نظام الأسد عقب الزلزال هو أخطر تخفيف له بقانون العقوبات”.
وأرجع الكريم ذلك ، إلى “كون تخفيف العقوبات جاء حتى على الكيانات والأشخاص المعاقبين والتي تعمل في المجال الإنساني، وبالتالي فإن هذا الأمر أعطى لنظام الأسد مرونة واسعة، للكيانات”.
ومضى الباحث يقول: “حيث إن البنك المركزي التابع له رغم أن القرار يقصد به أنه يستطيع تحويل الأموال وتلقيها، لكن الآن بات بإمكانه تقديم إثباتات أنه يستطيع استخدام الأموال المجمدة بالعمليات الإنسانية أو الدفع منها لذلك وهذا سيريح النظام بتحريك أرصدته المجمدة”.
أما بالنسبة “للأفراد المعاقبين والمقربين من نظام الأسد فإنه سيمكنهم التنازل عن أموالهم من أجل تمويل ودفع ثمن المساعدات، وعند وصولها إلى سوريا، يجرى السيطرة عليها وإعادة تدويرها في عملية البيع كتجارة”، وفق الكريم.
ولفت الكريم إلى أن “النظام السوري كان يتعامل مع بنوك سويسرا، وبالتالي يمكنه إعادة تنشيط العمليات المالية مما يعطي النظام مرونة بتحريك الأرصدة في أوروبا، مستفيدا من فروع وعلاقات هذا البنك في الاتحاد الأوروبي”.
واستدرك قائلا: “من هذه البوابة يستطيع نظام الأسد رفع الحجز والعقوبات على الكثير من أملاكه بحجة استخدامها في العمليات الإنسانية، فضلا عن استفادته من تخفيف العقوبات على الأفراد من البوابة السويسرية كونها تعمل ضمن القوانين الأوروبية، بحيث يعمل النظام عبر مكاتب محاماة لتخفيف العقوبات عنه في بنوك أوروبية”.
ونبه الكريم إلى أن “تخفيف العقوبات عن نظام الأسد قد يفتح المجال لدول أخرى لأن تحذو حذو سويسرا، مما يعني أن النظام وجد الثغرة الصغيرة لكسر العقوبات الغربية عليه بالاستفادة من مبادرات تخفيف العقوبات عنه بحجة الزلزال”.
من جانبه، يرى مدير مركز ماري للأبحاث والدراسات الأكاديمي، معروف الخلف، أن “الهدف من تخفيف العقوبات هو تسهيل وصول المساعدات، وهذا إجراء يعد إداريا يخدم المنظمات الإنسانية العاملة في سوريا”.
وأوضح الخلف أن “سوريا تعاني من أوضاع اقتصادية صعبة وكارثية قبل وقوع الزلزال، ولهذا فإن هذا الأمر لن يساعد على تنشيط القطاعات الاقتصادية للنظام، خاصة أنه إذا أخذنا في الحسبان تقديرات البنك الدولي بأن أضرار الزلزال في سوريا تبلغ 5.1 مليارات دولار”.
وختم بالقول إن “المساعدات التي وصلت من الاتحاد الأوروبي هي عينية وقليلة ومخصوصة بالمواد الغذائية التي يجب أن تصل لمتضرري الزلزال وبعض الأجهزة والمواد الطبية التي يحتاجها المصابون”.
المقالة منشورة على موقع صحيفة الاستقلال