اقتصادي – خاص:
حاولت الحكومة السويسرية الترويج للآثار الإيجابية لعملية استحواذ بنك “يو بي إس” UBS على بنك “كريدي سويس”، في محاولة للتخفيف من التداعيات التي خلفها انهيار الأخير، إلا أن خبراء أجمعوا على وصف تلك الصفقة بالـ”مجحفة” بحق بنك بعراقة “كريدي سويس”، فضلاً عما تحمله تلك العملية من خطورة على طبيعة الاستثمار بالنظام الرأسمالي.
وتم بيع أصول بنك “كريدي سويس”، مقابل صفقة وصفت بالسريعة والمجحفة بحق حملة أسهم البنك، حيث تم شراء أصوله من قبل بنك “UBS” مقابل 3 مليارات فرنك فرنسي (3.4 مليار دولار)، ووفق شروط الصفقة سيحصل كل مساهم في “كريدي سويس” على سهم واحد في UBS مقابل 22.48 سهم كان يمتلكها سابقاً في “كريدي سويس” ، بنحو 0.76 فرنك للسهم (0.82 دولار) بخصم 60% ، حيث كان سعره يوم الجمعة عند بداية الاتفاق 1.9 فرنك (2.06 دولار)، علماً أن السعر المبدئي الذي طرحه بنك “UBS” للصفقة 0.28 دولار .
وليس من السهولة تفسير ما حدث وسيحدث، لكن سنحاول تبسيط بعض الجوانب التي تقود هذه الأزمة نحو التفاقم:
1- محاربة التضخم الحالي بالوسائل التقليدية
يأتي الاستحواذ على بنك “كريدي سويس” تزامناً مع إفلاس بنك “سيلكون فالي” في أميركا، الأمر الذي يشير إلى أن عملية مكافحة التضخم المنفلت في النظام الرأسمالي، ليست سهلة، ولا يمكن أن تتم من خلال الأدوات التقليدية، في حال كان التضخم يشمل الاقتصاد الدولي كما هو الحال الآن.
ذلك أن آليات مكافحة التضخم، عبر رفع سعر الفائدة هي محدودة التأثير وتعمل وفق نطاق معدلات منطقية، إلا أن انفلات التضخم إلى مستويات عالية يجعل استخدام معدل الفائدة كمن يلعب لعبة لروليت الروسية Russian roulette ، وهي لعبة حظ مميتة تجعل الفائز يحصل على كل شيء، كما أن مكافحة التضخم بأدوات التحوط التقليدية غير ممكن.
التحوط التقليدي أمام التضخم الدولي، كمحاربة فيل بأبرة، وعند النظر إلى الأسباب، فإفلاس بنك “سيلكون فالي”، الذي حصل على الرغم من أن معظم أمواله وأصوله مستثمرة في أوراق مالية خالية المخاطر، والذي يشير مهنياً إلى أن البنك قام بالإجراء التقليدي لتطويق التضخم وحماية الأصول من التذبذب في أسواق الاستثمار، دون النظر إلى الظروف الدولية التي حدثت نتيجة التغيرات سواء بسبب كورونا أو الحرب الروسية الأوكرانية، أو حتى أزمة الطاقة وانهيار العملات الهشة، كل هذه الأحداث مؤشر لتقييم الخطوات التي على البنوك تداركها لأجل المحافظ المالية التي يديرونها.
كما أن البنك الفدرالي الأمريكي بدأ بالتحرك عبر سياسات مكافحة التضخم بأسلوب التقليدي، دون الأخذ بالاعتبار لمستويات المخاطرة على البنوك، ودون تقديم ضمانات لها لتعويضها عن التغيرات التي تحصل، على اعتبار أنه بنك يتمتع بنوع من الحيادية، في حين كان يتوجب عليهم القيام بتحرك سريع غير تقليدي وهو مالم يحصل.
لكن قضية مكافحة التضخم بأساليب تقليدية أظهرت أن نجاحها يتعلق بوجود قيادة سياسية قوية تقدم لها الدعم لتكون هذه الأساليب ناجعة وسريعة التأثير، كما هو الحال بالقرارات السياسية القوية التي تحتاج لاقتصاد قوي يدعمه ويناصره، وهذا هو جوهر النظام الرأسمالي، فعمل كل منهما لا يمكن أن يتم بمعزل عن الآخر، وإلا قاد إلى أزمات وحتى انهيارات، وبما أن أميركا الآن تمر بأسوأ أوضاعها، اذ تعاني من الصراع المحتدم على الرئاسة منذ عصر باراك أوباما، وهذا أضعف المؤسسات السياسية كقوّة تستطيع دعم القرارات الاقتصادية ولو من الناحية المعنوية، كأداة طمأنة للجمهور، إضافة إلى عدم القدرة على إدارة تواجدها الدولي بساحات مختلفة من أفغانستان إلى أوكرانيا عسكرياً، ولا حتى في ساحة النفط وإدارة الأزمة مع الصين وخروج السعودية والإمارات عن الطاعة عبر أوبك اقتصادياً إلى الملف النووي الإيراني واحتواء جموح تركيا والصدام الضمني مع أوروبا سياسياً، كل ذلك جعل الفيدرالي الأمريكي يضعف بإقناع القوى الاقتصادية بأن الأمور ستتحسن، وبالتالي خلق الذعر المصرفي وهيأ له الظروف لنموه.
ثالثاً -التضخم يحتاج إلى حلفاء كما هو الحال بالانهيار
يبدو أن الازمة الحالية إن صح توصيفها الآن، أو أننا سوف ننتظر مرور الوقت و تفاقمها حتى نتمكن من تسميتها بالأزمة، قد أظهرت أن القرارات الاقتصادية في النظام الرأسمالي تعتمد على وجود الحلفاء لنجاحها، حيث تم تجاوز أزمة 2008 من خلال تعاضد البنوك والاقتصاديات الدولية، إلاّ إن الوضع في الأزمة الحالية مختلف، حيث يعاني حلفاء النظام الأمريكي من ذات المشاكل الاقتصادية، ففرنسا تغوص بالتضخم وبمشاكل ماكرون وقرارته التي يعمل على تغييرها بمبدأ الصدمة، وألمانيا تغوص بالتضخم دون حراك، وبريطانيا تتجه نحو انهيار اقتصادي، ومؤشرات الاقتصاد إجمالا نتيجة الحرب على أوكرانيا تجعل الحلفاء من دون تأثير، كما أن أميركا نفسها لم يعد لديها حلفاء بل خصومات مع حلفاء الأمس، هذا ما جعل القرارات التي اتخذها البنك الفدرالي الأمريكي على اعتبارها مدافع عن سلامة النظام الرأسمالي تبدو عدائية.
الأزمة الحالية هل يمكن اعتبارها السرطان الذي سيلتهم جسد النظام الرأسمالي؟
تبدو قضية الاستحواذات شديدة الحساسية، حيث أن آثار قضية بنك “سيلكون فالي” كان في السندات خالية المخاطر التي تعتبر الملاذ الآمن بالنظام الرأسمالي لتقييم الاستثمارات أو نقطة صفر، في حين الاستحواذ على بنك “كريدي سويس” آثاره مست السندات القابلة للتحول وهي المساحة المخصصة لتأمين السيولة وبناء الثروة، بل تعدتها الى حملة الأسهم، سيقود هذا الوضع إلى خلاصة لدى المستثمرين، بأنه لا يوجد أمان مصرفي في الأسهم أو السندات، وبالتالي ستبحث الأموال عن ملاذات آمنة أخرى، ومع الأزمة في قطاع العملات الرقمية، لن تجد تلك الأموال أمامها إلا العودة للاستثمار التقليدي بالأسلحة أو تجميد الأموال بالعقارات، أو الصناعات التقليدية أو الذهب، وهذا سيشكل ضغط على التضخم الذي يحاول البنك الفيدرالي السيطرة عليه، ويقود إلى حالة ذعر اقتصادي وتهافت وسباق على الاستثمارات بقطاعات ضيقة قادرة على التسييل، ليتم بالمقابل إهمال قطاعات أخرى تحتاج إلى تمويل، الأمر الذي سيفضي إلى إغلاق العديد من المنشآت، لتطفو مشكلة البطالة والفقر كنتيجة لما يحدث، خاصة وأن إفلاس بنك “كريدي سويس” سيؤدي لتسريح حوالي 10 آلاف موظف، وهو رقم هائل سيضغط على الاقتصاد السويسري ومن ثم الاقتصاد الأوروبي بشكل غير مباشر.
الأزمة البنكية تضرب قلعة البنوك وخطوط الإمداد
إن الاستحواذ على بنك “كريدي سويس” لن يمر بهدوء، لكن يمكن التغلب على تأثيراته خلال المدى القريب، إذ يُصنف بنك “كريدي سويس” من بين أكبر مديري الثروات في العالم، وهو واحد من 30 بنكاً عالمياً مهماً على مستوى النظام، المرتبة الثانية في سويسرا من حيث الأصول، والتي قد يتسبب فشلها في حدوث تموجات في النظام المالي بأكمله.
ويمتلك “كريدي سويس” بنكاً سويسرياً محلياً وشركة إدارة الثروات والخدمات المصرفية الاستثمارية وعمليات إدارة الأصول، كما أن لديه ما يزيد قليلاً عن 50,000 موظف و1.3 تريليون فرنك سويسري في الأصول الخاضعة للإدارة في نهاية عام 2022، انخفاضاً من 1.6 تريليون في العام السابق.
ومع أكثر من 150 مكتباً في حوالي 50 دولة، يعد “كريدي سويس” البنك الخاص لعدد كبير من رواد الأعمال والأثرياء والشركات، وتدور الآن التسريبات أن سبب فشله ليست فقط السمعة السيئة للبنك، من خلال تشكيله الملاذ الآمن لثروات كثير من الأنظمة الدكتاتورية بالعالم العربي، بل إلى دور سعودي من خلال البنك الأهلي المملوك (ب37% من الصندوق الثروة السعودي ) الذي يملك 9.9% من أسهم “كريدي سويس”، عبر الإعلان عن عدم الرغبة في الاستثمار به، حيث جاء الإعلان السعودي في أسوأ توقيت ممكن، فالمستثمرون في “كريدي سويس” كانوا متخوفين أساساً من انتقال العدوى الأمريكية إلى أوروبا، ومن احتمال وجود ثغرات ضعف في النظام المصرفي العالمي.
ولمّا أعلن “البنك الأهلي السعودي” ما أعلنه، تعززت مخاوف المستثمرين في البنك السويسري، وأثارت فرضية مرعبة مفادها أن البنك قد يجبر على الاستفادة والاستعانة بالمساهمين والمستثمرين لتأمين السيولة، وأن مشكلة الذعر الاقتصادي هي عبارة عن عدوى قد تجعل بنوك وضعها جيد تخسر، فقط لتصادف وجودها بحي البنك الذي يتواجد به “كريدي سويس” أو حتى شبح تعامل معه، كما هو حال البنك “كريدي اكريول” الفرنسي(البنك الزراعي)، وهي حجة يستخدمها “البنك الأهلي” في الدفاع عن نفسه ضد هذه التهم، مع العلم أنه خسر أكثر من 1.17 مليار دولار به، وتم استبعاده من الاستشارة عند استحواذ بنك “UBS” ، كما يذكر أن عائلة العليان السعودية وجهاز قطر للاستثمار من بين الخاسرين، وأن خمس البنك مملوك لشخصيات من الشرق الأوسط، الأمر الذي يدفع إلى نقل الذعر المصرفي إلى المناطق العربية التي هي مجال عمل صندوق الثروة السيادي.
وبعيدا عن التراشق الذي بدأ يعلوا ضجيجه، حول أسباب الاستحواذ على بنك “كريدي سويس”، فإن التأثيرات لن تبقى حبيسة البنوك، وإنما ستنتقل إلى طبيعة جوهر النظام الرأسمالي وإلى المؤسسات التي استثمرت أموالها بهذه البنوك، ما يجعل الكلام الآن بأنه تمت السيطرة على هذه الأزمة بمهدها ليس أكثر من تفاؤل بغير محله وأن العاصفة قادمة.
ومع صفقة الاستحواذ الأخيرة، هناك تساؤلات شرعية عما هو مصير تلك الأموال وتلك الحكومات التي كانت ترتبط بالبنك؟ هل سنلاحظ اهتزاز بتلك الحكومات؟
ومع معاناة أوروبا من إفلاسات بنوك إلكترونية، التي يقوم بعضها على شراكات بين بنوك إلكترونية وبنوك تقليدية، وبعضها هو نوافذ لبنوك تقليدية، فإن كل هذا سيضغط على الجمهور وعلى القدرة الشرائية، وبالتالي سنعود لحالة الذعر المصرفي، في وقت تحاول فيه أوروبا تخفيف التعامل بالعملة الورقية واعتماد العملة الإلكترونية بهدف التحكم بالتضخم، إلا أن الفوضى تعم النظام الاقتصادي، ما يؤسس لفوضى في النظام السياسي، نتيجة الترابط الوثيق بين النظامين.