في ظل انشغال العالم بملفات أكثر حساسية، يجد نظام بشار الأسد الفرصة مواتية أمامه للتحكم بالمساعدات الإنسانية الدولية التي تدخل مناطق المعارضة في شمال غربي سوريا.
ويسعى النظام الذي تسبب في قتل مئات الآلاف ونزوح الملايين من مواطنيه من وراء ذلك، إلى قرع باب “الابتزاز السياسي” بحق 5 ملايين نازح يعتمد معظمهم على تدفق تلك المساعدات للبقاء على قيد الحياة.
مناورة الأسد
وعادت هذه الرغبة التي لطالما نادى بها النظام السوري إلى السطح مجددا ، عقب فشل مجلس الأمن الدولي في 11 يوليو/تموز 2023، في تمديد آلية إدخال المساعدات من تركيا إلى سوريا عبر معبر باب الهوى شمال إدلب الخاضع للمعارضة.
وذلك جراء استخدام روسيا، أبرز داعمي رأس النظام بشار الأسد، حقها في النقض لمنع صدور قرار يُمدد العمل بهذه الآلية لتسعة أشهر.
وقدمت روسيا خلال الجلسة ذاتها مقترحا بديلا لتمديد الآلية لمدة ستة أشهر، رفضه المجلس بغالبية عشرة أصوات.
فيما تصر الأمم المتحدة وعاملون في المجال الإنساني وغالبية أعضاء المجلس على تمديد الآلية سنة واحدة على الأقل للسماح بتنظيم أفضل للمساعدات وضمان إيصالها إلى مستحقيها.
خصوصا خلال فصل الشتاء المقبل الذي يكون قاسيا على نازحي الخيام قرب الحدود السورية التركية.
ويتحجج نظام الأسد لمعارضة آلية الأمم المتحدة كما جرت العادة، بأنه على الأخيرة وممثليها وموظفيها عدم التواصل مع المنظمات والجهات التابعة للمعارضة السورية في شمال غرب سوريا.
وانتهت في 10 يوليو 2023 مفاعيل الآلية التي تتيح إيصال مساعدات يستفيد منها 2,7 مليون شخص شهريا يعيشون بالمخيمات.
وتدخل إلى تلك المناطق المساعدات الإنسانية الدولية عبر معبر “باب الهوى” الحدودي مع تركيا الذي يعد الشريان الوحيد المفتوح لإغاثة مناطق المعارضة، وهي نقطة العبور الوحيدة التي يضمنها قرار صادر عن مجلس الأمن حول المساعدات العابرة للحدود.
ويجري عبر معبر “باب الهوى” الذي يبعد عن مدينة إدلب حوالي 33 كيلو مترا إيصال نحو 85 بالمئة من حجم المساعدات الإنسانية الإجمالي إلى سوريا.
قبل أن يفاقم الزلزال المدمر الذي ضرب جنوبي تركيا وشمالي سوريا فجر 6 فبراير/ شباط 2023، حجم معاناة ملايين النازحين وسط مخاوف من صعوبة التعافي قريبا.
وبعد الزلزال، سمح النظام السوري بفتح معبرين حدوديين آخرين مع تركيا تديرهما المعارضة، لكن التفويض الذي منحه ينتهي في 13 أغسطس/ آب 2023.
اللافت أن نظام الأسد قدم للأمم المتحدة البديل الذي يريده ويحقق أجنداته للسماح بوصول المساعدات الدولية لهؤلاء النازحين الذين يفتقرون لأدنى مقومات الحياة مع تفشي الأمراض وفقر متزايد فاقمه الزلزال المدمر.
وطرح نظام الأسد في رسالة بعثها إلى مجلس الأمن الدولي في 14 يوليو، شرطين لقبوله مرور المساعدات معبر باب الهوى الحدودي، الأول: “وجوب ألا تتواصل الأمم المتحدة مع كيانات مصنفة إرهابية”.
وهو ما رفضه مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (أوشا)، وقال إن الأمم المتحدة وشركاءها “يجب أن يستمروا في التواصل مع الجهات الحكومية وغير الحكومية المعنيّة”، مؤكدا أنه “أمر ضروري من الناحية التشغيليّة لإجراء عمليّات إنسانيّة آمنة وبلا عوائق”.
والشرط الثاني الذي بعثه نظام الأسد “بأن يكون هناك إشراف من اللجنة الدوليّة للصليب الأحمر والهلال الأحمر التابع للنظام السوري على توزيع المساعدات”.
لكن (أوشا) شددت على أن هذا الطلب “لا يتوافق مع استقلالية الأمم المتحدة، كما أنه ليس عمليا، لأن اللجنة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر السوري ليسا موجودين في شمال غربي سوريا”.
من جانبه، قال ريتشارد غوان، المحلل في مجموعة الأزمات الدولية، لوكالة فرانس برس في 15 يوليو، إن “النظام يسعى عبر هذه الخطوة لتأكيد سيطرته على مناطق لم يتمكن من استعادتها عسكريا”.
وكانت الآليّة التي أنشئت عام 2014 قد أتاحت للأمم المتحدة إيصال المساعدات الإنسانية إلى السكان في مناطق سيطرة المعارضة في شمال غرب سوريا، من دون إذن النظام السوري الذي لطالما ندد بهذه الآلية بصفتها “انتهاكا لسيادته”.
وشملت الآليّة في بادئ الأمر أربع نقاط عبور حدودية، لكن بعد سنوات من الضغط، خصوصا من موسكو، بقي معبر باب الهوى وحده قيد التشغيل، وقلّصت فترة استعماله إلى ستة أشهر قابلة للتجديد.
خطط مدروسة
ولا شك أن تمكن روسيا التي تدخلت عسكريا عام 2015 لمنع سقوط نظام بشار الأسد، من إفشال تمديد مجلس الأمن الدولي لآلية المساعدات الدولية، يجعل معبر باب الهوى مغلقا أمام شاحنات الأمم المتحدة.
وهذا التعنت الروسي يمثل خدمة لمصالح النظام السوري “الابتزازية”، إذ سيفاقم معاناة ملايين النازحين شمال غربي سوريا، ويمهد الطريق لعودة النظام لمناطق المعارضة من بوابة المساعدات.
وضمن هذه الجزئية، يؤكد لـ”الاستقلال” الباحث السوري، مدير موقع “اقتصادي”، يونس الكريم، أن هناك أهدافا عدة من محاولة نظام الأسد إشراك الهلال الأحمر التابع له في توزيع المساعدات الدولية على السوريين.
وأوضح: “منها محاولة نقل وحصر ملف المساعدات لدى النظام على تقدير أن الهلال الأحمر هو مؤسسة مستقلة وتتبع لرئاسة الوزراء، وبالتالي فإن الإشراف على توزيع المساعدات هو نوع من السيطرة ويقلص مساحة تواجد المعارضة وإدراتها للملف الإنساني وحصره بالنظام”.
وأضاف: “النظام السوري يريد التأكيد دوليا على أنه بات المسيطر على ملف المساعدات مما يعني توسيع عملية التطبيع الدولية معه ومع الأمم المتحدة، وإفقاد العقوبات الغربية الاقتصادية عليه أي فعالية”.
ومضى يقول: “النظام السوري يسعى لتوزيع المساعدات الإنسانية المخصصة لسوريا والمقدرة بـ10 مليارات دولار، وفق خططه وهذا يدعم اقتصاده على حساب اقتصاد المعارضة، فضلا عما يطمح إليه النظام مما سيجعله يسيطر على ملف اللاجئين والذي له انعكاسات على اللاجئين في دول الجوار”.
وألمح الكريم، إلى أن “وضع النظام السوري حظر التعامل مع الكيانات المصنفة إرهابية كشرط آخر لمرور المساعدات الدولية هو مرتبط بقانون الإرهاب الذي أقره النظام بديلا عن الطوارئ وبالتالي كل المعارضة محكومة من قبله وفق هذا القانون ما يعني أنه يريد أن يمنع مرور المساعدات عبرهم”.
وذهب للقول: “في حال موافقة الأمم المتحدة على شروط النظام السوري فإنه يعد اعترافا ضمنيا من الأمم المتحدة بأن المعارضة “إرهابية” وهو ما ينسحب على المعتقلين في سجون الأسد، حيث يندرج الاعتقال تحت بند مكافحة الإرهاب”.
وبالتالي النظام يتخلص من الكثير من الأعباء السياسية والمحاكم في حال إقرار الأمم المتحدة عدم التعامل مع الإرهابيين، وفق الكريم، وخاصة أن “الخلاف هنا انتقل من ثورة إلى حرب أهلية والآن يريد النظام تثبيت مصطلح الإرهابيين”.
واستدرك قائلا إن “السيطرة على ملف المساعدات سيجعل مناطق المعارضة المتبقية تحت سيطرة النظام شيئا فشيئا كما حدث في الغوطة الشرقية بريف دمشق والتي أنشأ فيها أمراء حرب تابعين له ويعملون وفق مصالحه”.
وأنه سيضغط نحو عمليات المصالحة الأمنية ويجعل من مناطق الشمال السوري “سجن صغير” وبذلك يجعل النظام المفاوضات مع تركيا أكثر سهولة وعلى حسب مصالحه وليس على حسب ما يريده السوريون، يؤكد الباحث السوري.
منظمة قذرة
ورئيس منظمة الهلال الأحمر التابعة للنظام السوري هو خالد حبوباتي، ويقودها منذ 27 ديسمبر/ كانون الأول 2016، وخلال رئاسته لها باتت مهمته مقتصرة على تنفيذ أوامر عائلة الأسد داخليا.
وكذلك تخليص ونقل أموالهم عبر الاستفادة من علاقاته برجال الأعمال، وقدرته على التنقل خارج سوريا وحضوره مؤتمرات دولية وأخرى بزعم متابعة أنشطة المنظمة.
وشارك حبوباتي مع وفد من “الهلال الأحمر السوري” في 13 يونيو/ حزيران 2023، في أعمال المؤتمر المتوسطي لجمعيات الهلال والصليب الأحمر الـ14 في العاصمة المصرية القاهرة.
ووقتها قال حبوباتي في كلمة له في المؤتمر إن “العقوبات تعيق إعادة تأهيل البنى التحتية، وذكر أن نقص التمويل أدى لاستبعاد 1.5 مليون شخص من دائرة المساعدة، داعيًا للتضامن مع الحالة في سوريا، لمساعدة السوريين على العمل، لا الاكتفاء بالسلال والمساعدات الغذائية”.
كما أثارت مشاركة الأمين العام لـ”الهلال الأحمر السوري” خالد عرقسوسي، في مؤتمر “دعم مستقبل سوريا والمنطقة” للمانحين، الذي أقيم في العاصمة البلجيكية بروكسل بتاريخ 14 يونيو 2023، انتقادات واسعة في الأوساط السورية، إذ أكد ناشطون أن هذه المنظمة مجرد أداة لتطويع المساعدات وسرقتها لصالح رئيس النظام بشار الأسد.
لم يلتزم الهلال الأحمر السوري بمبادئه السبعة (الإنسانية – عدم التحيز – الحياد – الاستقلالية – الخدمة الطوعية – الوحدة – العالمية) التي تأسس عليها عام 1942، لا سيما في عدم الانحياز على أساس سياسي.
إذ مارست المنظمة سياسية الابتزاز في توزيع المساعدات الدولية والأممية التي تتلقاها وحرمت المناطق المحاصرة من قبل قوات الأسد أو الخارجة عن سيطرته من إدخال المواد الغذائية لها.
وبدا واضحا تحكم جهاز مخابرات الأسد بنشاط منظمة “الهلال الأحمر”، وتسخير عمل أفرادها وفروعها لصالح العمليات العسكرية لقوات الأسد.
حتى أن المنظمة استطاعت عقب عام 2011 توجيه المساعدات الدولية لصالح كسو وإطعام قوات النظام السوري في ثكناتها العسكرية وعلى الجبهات وحتى في دفع الرواتب.
وقد لعبت منظمة “الهلال الأحمر السوري” كواجهة إنسانية جالبة للأموال المجانية من الجهات المانحة، وغطاء للاستيراد المشبوه بعيدا عن أنظمة العقوبات على النظام السوري.
فضلا عن كونها ممرا للوصول إلى لوبيات العلاقات العامة في الغرب، كما كشفت منظمات إنسانية وحقوقية في العديد من التقارير عن تورطها في سرقة المساعدات وحرمان مناطق المعارضة من المساعدات الأممية والدولية.
ويأتي هذا السيناريو الذي يسعى النظام السوري لتحقيقه بعدما بدأ القبول العربي له يتمدد، إثر حضور رأس النظام بشار الأسد للقمة العربية في جدة في 19 مايو/ أيار 2023.
وكذلك إعلان السعودية استئناف عمل بعثتها الدبلوماسية بدمشق في العاشر من الشهر المذكور، وخاصة عقب إعادة النظام السوري لشغل مقعد سوريا في الجامعة العربية، بقرار من وزراء الخارجية العرب في 7 مايو 2023، بعد طرده منها عام 2011 لقمعه ثورة السوريين بالحديد والنار.
“السيناريو الأسوأ”
لكن بالمقابل، يخشى سوريون فروا من حكم بشار الأسد من أن يتمكن الأخير قريبا من منع المساعدات الطبية والغذائية، التي يحتاجون إليها بشدة، ما لم يجر الموافقة على شروط النظام الخاصة.
وقال موظفو المساعدات إن مستقبل واحدة من أكبر العمليات الإنسانية في العالم محاط بالشكوك، إذ تثير مطالبات دمشق “بالتعاون والتنسيق الكاملين مع الحكومة السورية” مخاوف من تعقيدات ضخمة تعطل عملهم.
ولطالما نسقت منظمات غير حكومية ودول بمفردها إرسال قوافل مساعدات من طرف واحد إلى الشمال الغربي.
لكن منظمات الأمم المتحدة لن تجتاز المعبر بدون موافقة النظام السوري أو مجلس الأمن.
وفي السياق، قال عبد السلام ضيف، كبير المستشارين الإستراتيجيين في منظمة سوريا للإغاثة والتنمية التي مقرها أميركا لوكالة رويترز في 14 يوليو: “إذا أصبح إدخال المساعدات في يد النظام السوري، فعندئذ قد يكون للنظام أن يوقفه في أي وقت، إنه يحاول محو كل ما جرى بناؤه على مدى السنوات العشر الماضية والاستيلاء عليه هذا هو السيناريو الأسوأ”.
بدورها قالت المستشارة الإعلامية للجنة الدولية للصليب الأحمر جيسيكا موسان، لرويترز إن اللجنة الدولية للصليب الأحمر لا تقدم مساعدات عبر الحدود في سوريا برعاية الأمم المتحدة، لكنها “مستعدة لتقديم الدعم بطرق في حدود قدراتنا وبالتنسيق مع جميع الجهات الفاعلة على الأرض”.
أما السفيرة البريطانية باربرا وودوارد التي ترأس مجلس الأمن في يوليو، فقالت في بيان لها إن “الأولوية هي أن تصل المساعدات مجددا وسريعا إلى الأشخاص الذين يحتاجونها” والحصول على ضمانات بشأن “مصيرها”.
وأشارت السفيرة في 14 يوليو 2023، إلى أنه بموجب التفويض السابق للأمم المتحدة، كانت المساعدات التي تمرّ عبر باب الهوى تخضع لمراقبة بغية التأكّد من عدم تحويل مسارها إلى غير الأشخاص المحتاجين إليها.
وشدّدت وودوارد على أنّه “من دون إشراف الأمم المتحدة، فإنّ السيطرة على هذا الطريق الحيوي تُسَلّم إلى الرجل المسؤول عن معاناة الشعب السوري”.
المقالة منشورة على موقع الاستقلال