اقتصادي –خاص:
أدت سياسة النظام السوري في إطار تعاملها مع الاستثناءات الممنوحة لها من تعليق عقوبات قيصر، إلى انهيار الخطوات التي بدأت على المستوى العربي والأمريكي لاحتواء النظام ومنعه من الانهيار، لكن المشهد القادم لن يكون مماثلاً لما كان عليه قبل التطبيع العربي، فتعنت النظام وإصراره على خسارة الفرص، دفعت بأبرز حلفائه بعيداً عنه، الأمر الذي سينعكس على تقييم الملفات وتوزيع القوى في المنطقة.
لم يكن تعليق قانون قيصر هو الاستثناء الوحيد الذي منحته واشنطن للنظام السوري بسبب الزلزال الذي أصاب جنوب تركيا وشمال سوريا، الوحيد، بل كان هناك سابقة له في أيار/ مايو 2022، عندما شمّلت وزارة الخزانة الأمريكية أنشطة 12 قطاعاً، بما فيها الزراعة والبناء والتمويل في مناطق شمال شرقي سوريا، التي تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، ومناطق في شمال غربي سوريا حيث يسيطر “الجيش الوطني”.
وهذا أعطى لمناطق الإدارة الذاتية، التي تحتوي على 80% من الثروة النفطية و70% القمح، مرونة لتأمين موارد مالية مستدامها لها، لكن من جهة أخرى كون هذه المناطق هي تحت سيطرة مزدوجة بين الإدارة الذاتية وبين حكومة النظام السوري يجعل الأخيرة الشريك الخفي بهذا الاستثناء، وتمثّل بقدرتها على شراء القمح من المزارعين بل حتى شراء النفط.
ومع حدوث الزلزال في شهر شباط من العام الجاري، جاء منح الاستثناء الثاني من تعليق مؤقت لقانون قيصر، والذي أثار اعتراضات الكثير من السياسيين الأمريكيين والمحللين الاقتصادين المهتمين بالشأن السوري، بأنه رغم أن قانون قيصر يمّكن منح المساعدات للمناطق المتضررة من الزلزال، لكن الإدارة الامريكية أصرت على تقديم تعليق كا استثناء، حيث كانت الحجة أنه من أجل تسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى مناطق المتضررة، وخاصة المساعدات المالية ودعم إعادة بناء البنى التحتية، وهذين القطاعين يندرجان ضمن القطاعات التي تطالها عقوبات قيصر بشكل مباشر، لتتلاحق بعدها خطوات عربية متسارعة، مع استقبال رأس النظام في عدد من عواصم الخليج العربي، وإعادة مقعد الجامعة العربية لحكومة النظام السوري، حيث سمّيت هذه الخطوات بالتطبيع مع حكومة النظام السوري، كما تزامن هذا التطبيع مع تصريحات فاترة كانت تعلو حدتها قليل من قبل الإدارة الامريكية مذكرة بأن التطبيع لن يكون مجانًا ودون عقوبات سوف تطال الدول المطبعة، دون خطوات فعلية.
لم يكن التقارب العربي وليد تعليق قانون قيصر، وإنما سبقه خطوات كثيرة ترتب لهذا التقارب لكن باءت كل تلك المحاولات بالفشل، حيث بدأت منذ تشرين الأول / أكتوبر 2021 من قبل الأردن وبعدها مصر، وقيل حينها إنها محاولات لإنقاذ لبنان من الانهيار، وثم تم تبرير التقارب مع النظام السوري بمحاولة نزع سوريا من حضن إيران، والعمل من أجل محاربة “الكبتاغون” من مصدره، كل ذلك الفشل سببه تمسك حكومة النظام السوري بالعلاقات مع إيران وعدم الالتفات إلى طلبات تلك الدول التي كانت بمثابة رسل عن الخليج والغرب، حتى مكافحة المخدرات تم إفشالها أيضاً.
ورغم ذلك، لم تتوقف المحاولات العربية للضغط على حكومة النظام السوري بالترهيب تارة والترغيب تارة أخرى، على اعتبار أنهم يعتبرون أن تبعات الأحداث بسوريا تحمل مسؤولية انهيار المنطقة سياسياً واقتصادياً، وفي سبيل ذلك قامت كل من الإمارات وسلطنة عمان والجزائر ومصر بالضغط على باقي الدول العربية لأجل إعادة العلاقات مع سوريا، ونجحوا في ذلك، كما تمكنوا من الضغط على أمريكا لأجل رفع العقوبات عن سوريا، والذي كان المطلب الأول لحكومة النظام السوري، لأجل نجاح عودة سوريا إلى الحضن العربي، حسب المصطلح الإعلامي للعودة، ونجح هذا الأمر جزئياً من خلال تعليق عقوبات من قانون قيصر بدل رفعها.
بالمقابل، كان رد النظام على طلبات التقارب العربي سلبياً، ويحمل صيغة التحدي، وقد تجلى ذلك من خلال تصريح لوزير خارجية حكومة النظام السوري، فيصل المقداد، “بأن سوريا سارت مئات الخطوات دون أن تلقى أي مقابل من الدول الأخرى”.
وفي ذات النهج، جاءت زيارة وفد مكون من وزير التجارة الخارجية في حكومة النظام سامر الخليل، ووزير الاتصالات إياد الخطيب، وعدد آخرين من مسؤولي النظام السوري إلى طهران، بشكل متزامن مع توتر العلاقات بين الإمارات وحكومة النظام السوري، التي قامت بحجز أموال شركة “إعمار الإماراتية”، رغم الانهيار الاقتصادي لحكومة النظام بهدف الضغط على الخليج للانصياع إلى طلباتها والاستعجال بها كون الاقتصاد كان بوابة جذب النظام الى الخليج العربي ، لكن زيارة الوفد الحكومة السورية الى طهران كان بمثابة رسالة إنهاء لمحاولات التطبيع العربي والجهود المبذولة لإيجاد حل للقضية السورية، ومنها انتهت مبررات فترة تعليق قانون “قيصر” التي بدأت منذ شباط .
خسائر النظام من إلغاء تعليق قانون قيصر:
1- البنك المركزي، فتعليق العقوبات عن بنك المركزي كان الخطوة الأهم التي طالما طالبت بها حكومة النظام السوري، كونه (أي البنك) يمثل الأداة التي يستطيع منها منع انهيار مؤسسات الدولة في عالم لم يعد يقبل بالسيولة النقدية في تعاملات الاستيراد والائتمان، كما انه الأداة الأكثر أهمية بالتخلص من الهيمنة الإيرانية، وهو أداة لغسيل أموال المخدرات، وبوابة استقبال لأموال المساعدات.
2- إنهاء التقارب الدولي مع النظام السوري وعودته إلى العزلة، الأمر الذي يقوض مساعي حكومة النظام بالانضمام إلى أحلاف مناوئة للتوجه الغربي، وتحديداً “بنك التنمية” ومجموعة “بريكس”، على اعتبار أن نفوذ الخليج العربي على مجموعة، يمكنها من دعم انضمام سوريا، وبالتالي إنهاء فعلي للعقوبات الغربية.
3- بعد أن تلقى النظام مبلغ يقدر بـ50 مليون دولار من الإمارات ومثله سلطنة عمان، عقب اللقاء بين أسماء الأسد ومرم بنت عيسى الزدجالي عضو مجلس الدولة العماني، والكثير من الوعود حول تقديم مساعدات لحكومته في حال التزامه بخطة الخليج للنهوض بالاقتصاد السوري وإعادته، بل قام النظام بإضاعة الدعم العربي لجعل المساعدات الإنسانية تمر عبر النظام إلى مناطق شمال سورية.
4- قطاع النفط، يعتمد النظام على إيران التي قدمت له خط ائتماني منذ عام 2015 لمساعدته اقتصادياً، ورغم هذا الخط إلا أن مشكلة تأمين النفط تزداد، ورغم التقارب العربي لم يمنح خط ائتماني أو مساعدات نفطية حقيقية ، لان أي خط ائتماني يحتاج الى تعليق للعقوبات لمدة عام على الأقل وكان الامر منوط بسلوك النظام خلال الفترة الأولى لتعليق الذي لم يستفد منها، كما أن النظام فقد الدعم الخليجي باستعادة السيطرة على مناطق “قسد”، كضامن له بالنسبة للأمريكان والتحالف الدولي والتقارب مع “قوات سوريا الديمقراطية” والتنسيق مع تركيا لمباركة هذا التقارب، ولعل التباعد التركي سيكون أحد نتائج خسارة التطبيع العربي.
5- قطاع الطيران، إذ بدأ الحديث عن إعادة استثمار مطار دمشق الدولي عبر شركة إماراتية، لكن هذا القطاع شأنه شأن النفط، يحتاج إلى تعليق طويل للعقوبات، كما يحتاج تسيير الرحلات إلى إجراءات لوجستية كثيرة تبدأ بتأمين المطار من سيطرة “حزب الله” والإيرانيين، والتنسيق مع الأمريكان والإسرائيليين لعدم استهدافه (يوقف الاستهداف الإسرائيلي)، لأن الطيران يعتبر حجر الأساس باستقطاب الاستثمار والمستثمرين لتقييم أوضاع البلد واتجاهها إلى الاستقرار.
6- فرصة دخول النظام بتسوية دولية يكون هو الطرف المنتصر فيها، بحيث يتحكم بهذا الاتفاق ليكون أقرب إلى شكلي، يرجح له الغلبة لأعوام طويلة يعيد خلالها ترميم عناصر قوته.
خسارة الخليج من فشل التطبيع العربي مع حكومة النظام
إن خسارة حكومة النظام السوري لن تعيد أحجار الشطرنج إلى رقعة ما قبل التطبيع العربي، ولن تكون الاصطفافات كما كانت سابقاً، فهي بالبداية خسرت الإمارات الحليف الأبرز والأقوى لها عربيًا، كما أن الخليج سيعتبر أن الأسد ليس فقط أفشل اتفاق التطبيع الذي عملوا على إنشاءه عامان ، إنما عمل على إفشال القوى الناعمة التي يعملون على بنائها وهو ما يتطلب منهم الدفاع عنها، وأن الفشل هو إقرار منهم بأن القرار العربي بات يمر من طهران وموسكو، وأن الخطط العربية الاقتصادية للمنطقة بما يخص العراق وتركيا من جهة بين الأردن ومصر وسورية ،وبين تركيا والخليج، والخليج وسورية كلها سوف تتوقف، وهذا تهديد باستمرار الاضطرابات الاقتصادية بهذه الدول التي تعتبر الخليج لاعباً أساسياً باستقرارها، كما أن فشل الخليج سوف يترك فراغاً لإيران لملئه.
وللعلم، أن خطة التطبيع العربي كانت تسعى إلى تقليم نفوذ الأمريكي والغربي في الشرق الأوسط، لكن الآن سوف تعود الخيوط إلى أمريكا والغرب من جديد.