اقتصادي خاص:
عند سماع مصطلح الإباحية، يخطر بالبال معنى الجنس وتحديداً الـ “بورنوporno ” وذلك للإشارة إلى تعليب العواطف وتحويلها إلى سلعة، وفي المصطلحات الشعبية غير المتكلفة فلسفياً- ربما-، يمكن فهم مصطلح “الإباحية” بعيداً عن السياق الجنسي كمفهوم يشير إلى عادات جديدة تظهر بالمجتمع وتفسخ العادات القديمة، في حين المعنى الحقيقي للإباحية بأبسط معانيها هو المثالية، فالإباحية تتعلق بالعرض أو التقديم المفرط والمبالغ فيه لأي شيء، بطريقة تستهدف إثارة المتلقي بشكل مفرط، خلال فترة زمنية قصيرة، بحيث يختصر عشرات الساعات اللازمة للقيام بأمر ما، بمشاهدة دقائق معدودة تختصر ذلك، قد تكون بعيدة عن الواقع.
وقد استخدمت الإباحية بالشكل الأمثل من خلال تجارة الجنس التي وجدت بالإباحية أداة التسويق الأسهل والأكثر ديمومة، فعملت على إظهار جسد المرأة في صورة مثالية غير واقعية، بحيث يصنع هاجساً للمتلقي ليقوم بالبحث عنه، متجاوزاً النظر إلى ما يملك أو الخيارات البديلة، فتصبح المقارنة والبحث نوع من الإدمان وهو الهدف النهائي الأول للإباحية “الإدمان”.
اتسعت دائرة استخدام هذه وصولاً إلى استخدامها في التأثير على سيكولوجية الجماهير وقيادتها، تارةً من خلال إعلانات مركزة لحدث ما يخلق أحداث مجتمعية عميقة فيها الثورات والحروب مثل أحداث ١١ سبتمبر، كورونا، إسلام فوبيا ..الخ، وتارة بخلق منظومة اجتماعية جديدة، على سبيل المثال لا الحصر المنظومة الاجتماعية التي خلقتها وسائل التواصل الاجتماعي، حتى توسع مصطلح الإباحية بحيث بات يطلق على توصيف لصناعة الطعام وتسويقه Food Porno .
ذلك لوصف العرض البصري المثير (للأطعمة والمشروبات) في وسائل الإعلولم تقف الاباحية عند تسويق لتجاري و صناعي بل انتقلت الإباحية إلى السياسة، ليس للابتزاز أو وصف انتهاكات جنسية، إنما لوصف برنامج سياسي مثير عن المستقبل، لا يمكن تحقيقه، لكن في الوقت نفسه يستحوذ على المتلقي بحيث يحصل على أصوات الناخبين كما يحدث خلال الانتخابات الشكلية في دول عديدة مثل لبنان وتركيا والعراق ..الخ وحتى سوريا خلال حكم بشار، حيث كانت حملته الانتخابية الأولى عام ٢٠٠٠، حيث كانت حملته تقود برنامجاً لتطوير البلاد وتحويلها إلى يابان الشرق الأوسط!، في حين الحقيقة كان برنامجه يقود البلاد للتحول إلى اليابان بعد إلقاء قنبلة هيروشيما النووية عليها، وقس على تغلغل استخدام الإباحية في متطلبات الحياة.
تكمن خطورة الإباحية بأنها تقدم الأشياء بطريقة تجعلها أكثر جاذبية، وترسم أحلاماً لا يمكن تحقيقها أو الوصول إليها، بل وتوحي بأنه من السهل امتلاك تلك الأحلام، وتخلق إدماناً في السعي للحصول عليها، الأمر الذي يبدد الطاقات والسبل لتطبيق برامج أخرى بديلة وقادرة على تغيير واقع المجتمع بشكل مرضي.
ومن الناحية العلمية، تعمل الإباحية على كمياء الدماغ، فعندما يقوم الإنسان بشيء صحي، أو عندما يلبي حاجة في نفسه، يرسل الدماغ كميات صغيرة من المواد الكيميائية (الأوكسيتوسين OXYTOCIN) التي تجعل الشخص يشعر بالفرح والارتياح والإثارة والرضا، ويتنشط إفراز هرمون السعادة (هرمون الدوبامين) .
لكن ماذا يحدث حين يستطيع الإنسان استخدام طريق مختصر ليشعر على نحو أفضل، وليحصل على ما يحلم فيه ، ولو تم من خلال خداع الدماغ، ويتم إرسال كميات كبيرة جداً من هذه المواد الكيميائية(الأوكسيتوسين OXYTOCI)، التي تحفز بشكل مباشر مسارات اللذة في الدماغ؟
يؤدي اكتشاف الدماغ لهذا الطريق المختصر لتحقيق اللذة، ويصبح بالمقابل عرضة للإدمان، نتيجة الإشباع المختصر دون بذل مجهود وبوقت أقل، وهو الذي يعتبر سبباً من أسباب الإدمان الذي يريح الدماغ ويجعله يطلب المزيد، حيث تقوم الإباحية بشكل عام باستغلال تلك النقطة جيداً من خلال تقديم مختصر وسريع يدمنه الدماغ ولو كان بشكل مخادع له.
فمثال بسيط على ذلك، استخدام الفلاتر بتطبيقات “تيك توك” أو “انستغرام” وباقي منصات التواصل الاجتماعي، التي تجعل صورنا رائعة من دون أي مجهود في التقاطها، بل سهولة التقاط الصور قادت الى تغير الأفكار وصنعت حالة من إدمان العقول على هذه الفلاتر لدرجة أنه يتم رفض أشكالنا الحقيقة، كنوع من رفض الواقع وتغييبه، وهذا هو الهدف النهائي الثاني للإباحية.
ومن هنا يمكن القول، أن صناع المحتوى المتفرغين لإنشاء المحتوى بشكل بعيد عن الواقعية ليجعلوا المتلقي يتقوقع ضمن محتواهم ويدمن عليه، هم ممثلو الـ”بورنو” الجدد وخاصة بما يسمى reel، والذين يختصرون عشرات أو مئات الساعات من المونتاج والقص والتعديل لتقديم “reel” سريع لأقل من دقيقة يلخص تلك العشرات من الساعات!
كذلك السياسيين، هم ممثلو الـ”برنو” الجدد، حين يستعينون بالمحترفين من اجتماعيين واقتصاديين وسيكولوجيين لوضع خطة سياسية غير واقعية وغير قابلة للتحقيق، فتتلقى جرعة نفسية من هرمون “دوبامين” تشعرك بالقناعة… تحفزك للبقاء، ويترافق مع الإباحية السياسية، واقعية سوداء إذا ما خرجت من جنتهم، يستنزفك الواقع بالكورتيزول والأدرينالين…
الخطورة الحالية للإباحية في أنها استخدمت بالربيع العربي وتشعبت بها الحكومة السياسية والمعارضة الثورية على سواء ، وخاصة الحالة السورية الفريدة، التي مضى على انطلاقة الربيع فيها ١٢ عاماً، فبدل أن تتم مقاومتها عبر مأسسة هياكل الثورة وإعادة النظر في عمل مؤسسات الدولة من قبل حكومة النظام، جرى ترسيخ الإباحية تحت مسميات مختلفة منها شعبوية أو شللية أو “الي يشبهنا يجي عندنا” “المقاومة” “الصمود”، وجميع تلك الألفاظ تشير إلى الإباحية، حيث يعتقد القائمون على إحدى مؤسسات “الربيع العربي أو مؤسسات الدولة”، أنه بوجودهم يمكن أن تصل تلك المؤسسات إلى المثالية، وأن إبعادهم سوف يدمر المؤسسة والقضية التي يعملون فيها، ولأننا نتفق على أن حكومة دمشق حكومة دكتاتورية، فإننا سوف نتجاوز الإباحية التي تمارسها على جمهور المؤيدين، ونحلل بعض من الإباحية لدى مؤسسات الربيع السوري المعارض لحكومة النظام السوري.
إذ لم يستطع جمهور الربيع السوري عزل أو إبعاد أحد من السياسيين عن مناصبهم رغم كل المظاهرات التي دعت إلى ذلك، وحتى مظاهرات ايام الجمعة الحاشدة التي نادت بذلك مثال” أحمد طعمة، عبد الرحمن مصطفى، نصر الحرير ..الخ”، باستثناء حالات خرجت لأسباب صحية أو انتقلت لمواقع جديدة، فلم يتم إبعادهم عن تلك المناصب بالعمل المؤسساتي رغم أنهم كانوا أصحاب قرار في استنزاف الأموال في مشاريع غير واقعية، ولا يقتصر الأمر على السياسيين، بل يشمل العمل العسكري أمثال “أبو عمشة، سيف بولاد، محمد فريد القاسم”، فرغم أن تلك الشخصيات وباعتراف المقربين منها وجمهور الربيع العربي، هم مجموعة فاسدين وغير مؤهلين لممارسة المسؤوليات وتولي المناصب، لكنهم استغلوا تأثير الـ”دوبامين” والتخدير على مجموعات كثيرة، عبر شبكات منافع هرمية متبادلة، تحافظ على مستويات معينة من “الدوبامين” ليبقوا حيث هم، وهذا يمكن عده من الإباحية السورية فقط.
وتعدى الأمر، ليتمكن بعضهم ومع طول الزمن، من خلق حالة من الإباحية الخاصة به، باستخدام هرمون السعادة ” الأوكسيتوسين” في مؤسسته، فتجد أعراض الإدمان على المتعاملين مع تلك المؤسسة والمستفيدين منها، ويدافعون عنها ويحاولون القضاء على كل من يحاول أو يفكر بالاقتراب منها بأسلوب استباقي دفاعي، فأصبح “الأوكسيتوسين” هو معيار الإدارة، ومثال على ذلك، “فريق ملهم التطوعي”، الذي رافقته الكثير من الأنباء عن الفساد عبر هدر الأموال، وخاصة من خلال بناء المجمعات السكنية التي تفتقر إلى مواصفات الفنية والأمان إضافة إلى حجم التكاليف غير المتناسبة مع النتيجة، فكان الرد أنهم لن يناقشوا أي مشروع أو حتى يخضعوا للمحاسبة إلا بوجود الدولة!.
بل أن مؤسسات الربيع السوري خلقت لنفسها إباحية خاصة بها عبر استخدام هرمون “الأوكسيتوسين” الذي يسمى بهرمون المانح ” إماراتي، قطري، أمريكي، أوروبي” والذي تعرف من خلاله حجم الإباحية.
وتوسعت الإباحية السورية فخلقت لنفسها مستوى جديد من خلال المحتوى المضلل الذي يبثه الإعلام سواء كان مواقع إعلامية أو دراسات، فرغم الميزانيات الكبيرة المرصودة لها، لم ينتج ذلك الإعلام عمل يمكن اعتباره حجر أساس لسوريا، يكون أداة تساعد العالم الخارجي بفهم طبيعة الصراع السوري وكسب مناصرة دولية للقضية السورية، بل على العكس عملت تلك الإباحية على محاربة أي صوت يصدح خراج جوقتها، فأصبحت الحقيقة فقط مما يقولوه هم ويدمنوا عليه، وهذا انعكس على تشكيل الرأي العام داخلياً ودولياً، وانعدم نفاذ أصوت أخرى معارضة، بحيث باتت الغالبية تعتبر أن ما يصدر عن تلك المؤسسات هو حقيقة الصراع.
ويبقى السؤال: هل هناك علاج لهذه الإباحية بمشهد الربيع السوري، أم أن معالجته باتت مكلفة أكثر من ربيع جديد؟ وهل نستطيع منع الإباحية عن الربيع القادم؟