رغم تقدم النظام السوري خطوات في ملف التطبيع مع الدول العربية منذ عام 2022، إلا أنه لم يحقق أي استفادة سياسية أو اقتصادية كما كان يأمل.
لذا مايزال نظام بشار الأسد يحاول اللعب على الأوراق الداخلية، طمعا في تحقيق مكاسب جديدة له، ومن أمثلة ذلك، إصدار رئيسه بشار الأسد، مطلع ديسمبر/كانون الأول 2023، مرسوما يجيز دفع بدل “الخدمة العسكرية الاحتياطية” في صفوف قواته.
قرار مدروس
وبحسب نص المرسوم، الذي نشرته وكالة أنباء النظام “سانا”، مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 فإنه “يجيز للمكلفين بالخدمة الاحتياطية ممن بلغوا سن الـ40 من عمرهم ولم يلتحقوا بعد، دفع بدل نقدي” مقداره 4800 دولار أو ما يعادله بالعملة السورية.
وأضاف المرسوم أنه “يحق لمن التحق بالخدمة الاحتياطية وبلغ سن الـ40 ومازال يؤدي الخدمة، دفع البدل النقدي المذكور، على أن يتم حسم مبلغ 200 دولار أو ما يعادله بالعملة المحلية (67 مليون ليرة سورية تقريبا) عن كل شهر أداه المكلف”.
من جانبه، قال حساب “رئاسة الجمهورية السورية” في تليغرام مطلع نوفمبر إن المرسوم “يأتي في إطار تنظيم حالة الجهوزية القتالية لصفوف قواتنا المسلحة”، على حد وصفه.
ولم يكن في سوريا سابقا قرار يسمح بدفع البدل الداخلي للخدمة العسكرية الاحتياطية، بل فقط كان الأمر مقتصرا على دفع بدل الخدمات الثابتة لمن يثبت بتقارير طبية عجزه عن أداء الخدمة، أو لمن يقيم خارج البلاد وتجاوز ذلك الخمس سنوات.
لكن عقب اندلاع الثورة السورية، منتصف مارس/ آذار 2011، أجبر نظام الأسد الشبان السوريين ممن أنهوا خدمتهم الإلزامية على العودة إلى صفوف قواته للخدمة الاحتياطية، فضلا عن احتفاظه بمن هم في الخدمة أصلا للمشاركة في إخماد الثورة واقتحام المدن الثائرة.
والخدمة العسكرية إلزامية في سوريا للرجال فقط الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و42 عاما، لفترة تتراوح بين 18 شهرا وعامين.
إلا أن “قانون خدمة العلم” في سوريا لا يحدد مدة للخدمة الاحتياطية أو الاحتفاظ بالعساكر، كما لا تفصح وزارة الدفاع في حكومة الأسد عن عدد المجندين في صفوف قواتها وتفاصيل المحتفظ بهم والذين يخدمون في الاحتياط، لكن مواقع عالمية من بينها “Global Fire Power” تقدر عددهم بـ150 ألفا.
إذ إن عشرات الآلاف من الشباب فروا من البلاد عقب شن النظام حربه على الشعب السوري لقمع الثورة، وغالبية هؤلاء كانوا قد أدوا الخدمة الإلزامية.
إلا أن النظام عقب وقوع قتلى في صفوف قواته وتوجيه حملات عسكرية للسيطرة على المدن الثائرة، استدعت شعب التجنيد في المحافظات المسرحين من الخدمة الإلزامية إلى خدمة الاحتياط.
وقد وصل الاحتفاظ بدفعات الاحتياط إلى قرابة سبع سنوات، الأمر الذي دفع وزارة دفاع الأسد عقب عام 2020 لتسريح بعض عناصر الاحتياط بشروط معينة.
اللافت أن المرسوم الجديد، سبقه إعلان من وزارة الدفاع في حكومة النظام أعلنت فيه عن دعوات للتطوع في صفوف قواتها، مع مجموعة من الحوافز للراغبين بالتطوع ضمن عقود محددة، كصف ضباط وأفراد، على أن يكون المتطوع حاملا للجنسية السورية منذ خمس سنوات، ويتراوح عمره بين 18 و32 عاما عند التقديم.
ونص عقد التطوع الذي سمي “عقد مقاتل” فترتين للخدمة بحسب بيان لوزارة الدفاع في 21 نوفمبر 2023، وتضمن خمس سنوات وعشر سنوات.
وتضمنت عقود التطوع للفترتين راتبا يصل إلى مليون و300 ألف ليرة سورية مع التعويضات (كل دولار يقابله نحو 13 ألفا و750 ليرة)، بالإضافة إلى مكافآت، منها بدء الخدمة ومكافأة سنوية ومنحة للزواج غير مستردة قيمتها مليونا ليرة.
كما نص بيان الوزارة على إعفاء المتطوع في هذه العقود من الخدمة الإلزامية بعد إتمامه خمس سنوات من العقد.
وتعداد الجيش السوري حتى عام 2010 هو 300 ألف جندي، قبل أن يرفض عشرات الآلاف من الشباب الخدمة الإلزامية أو انشقوا عن قوات الأسد بسبب قتل المدنيين، الأمر الذي دفع النظام لتشكيل مليشيات محلية لسد النقص في قواته.
كما لعبت طهران دورا كبيرا في جلب مقاتلين مرتزقة للقتال مع قوات الأسد، فضلا عن تشكيلها مليشيات محلية تولت تدريبهم وتسليحهم وتسديد رواتبهم وأصبحوا تحت إشراف الحرس الثوري الإيراني ولا سلطة لوزارة دفاع الأسد عليهم مطلقا، كونهم يمتلكون بطاقات انتساب تمنع توقيفهم أو اعتقالهم، رغم أن بعضهم مطلوب للخدمة الإلزامية أو الاحتياط.
تجديد الجيش
وأمام ذلك، يؤكد الخبير العسكري السوري العميد عبدالله الأسعد أنه “في السابق كان كل من يتخلف عن الخدمة الاحتياطية سواء أكان داخل أو خارج سوريا يدفع غرامة مالية أو يسجن لمدة شهر في حالة القبض عليه”.
وأضاف الأسعد لـ”الاستقلال”، قائلا: “أما الآن فإن هذا القرار سيتيح للنظام السوري جمع الأموال من خلال إصدار دعوات احتياط على كل شخص سواء داخل سوريا أو خارجها”.
ولفت إلى أن “الجنود الذين يخدمون بشكل احتياطي في قوات الأسد حتى الآن ليس لديهم قدرة لدفع البدل النقدي عن الاحتياط”.
وأردف الأسعد: “نظام الأسد أصدر قرارا يتيح لمن هو في الخدمة الاحتياطية أن يستفيد من القرار ويدفع البدل”.
واستطرد: “القرار يستهدف بشكل أساسي السوريين المتواجدين في الخارج المتخلفين عن الخدمة الاحتياطية، من أجل جمع الأموال منهم لرفع كف البحث عنهم والسماح لهم بدخول البلاد لمن يريد العودة تحت أي ظرف”.
فيما ذكر الباحث في الاقتصاد السياسي، يحيى السيد عمر، أن “البدل الداخلي للخدمة العسكرية الاحتياطية في حكومة النظام يأتي في وقت تعاني فيه الأخيرة من ضغوط اقتصادية متصاعدة، وشح حاد في الموارد، وتعاني من جيش عماده مقاتلون كبار بالعمر؛ ما يدفع النظام للسعي للتخلص من هؤلاء المقاتلين واستبدال مقاتلين شباب به”.
وأضاف السيد عمر، في منشور عبر حسابه على فيسبوك في 2 ديسمبر، أن “قرار البدل المالي كان بمثابة تمويل عملية استقطاب مقاتلين جدد من جيوب المقاتلين القدامى، وعدم تكليف خزينة النظام أي أعباء جديدة”.
ورأى أن مبررات القرار “ترتكز على مستويين، الأول عسكري، والثاني اقتصادي، فعلى المستوى العسكري بات جيش النظام يعتمد بشكل كبير على المقاتلين الاحتياطيين، وهؤلاء أعمارهم كبيرة نسبيا، ما يجعل جيش النظام عجوزا، لذلك لا بد من الاستغناء عن المقاتلين ذوي الأعمار الكبيرة، لتحسين الفاعلية”.
ومضى السيد عمر يقول: “في ظل أجور العسكريين المتواضعة جدا، والتي لا تتجاوز 25 دولارا شهريا، بات عدد المنتسبين الجدد لجيش النظام محدودا جدا، ولتحفيز الشباب في البيئة الموالية للنظام على التطوع في الجيش، تم أخيرا إعطاء حوافز مالية كبيرة نسبيا، تصل لحدود 100 دولار شهريا، لكن هذه الحوافز بحاجة لتغطية مالية”.
وألمح إلى أنه “في حال استقطب النظام 10 آلاف مقاتل جديد لصفوفه، ستكون أجورهم الشهرية مليون دولار، وهو ما يعجز عن تغطيته، لذلك كان الاستغناء عن المقاتلين ذوي الأعمار الكبيرة مقابل بدل مالي خيارا لتمويل المتطوعين الجدد، فالقرار يهدف لاستبدال المقاتلين ذوي الأعمار الكبيرة بآخرين شباب، دون تحميل ميزانية النظام أعباء مالية”.
ومن مبررات القرار، وفق السيد عمر، هي “السعي لتحقيق عوائد مالية لخزينة النظام، فالمتوقع من تسريح المقاتلين القدامى تفوق التكاليف المترتبة عن استقطاب الجدد، فعلى افتراض أن عدد الراغبين بالتسريح المالي بلغ 5 آلاف مقاتل، وكل مقاتل سيدفع 4500 دولار، فستكون المحصلة أكثر من 22 مليون دولار سنويا، ما يفوق تكاليف تمويل المتطوعين الجدد”.
رسائل الأسد
ومنذ عام 2020 بدأ النظام السوري العمل على إعادة تعويم نفسه بنفسه، وقد نجح وفق مراقبين في إحداث خرق في تشبيك العلاقة من جديد مع بعض الدول العربية عقب عقد من الزمن من عزله عربيا.
وبالفعل وضمن مبادرة عربية جرت إعادة نظام الأسد لشغل مقعد دمشق في الجامعة العربية خلال مايو/أيار 2023، ثم دعوته من قبل السعودية لحضور القمة العربية في مدينة جدة خلال الشهر المذكور.
ومنذ ذلك الحين، بات ينظر الأسد إلى التحركات العربية تجاهه على أنه حقق مكاسب سياسية من التطبيع العربي، رغم إبقاء باب المكاسب الاقتصادية مغلقا بوجهه، بسبب الضغوطات الأميركية والأوروبية.
كما حضر الأسد في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 قمة عربية إسلامية مشتركة غير عادية بشأن العدوان على غزة في العاصمة السعودية الرياض.
لكن رغم كل هذا الحراك، لم يتقدم نظام الأسد ولا خطوة واحدة نحو الحل السياسي وفق القرارات الأممية، أو إنهاء الحالة المليشياوية التي تهيمن على الأراضي السورية، باعتقاد أن مثل هذا الطلب كان في صلب الشروط المعلنة لتطبيع السعودية علاقاتها مع الأسد عام 2023 بعد 12 عاما من القطيعة السياسية.
وتضمن البيان الصادر عقب لقاء وزير خارجية نظام الأسد فيصل المقداد في جدة، مع نظيره السعودي فيصل بن فرحان في 12 أبريل/نيسان 2023 التأكيد على “ضرورة دعم مؤسسات الدولة السورية، لبسط سيطرتها على أراضيها لإنهاء وجود المليشيات المسلحة فيها، والتدخلات الخارجية في الشأن الداخلي السوري”.
وضمن هذه الجزئية، يؤكد الباحث السوري، يونس الكريم، أن “تحصيل الأموال بالدولار عن بدل الخدمة العسكرية الاحتياطية ليس له علاقة مباشرة بالانهيار الاقتصادي الذي يمر به النظام منذ عقد من الزمن لكون القرار طرح قبيل قيام الثورة عام 2011”.
وأضاف الكريم قائلا إن “هذه الأموال ستذهب جلها إلى وزارة الدفاع التي ستعيد بدورها ترتيب وتوزيع هذه الأموال على قطع الجيش حتى يخفف من الضغط على الموازنة العامة من ناحية حصتها من الميزانية لسد احتياجات الوزارة”.
ونوه الكريم إلى أن “هذا القرار هو رسالة من النظام السوري أولا لإسرائيل بأن الجيش يعيد هيكلة نفسه وهو من المتطلبات القديمة التوافقية مع إسرائيل”.
وكذلك “هي رسالة للإمارات وبعض دول الخليج بأن النظام ماض نحو إيقاف الحرب وإعادة هيكلة الجيش، وبالتالي نزع الصفة الحربية عن المجتمع السوري، لكن هذا الأمر لن يمرره نظام الأسد بشكل مجاني سواء على الداخل أو الخارج”، وفق الباحث الاقتصادي.
ورأى أن “هذا القرار له دور في عملية عودة اللاجئين، بمعنى أنه يقول إنه لا عودة مجانية لهؤلاء، وهناك من سيتحمل التكلفة إما المجتمع الدولي أو المواطنون، لأن معظم الذين سافروا لا يريدون الخدمة في جيش الأسد، وبالتالي يقول لهم عودوا ولا مشكلة في خدمة الاحتياط المفروضة عليكم وسيتم تصفية كل المتطلبات مقابل دفع الأموال”.
ومضى الكريم يقول: “وهي بذات الوقت صفة طلب أموال من الدول المجاورة وأوروبا التي ترغب في إعادة اللاجئين السوريين من هناك، خاصة لمن فر من الخدمة العسكرية وعليه احتياط ولم يشارك في القتال الدائر بالبلاد”.
المقالة منشورة على موقع صحيفةالاستقلال