تلقت “الإدارة الذاتية” الكردية شمال وشرق سوريا، وهي المظلة السياسية لقوات سوريا الديمقراطية “قسد”، ضربة جديدة لمساعيها لترسيخ إدارتها لمناطق شمال وشرق سوريا.
فبعدما روجت “الإدارة الذاتية” إلى استعدادها الكامل لإجراء انتخابات بلدية في مناطق نفوذها بسوريا، ونشرت قوائم المرشحين وسمحت ببث الدعايات الانتخابية أعلنت بشكل مفاجئ إرجاء إجراء الانتخابات البلدية.
تأجيل انتخابات قسد
ونشرت “الإدارة الذاتية” بيانا لها في 6 يونيو 2024، بشأن تأجيل الانتخابات البلدية في مناطق سيطرتها، التي كان من المقرر إجراؤها بين 11 من الشهر المذكور حتى أغسطس من العام ذاته.
ولم يحدد البيان الموعد القادم بدقة بل اكتفى بالقول: “إن قرار التأجيل جاء استجابة لمطالب الأحزاب والتحالفات السياسية المشاركة في العملية الانتخابية، وحرصا على تنفيذ العملية الانتخابية بشكل ديمقراطي”.
وزعم البيان أن “المفوضية العليا للانتخابات أجلت الانتخابات بناء على مطالب وردت من أحزاب سياسية عبر كتب رسمية، معللة ذلك بضيق الوقت المخصص للفترة الدعائية التي ينبغي أن تكون كافية أمام جميع المرشحين”.
لكن مراقبين يرون أن قرار “الإدارة الذاتية” للتراجع عن إجراء الانتخابات المحلية لاختيار العمد في مناطق تسيطر عليها في أربع محافظات سورية لها نفوذ فيها هي (الحسكة والرقة ودير الزور وشرق حلب) لم يأت من فراغ.
بل سبقه ضغوط من أكثر من جهة على رأسها الولايات المتحدة حليفة “قسد” الأساسية والتي شكلتها عام 2015 لقتال تنظيم الدولة وما تزال تدعمها بالمال والسلاح.
كما أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي تعارض بلاده قيام كيان انفصالي عند حدود بلاده الجنوبية كما تطمح “الإدارة الذاتية”، قال مهددا: “لن نتردد في شن هجوم جديد بشمال سوريا إن أجرت جماعات يقودها أكراد انتخابات في المنطقة”.
وقال الرئيس التركي في تصريحات صحفية في 30 مايو 2024: “نتابع من كثب التحركات العدائية من منظمة إرهابية ضد وحدة أراضي بلادنا، فضلا عن سوريا، بذريعة الانتخابات”.
وأضاف: “تركيا لن تسمح لمنظمة انفصالية بإقامة (دولة إرهابية) أبعد من حدودها الجنوبية في شمال سوريا والعراق.. لقد فعلنا ما كان مطلوبا في السابق، ولن نتردد في التحرك مجددا إن واجهنا الوضع نفسه”.
بدوره، أكد “المجلس الوطني الكردي” المعارض لـ “الإدارة الذاتية”، أن الانتخابات التي تستعد لها الأخيرة للقيام في مناطق سيطرتها شرقي الفرات “تتم في بيئة غير محايدة ومحسومة النتائج بشكل يكرس سلطة وهيمنة حزب الاتحاد الديمقراطي، التي تستند إلى عقد اجتماعي مؤدلج”.
وقال “المجلس الوطني الكردي” في بيان عقب اجتماعه في مدينة القامشلي بريف الحسكة السورية نقلته منصة “الائتلاف الوطني السوري”، في 28 مايو 2024 إن هذه الانتخابات “تفتقر إلى الشرعية”.
و”المجلس الوطني” تجمعه علاقات إستراتيجية مع الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وهو مقرب من “الحزب الديمقراطي الكردستاني” الحاكم في شمالي العراق وله مكاتب في أربيل.
لكن الرفض من العيار الثقيل لإجراء الانتخابات الذي تلقته “قسد” هو ما صدر من حساب السفارة الأميركية بدمشق على منصة “إكس”.
ونشرت السفارة الأميركية بدمشق بيانا في 31 مايو 2024 شددت فيه على أن “أي انتخابات تجري في سوريا يجب أن تكون حرة ونزيهة وشفافة وشاملة، وفق ما دعا قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254”.
وأضاف البيان الأميركي أن واشنطن حثت “الإدارة الذاتية” على عدم المضي في الانتخابات وعزت السبب إلى “أن الظروف الملائمة لمثل هذه الانتخابات غير متوفرة في شمال وشرق سوريا في الوقت الحاضر”.
وأشارت إلى أنها نقلت هذا الموقف إلى مجموعة من الجهات الفاعلة بما فيها الإدارة نفسها.
كيان انفصالي
منذ عام 2012 ينظر إلى “الإدارة الذاتية” على أنها تحكم بقوة السلاح الأميركي وما هي إلا سلطة أمر واقع غير شرعية، وتطمح لإقامة كيان انفصالي شمال شرقي سوريا عند حدود تركيا الجنوبية وهو ما ترفضه أنقرة.
كما أن “الإدارة الذاتية” الطامحة لنزع اعتراف دولي بسلطتها على مناطق شمال شرق سوريا، فشلت رغم كل المحاولات.
لا سيما أن “الإدارة الذاتية” تمارس عبر ذراعها العسكري “قسد” سلطتها في تلك المناطق بقوة السلاح الأميركي وهي ما تزال تواجه رفضا لإدارتها من المكونات العربية ذات الغالبية للسكان هناك.
إذ ما تزال “قسد” تقمع المكون العربي هناك وتهمش مناطقه وتسرق ثروات النفط والغاز التي تتركز بيدها 90 بالمئة من إجمالي حصة سوريا.
ونتيجة لذلك، أشعلت العشائر العربية شرقي سوريا انتفاضة ضد “قسد” منذ 27 أغسطس/آب 2023، هي الأولى من نوعها هناك ضد هيمنتها وانتهاكاتها ورفضا لإدارتها تلك المناطق.
وطالبت العشائر العربية آنذاك التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة بإنشاء “إدارة مدنية مستقلة تتخذ سياساتها بشكل مستقل لإدارة المنطقة دون تأثير من قسد وغيرها”.
من جانبه، يؤكد موقع “المونيتور” الأميركي، في تقرير له صدر في 22 أبريل 2022، أن “قسد” تواصل التنكيل بالأكراد المعارضين في مناطق سيطرتها شمال شرقي سوريا، على مرأى ومسمع من القوات الأميركية الموجودة بالمنطقة.
وهناك خلافات بين القوى السياسية الكردية الرئيسة، حيث إن المفاوضات بينها متعثرة منذ 2020. وأمام ذلك، فإن الموقف الأميركي الصريح بتحفظه على إجراء الانتخابات البلدية في مناطق قسد بسوريا، يعود لجملة من الأسباب.
ضغط متعدد الأطراف
وضمن هذه الجزئية، يؤكد الباحث السوري، يونس الكريم، أن “عملية إلغاء الانتخابات البلدية من قبل قسد نتيجة الضغط عليها من عدد من الأطراف الرافضة لتمريرها كونها تعد محاولة لتثبيت سلطتها على تلك الأراضي السورية”.
وأضاف الكريم، أن “نظام الأسد هو الطرف الأول الرافض لتلك الانتخابات حيث عد تمريرها ترسيخا للعقد الاجتماعي (دستور) الذي أقرته قسد قبل أشهر وهو أمر رفض من قبل النظام”.
وكان أصدر المجلس العام في “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا”، “العقد الاجتماعي” الخاص بها بصورته النهائية في 13 ديسمبر 2023.
ورفضت المعارضة السورية حينها هذا “العقد الاجتماعي” الذي هو بمثابة “دستور” يحكم مناطق نفوذ “الإدارة الذاتية” في عدد من المحافظات السورية.
وجرى حينها تعريف “العقد الاجتماعي” بأنه “مجموعة الأسس النظرية والعملية والقوانين والقواعد التنظيمية التي توضع لتحدد العلاقة بين الحاكم والمحكوم وتبين حقوق وواجبات الأفراد والمسؤولين داخل المجتمع”.
وأشار الكريم إلى أن “نظام الأسد عمل على الضغط على قسد عبر السعودية التي طبعت علاقاته معه قبل أكثر من عام حيث ضغطت الرياض بدورها على الأميركان لمنع إجراء الانتخابات البلدية على فرض أنها رسائل ترسخ التقسيم بسوريا”.
ومضى يقول: “كما أن تركيا ضغطت بشكل كبير على الأميركان لمنع إجراء الانتخابات والتي قالت إنها لن ترضى بتمرير مثل هذه الانتخابات”.
وكانت نقلت صحيفة “سوزجو” التركية المعارضة، عن مصادر أمنية لم تسمها، قولها في 6 يونيو 2024 إن “حزب العمال الكردستاني” حاول إقامة “صناديق اقتراع” في سوريا في إطار خطته للحصول على اعتراف دولي، معلنًا عن انتخابات محلية.
وحزب العمال الكردستاني “بي كا كا”، المصنف جماعة إرهابية من قبل تركيا وأميركا، هو الأب الروحي لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني “ب ي د”، العمود الفقري لمليشيا “قسد”.
وأيضا دعا دولت بهتشلي زعيم حزب “الحركة القومية” (MHP) التركي، المتحالف مع حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم، في 28 مايو 2024 لعملية عسكرية مشتركة تجمع تركيا والنظام السوري للقضاء على العمال الكردستاني” في مناطق شمال شرقي سوريا، وفق ما نقلته صحيفة “جمهوريت” التركية.
وانتقد بهتشلي انتخابات البلديات لقسد، مقدرا أنها مرحلة جديدة قادمة لـ”تقسيم تركيا”.
ولفت الكريم إلى أن “الضغط على قسد لمنع إجراء الانتخابات البلدية جاء من العراق وكذلك روسيا”.
وألمح الكريم، إلى أن “العشائر العربية في مناطق قسد رفضت إجراء الانتخابات البلدية التي ترى فيها ترسيخ إدارة قسد للمناطق شرقي نهر الفرات”.
واستدرك قائلا: “الأميركان راهنا بحالة تفاوض غير مباشر مع نظام الأسد وهم يرغبون بعدم تصعيد الخلاف معه”.
وأضاف: “أمام هذه الضغوط، لجأت الإدارة الذاتية إلى إرجاء الانتخابات ريثما يتم يظهر مسار التفاوض بين نظام الأسد والدول العربية وخاصة أن السعودية يبدو أنها تحاول أن تكون اللاعب الرئيس في الملف السوري وسط نزاع مع إيران حول الملف بينما يبحث النظام عن تنفيذ مطالبه وتلبيتها لتحديد موقفه منها”.
وراهنا، تواصل تركيا ضرب البنية العسكرية لـ”قوات سوريا الديمقراطية”، في تكتيك حربي رسم حلقة وصل للعملية العسكرية المؤجلة التي أعلن عنها في 23 مايو/ أيار 2022 بهدف استكمال “الحزام الأمني” عند حدود البلاد الجنوبية.
ولهذا فإن كثيرا من المراقبين يرون أن إجراء مثل هذه الانتخابات البلدية في مناطق قسد، سيدفع تركيا لتنفيذ عملية عسكرية على غرار العمليات السابقة في سوريا التي تمكنت خلالها من طرد “قسد” من مناطق واسعة قرب الحدود السورية التركية.
ولعل براء صبري، الباحث المساهم في “معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى” لفت إلى هذه النقطة في تصريح صحفي في مطلع يونيو 2024 حيث توقع أن تعلن “الإدارة الذاتية” التراجع عن إجراء الانتخابات البلدية.
وربط صبري تحذيرات واشنطن بقوله: “إن الإشارة الأميركية فيها تحذير واضح من وجود مخاطر قد تترتب على إجراء الانتخابات، ومن بين هذه الاحتمالات شن هجوم بري عسكري تركي جديد”.
وأضاف قائلا: “يبدو أن موقف واشنطن واضح أنها غير معنية في حال حدوث هجوم تركي جديد على مناطق الإدارة، وتقدمت خطوة في التهرب من المسؤولية المترتبة على حماية شريكتها في سوريا”.
وراح صبري يقول: “إن واشنطن وعبر بيانها قدمت هدية مجانية لتركيا من جهة الطمأنة بعدم التصادم معها في حال قيامها بأي اعتداء عسكري على حلفائها في سوريا”.
المقالة منشورة على موقع جريدة الاستقلال .