الرئيسية » الاقتصاد السوري بين الممكن والمأمول

الاقتصاد السوري بين الممكن والمأمول

بواسطة Younes

مالك طالب

في ساحة يوسف العظمة وسط دمشق توجد وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية التي ينتظر منها السوريين تغيير شكل حياتهم الاقتصادية وتحقيق نوع من الراحة والبحبوحة المعيشية ونقل دولتهم لتعود لطريق التنمية والتطور
في هذه الورقة البحثية أحاول تقديم نظرة استشرافية عن مستقبل التنمية الاقتصادية لسوريا الجديدة.

 نبذة تاريخية عن الاقتصاد السوري

بدأت الحكومات الأولى لسوريا بناء الاقتصاد بعد الاستقلال من الاحتلال الفرنسي باعتمادها فطرياً اقتصاد السوق والذي كان ذا طابع اقطاعي برجوازي تركزت فيه الثروة لدى فئات وطبقات وعوائل محددة غالباً سكنت حلب ودمشق وحماه امتلكت الأراضي الزراعية الواسعة وبعضهم كان من رواد الصناعات النسيجية على مستوى العالم في تلك الحقبة، نتج عن هذا النموذج صراع طبقات بين العمال والفلاحين من جهة والملاك من جهة وسط غياب الخطط التنموية الاجتماعية من قبل الحكومات حينها أدى إلى تراجع هذا النموذج، لتدخل سوريا بمرحلة الوحدة مع مصر وتتبنى بذلك النظام الاشتراكي الذي يقوم على سيطرة الدولة على وسائل الإنتاج وتوزيع الثروة حيث تغولت الدولة في الاقتصاد على عكس المرحلة السابقة مما تسبب بالضرر الكبير بالقطاع الخاص الإنتاجية، بعد الانفصال و وصول حزب البعث للسلطة رُسخ النموذج الاشتراكي المتغول والذي اعتمد على التخطيط المركزي وتم التوسع في القطاع العام واحتكار الشركات الحكومية لقطاعات واسعة من الإنتاج كالنفظ والغاز والنقل والغذاء مما أدى لتراجع القطاع الخاص وافتقر الاقتصاد للتنوع والتنافسية وتراجع جودة المنتج السوري رافق ذلك موجة هائلة من الفساد والبيرقراطية تسببت بخسائر فادحة لهذه الشركات، استمر الوضع هكذا حتى مطلع الألفية الجديدة و وراثة بشار الأسد للحكم حيث حاول تبني سياسات اقتصادية أكثر انفتاحاً ومحاولة إعادة القطاع الخاص للواجهة تماشياً مع تطورات الاقتصاد العالمي، لكن نتيجة الفساد والمحسوبية وتوجيه الاستثمارات نحو دائرة ضيقة من المنتفعين المقربين من السلطة على رأسهم رامي مخلوف وبعض رؤوس البرجوازية الدمشقية والحلبية أدى ذلك لمشاكل مستجدة للمجتمع السوري كالبطالة والتضخم وظهور طبقات متفاوتة من الحالة المعيشية كان ذلك إحدى أسباب اندلاع الثورة السورية وهنا سينتقل الشكل الاقتصادي السوري لأسوء مراحله وهي مرحلة اقتصاد الحرب حيث سخر النظام كل مقدرات الدولة لخدمة حربه على الشعب ولتعبئة جيشه والميليشيات التي استقطبها مما أدى لتدمير البنية التحتية وتوقف الإنتاج وهروب رؤوس الأموال الوطنية لدول الجوار وتولد لدينا مافيات اقتصادية داخل الاقتصاد انهكت الشعب ودمرت مقدراته بل ذهبت ابعد من ذلك باتخاذها صناعة وتجارة المخدرات كالكبتاغون مصدر للتمويل والإثراء.

الواقع والتحديات التي يمر بها الاقتصاد السوري

وصل الثوار دمشق صبيحة الثامن من ديسمبر أسقطوا في هذا اليوم نظاماً شمولياً نهب البلد بمختلف ثرواته وأصوله حيث كانت خزائن المصرف المركزي فارغة لا تحتوي نقداً أجنبياً او احتياطيات من الذهب
تعاني البلاد من الإفلاس نتيجة سوء الإدارة والحرب والنهب والفساد والتهور في اتخاذ إجراءات وقرارات مالية كارثية كالتمويل بالعجز التي انهكت الليرة وتدهورت القوة الشرائية للفرد وأصبح أكثر من 80 % من السوريين تحت خط الفقر.

على الرغم من التنوع في القطاعات والموارد الاقتصادية السورية من زراعة وصناعة وسياحة وخدمات وعلى الرغم من التحويلات المالية الضخمة للمغتربين إلا أن التحديات والصعوبات التي ستواجه الحكومة الجديدة أكبر بكثير نذكر أهمها :

1- ترك النظام تركيبة اقتصادية تعاني من مشاكل وأزمات تتمثل بالفقر والبطالة والفساد وقطاع عام متخلف تقنياً بإنتاجية ضعيفة ومستوى متدني بالدخل والاجور مما أدى لتسرب الكفاءات والخبرات البشرية خارج سوريا،
نتج عن ذلك بنية اجتماعية متفككة تعاني ويلات الحرب من مدن مهدمة ( تقدر عدد المباني المهدمة بعشرات الآلاف في كل من حمص وحلب ودمشق وادلب كلاً على حدى) وبنية تحتية مدمرة وتراجع مخيف في جودة وكفاءة التعليم بكافة مراحله

2- دولة مكبلة بعدة طبقات من العقوبات الاقتصادية التي يعود تاريخ بدأها إلى عام 1979 بدا أثرها واضحاً في تراجع الشق التكنلوجي والتقني في معظم القطاعات الاقتصادية وعلى رأسها القطاع العام الذي قد نجد فيه خطوط انتاج وتقنيات تعود لثمانيات القرن الماضي بأفضل التقديرات نحتاج ثلاثة إلى خمسة سنوات لإزالة العقوبات بشكل كامل ونهائي وهي مدة طويلة يجب اختصارها عن طريق الحصول على استثناءات مباشرة تُعلق فيها بعض العقوبات ليكون لدى الدولة القدرة على استيراد الطاقة والتقنيات والتكنولوجيا اللازمة للإنتاج بالإضافة لاستثناءات في الائتمان المالي لتسهيل حركة الأموال من وإلى أجهزة الاقتصاد من مصارف واسواق مالية.

3- أزمة خانقة بقطاع الطاقة الحيوي والهام على صعيد إعادة تدوير عجلة الإنتاج إذ تفتقد سوريا لحقول النفط التي كانت تغذي اقتصادها وأسواقها قبل اندلاع الثورة وهي اليوم ترزح تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية وهي رهينة مساومات سياسية معقدة مع دول متعددة أهمها الولايات المتحدة وتركيا وغيرهم
بالإضافة لشبكة كهرباء مدمرة ومحطات توليد خارج الخدمة منذ سنوات طويلة مما جعل الحكومة السورية الجديدة في أمس الحاجة لأدنى الموارد الأساسية للعملية الإنتاجية.

إلى أي النماذج الاقتصادية تبحر السفينة السورية

أدلت الإدارة الجديدة بعد أيام من دخولها دمشق بعدة تصريحات عن المستقبل الاقتصادي لسوريا أهمها اعتمادها على نموذج السوق الحر وتحدثت عن زيادة الرواتب بنسبة 400 % ورفع المستوى المعيشي للمواطنين وإعادة تفعيل عملية الإنتاج وألمحت إلى تطبيق نظام الخصخصة لبعض الشركات والمؤسسات التابعة للقطاع العام

يمكن قراءة العقيدة الاقتصادية للإدارة الجديدة من التجربة المجتزئة التي خاضتها في إدلب طبقت فيها اقتصاد ريعي يعتمد على المساعدات الإنسانية، حررت فيه الأسعار وفتحت أبواب التجارة الداخلية والخارجية عن طريق تركيا مع ممارسة سياسة الاحتكار لبعض الأصناف التجارية وقيادتها للقطاع المالي عبر ما عرف حينها بالمؤسسة العامة لإدارة النقد حيث تحكمت بشكل كبير بحركة الحوالات المالية الواردة للمحرر وضبطت عن طريقها شبكات الأموال التي كانت تغذيها المنظمات العاملة في شمال غرب سوريا تنطلق الإدارة الجديدة في طروحاتها الاقتصادية المبدئية من رغبتها بمواكبة الشكل الاقتصادي لدول حققت نجاحات تنموية بعضها إقليمي كالسعودية وتركيا او نماذج مثالية مثل ماليزيا التي قال الوزير الشيباني أنهم يستلهمون منها رؤيتهم الاقتصادية في معرض رده على سؤال لرئيس وزراء بريطانيا السابق طوني بلير في منتدى دافوس، في هذا السياق من المعلوم ان تبني اي نموذج وشكل لنظام اقتصادي ما يحتاج لدعم سياسي وتكامل بنيوي مع دول تحمل نفس الأدبيات الاقتصادية فكون الإدارة الجديدة تسعى لتطبيق نموذج السوق الحر من تحرير للأسعار وتحرير للتجارة الداخلية والخارجية ولقطاعات المال والمصارف والتأمين وإطلاق أسواق الأسهم والأوراق المالية وخصخصة القطاع العام وتقليص الإنفاق العام الاستثماري والجاري فهذا يعني انتماءها اقتصادياً وسياسياً لحد ما مع الدول الغربية.

يتسائل المهتمين بالشأن الاقتصادي هل فعلاً يمكن للإدارة الجديدة تبني نموذج السوق الحر الذي يعود لأفكار آدم سميث
ينطلق البعض برأيهم من ماضي و واقع الاقتصاد السوري بصعوبة أن تتخلى الدولة الجديدة عن دورها في التدخل لتحقيق التنمية الاجتماعية وضمان عدالة اجتماعية وتوزيع عادل للثورة قد لا يستطيع السوريين رؤية الدولة بعيدة عن ممارسة دورها في الرعاية والخدمات الاجتماعية وأهمها الصحة والتعليم ، لتبقى الخيارات مفتوحة والاساليب والنظم غير جامدة ونستطيع رؤية تجارب مختلفة حققت التوازن بين المصلحة العامة والخاصة في الدولة، ألمانيا مثلاً تتبع نظام اقتصادياً فريداً طبقت فيه الرأسمالية وحافظت على دورها الريادي في تحقيق العدالة الاجتماعية بأدوات ومؤسسات مثل الجوب سنتر (Jobcenter) الذي يعتبر مؤسسة حكومية تُعنى بتقديم الدعم للأشخاص العاطلين عن العمل أو الذين يمتلكون دخلاً منخفضاً . يهدف الجوب سنتر إلى مساعدة الأفراد في العثور على عمل وتحسين مهاراتهم من خلال عدة خدمات أياً كان الشكل والنموذج القادم للاقتصاد السوري سواءً اقتصاد حر أم اشتراكي أم نموذج هجين كإقتصاد السوق الاجتماعي يجب على الحكومة الجديدة العمل على تحسين الإنتاجية ورفعها لمستوى قريب لما وصلت له في باقي دول العالم ومحاولة ايجاد موقع تنافسي للمنتج السوري ومواكبة التقنيات الحديثة في القطاعات الاقتصادية والدخول في شراكات متنوعة مع مختلف التكتلات الاقتصادية بكافة مستوياتها النامية والمتقدمة.

مقالات ذات صلة