الكاتب حسن المروان حراج
تشكل العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا أداة ضغط سياسية ذات تشابكات اقتصادية معقدة، هدفت الى تقويض قدرة مافيا عائلة الأسد البائد وأمراء الحرب الاقتصاديين و شبكات المصالح وشبكات الإرهاب وشبكات المخدرات و مجرمو الحرب المرتبطين ، ورغم الحديث الدائم عن تأثيرها على المجتمع السوري، فإن تداعيات هذه العقوبات تبقى أقل وضوحًا مقارنة بالتأثيرات التي تلحق بالدوائر الحاكمة وأمراء الحرب فالعقوبات تستهدف في النهاية تقويض قدرة السلطة الاستبدادية على الاستمرار، وتفرض قيودًا على القطاعات الاقتصادية الحيوية، بينما تظل آثارها على الشعب محدودة، وهو ما يفضح التوجهات المغلوطة التي تصوّر العقوبات كأداة لإذلال الشعوب بدلاً من كونها وسيلة لتغيير سلوك الأنظمة الحاكمة ودعم عملية التحول السياسي نحو الديمقراطية.
تصنيف العقوبات على سوريا: تصنيفها الزمني والموضوعي وتأثيراتها المتعددة
تتنوع هذه العقوبات بين عقوبات أممية، وأخرى أمريكية وأوروبية، وتشمل عقوبات أحادية الجانب مرتبطة بمكافحة الإرهاب، وأخرى تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان، بالإضافة إلى عقوبات قطاعية حكومية وخاصة العقوبات على القطاعات المصرفية والتجارية والطاقة ، بدأت العقوبات الأممية والأمريكية على سوريا استنادًا إلى قرارات الأمم المتحدة، حيث ركّزت في مراحلها الأولى على العقوبات المرتبطة بالإرهاب والانتشار غير المشروع للأسلحة، بهدف عزل نظام الأسد وبعض فصائل المعارضة عن الساحة الدولية، فقد تركزت العقوبات الأمريكية على ( القطاع المصرفي والقطاع التجاري) حيث فُرضت قيودًا على أي بنك مقرّه سوريا ، مما أدى إلى عزلها عن النظام المصرفي العالمي، إضافةً إلى فرض قيود على فتح الحسابات المصرفية بين البنوك السورية ونظيراتها الأجنبية، الأمر الذي أدى إلى تراجع القدرة على تنفيذ التحويلات المالية وهنا ينحصر تأثير العقوبات التي تسببت في ضيق الخناق المالي على المجتمع السوري، حيث أصبح من الصعب تنفيذ التحويلات المالية بين سوريا والدول الأخرى .
أما على صعيد العقوبات التجارية، فقد كان تأثيرها محدودًا بسبب وجود الصين كبديل تجاري، إلا أن العقوبات الأمريكية أثّرت بشكل كبير على السلع التكنولوجية والمنتجات التي تحتوي على تقنيات أمريكية، مثل الحواسيب المحمولة والأجهزة الطبية وغيرها من المنتجات التي تعتمد على التكنولوجيا الأمريكية، ورغم تأثر السوق السوري بهذه القيود، فإن ضعف العلاقات التجارية بين سوريا والولايات المتحدة في تلك الفترة خفّف من الأثر المباشر لهذه العقوبات ، وفيما يتعلق بالعقوبات المستهدفة ضد الأفراد، فقد فرضت الولايات المتحدة عقوبات أحادية الجانب على شخصيات متورطة في الإرهاب أو انتهاكات حقوق الإنسان داخل سوريا، وشملت هذه العقوبات حظر السفر، وتجميد الأصول المالية وحساباتهم المصرفية في البنوك الأوروبية والدولية، إلى جانب رصد الشركات التي أسسوها في الخارج، ومراقبة أي أنشطة مرتبطة بغسيل الأموال، وقد جاءت هذه العقوبات في إطار استراتيجية تهدف إلى عزل النظام البائد وإضعاف شبكات دعمه المالي والإرهابي.
أما بالنسبة لعقوبات الاتحاد الأوروبي فقد فرض سلسلة من العقوبات القاسية على القطاع النفطي، لا سيما المؤسسة العامة للنفط، حيث تم منع تصدير النفط إلى سوريا بشكل كامل، وقد أسفرت هذه العقوبات عن شلل شبه تام في خزينة الدولة، حيث أصبح من الصعب على الحكومة السورية استيراد وتصدير النفط الخام ومشتقاته، بالإضافة إلى ذلك، أدى الضغط الأوروبي إلى انسحاب 11 شركة دولية من شرق سوريا وهو ما فاقم من حالة العزلة الاقتصادية التي تعيشها البلاد.
فرضت العقوبات على سوريا منذ نهاية السبعينيات عام 1979 وتوسعت بشكل أقسى بعد عام 2013 .
في عام 1979 فرضت الولايات المتحدة أولى عقوباتها على سوريا، حيث أدرجت البلاد على قائمة الدول الداعمة والراعية للإرهاب، جاء هذا التصنيف نتيجة دعم سوريا لجماعات مسلحة في المنطقة مثل حزب الله اللبناني وكتائب شيعية في العراق ، وهو ما اعتبرته واشنطن تهديدًا للأمن الإقليمي على إثر ذلك، تم فرض عقوبات اقتصادية محدودة تمثلت في منع الولايات المتحدة تقديم أي مساعدات مالية أو تنموية إلى سوريا ، حظر تصدير الأسلحة، قيود على المعاملات التجارية والمالية بين الشركات الأمريكية و حكومة أسد.
في عام 2003، توسعت العقوبات الأمريكية لتشمل شخصيات من بين هذه الشخصيات ذو الهمة شاليش، بسبب تورطه في شراء النفط المهرب من العراق خلال فترة الحصار الدولي على العراق، هذه الخطوة اعتبرت بمثابة خرق لبرنامج (النفط مقابل الغذاء) الذي كان يشرف عليه الأمم المتحدة، وكانت هذه الحادثة نقطة تحول مهمة في توسيع نطاق العقوبات الأمريكية .
في عام 2004، أصدر الرئيس الأمريكي جورج بوش قانون (محاسبة سوريا واستعادة السيادة اللبنانية) هذا القانون فرض عقوبات اقتصادية شاملة ضد سوريا تمثلت في حظر تصدير كل السلع الأمريكية باستثناء الدواء وفرضت الولايات المتحدة قيودًا على البنوك السورية، ما صعب عليهم التعامل مع النظام المصرفي الدولي ، بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في عام 2005، اتجه الاتحاد الأوروبي إلى فرض عقوبات على سوريا، ورغم أن هذه العقوبات كانت قد تم الإعلان عنها، إلا أنها ظلت مجمدة لبعض الوقت بسبب تباين المواقف داخل الاتحاد الأوروبي، حيث كانت هناك بعض الدول التي تحفظت على فرض عقوبات شاملة ، في نفس العام، استهدفت العقوبات الأمريكية رامي مخلوف، بسبب مخالفته لقانون محاسبة سوريا واستغلاله لعلاقاته الوثيقة بعائلة الأسد لتحقيق مكاسب مالية غير مشروعة، كان هذا المثال إشارة إلى تزايد الضغط على الشبكات الاقتصادية المرتبطة بمافيا الأسد المالية .
بعد بدء الثورة السورية في مارس 2011، فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وكندا وأستراليا عقوبات واسعة على نظام أسد استهدفت مجرمو حرب منهم رئيس الاستخبارات عام 2013 ، مؤسسات مالية، وقطاعات النفط والطاقة، في 2014، فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات شملت حظر تصدير النفط السوري أدى لانسحاب 11 شركة نفطية من شرق سوريا ومن ثم فرضت الولايات المتحدة عقوبات جديدة استهدفت البنك المركزي السوري، ومنعت التعاملات المالية معه ، في يونيو 2020، دخل “قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا” حيز التنفيذ، وهو من أشد العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة، إذ استهدف جميع الكيانات والشركات التي تتعامل مع النظام السوري، حتى لو كانت غير أمريكية .
في 2023، أقرّ الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة عقوبات إضافية، استهدفت عمليات إنتاج المخدرات في سوريا (الكبتاغون)، والتي يُتهم الأسد وحكومته وشبكاته باستخدامها كمصدر تمويل رئيسي في 2024، فرضت الولايات المتحدة قيودًا جديدة على شركات وأفراد مرتبطين بالنظام السوري، خاصة في قطاعي الطاقة والمصارف.
العقوبات رفعًا تدريجيًا أم تفكيكًا تدريجيًا، أم ستظل ورقة ابتزاز سياسي بيد الإدارة الحالية؟
في المرحلة الحالية، من غير المرجح أن تقوم الدول برفع العقوبات المفروضة على سوريا ، بل ستتجه نحو نهج تدريجي يشمل التجميد الجزئي واستثناءات محدودة، لا سيما في القطاعين المصرفي والطاقوي، ويرجع ذلك إلى سببين رئيسيين أولًا، من الناحية الجيوسياسية، لن تتخلى الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي بسهولة عن ورقة الضغط الوحيدة التي تمتلكها في الملف السوري، إذ تتبع الدول الأوروبية نهج “الخطوة بخطوة“، ما يعني أن أي تخفيف للعقوبات سيظل مرهونًا بالتقييمات السياسية للدول الغربية تجاه الإدارة الحالية لحكومة الشرع أما ثانيًا، من الناحية الإجرائية التقنية، فإن بعض العقوبات، مثل “قانون قيصر“، تم فرضها من قبل مؤسسات حكومية أمريكية، مما يجعل إلغائها أو تعديلها عملية معقدة تستغرق وقتًا طويلًا، نظرًا للحاجة إلى إجراءات تشريعية وتنفيذية وإدارية داخل المنظومة الأمريكية.
هل تفكيك العقوبات قدرٌ مشروط تُحدده مصالح دولية؟
تفكيك العقوبات يعد مسارًا مشروطًا يرتبط بشكل وثيق بالمصالح الدولية وتقييمات القوى الكبرى في الساحة السياسية، هذه العقوبات ليست فقط نتيجة لتفاعلات محلية أو إقليمية، بل هي جزء من استراتيجية دولية تهدف إلى تحقيق أهداف و مصالح سياسية، اقتصادية، وأمنية حيث تشير الأوضاع الحالية إلى أن بعض الدول ستخفف من العقوبات المفروضة لكن ذلك سيكون مشروطًا بعدة مطالب سياسية وأمنية لاعضاء الاتحاد الاوربي.
فقد اعلنت وزارة الخارجية الهولندية أنها ستخفف العقوبات مقابل شرط إخراج القوات والقواعد العسكرية الروسية من سوريا,
أما اليونان فستكون على استعداد لتخفيف العقوبات، لكن بشرط ألا تقوم تركيا بترسيم الحدود البحرية بشكل يتعارض مع مصالحها .
بالنسبة لـ الولايات المتحدة، فإن تخفيف العقوبات سيكون مشروطًا بعدة عوامل، منها الضغط على سوريا في ما يتعلق بوجود القوات الروسية، واستخدامها ورقة العقوبات للضغط من أجل تنازلات متعلقة بإسرائيل، كما أن هناك ضغوطًا تتعلق بطرد إيران ، بالإضافة إلى قضايا تجارية مثل التبادل التجاري مع الصين وعقود إعادة الإعمار، وأيضًا تفكيك شبكات المخدرات المنتشرة .
فيما يتعلق بـ فرنسا، فهي تشترط إشراك قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ضمن الجيش السوري كشرط لتخفيف العقوبات .
أما مصر والإمارات، فهما لديهما مخاوف من التعامل مع الإدارة السورية الحالية، نظرًا للتركة التاريخية للهيئة من ارتكاب جرائم حرب وانتهاكات حقوق الإنسان و القتل خارج إطار القانون ففي ظل هذه الإدارة قد يسهم في إعادة تدوير جماعات متطرفة قد تؤثر على استقرار الدول المجاورة، من جهة أخرى، الصين، رغم كونها دولة ذات نظام يصعب التأثير عليه في حال طرح ملف العقوبات أمام الأمم المتحدة، إلا أنها تظل متخوفة من تعيين شخصيات من الإيغور في المناصب الرسمية داخل الدولة السورية.