في خضم التحولات الاقتصادية والنقدية التي يشهدها المشهد السوري، تبرز قضية حذف الصفر من العملة كخيار استراتيجي لمواجهة تداعيات التضخم والخلل في النظام المالي. وعلى الرغم من أن الإجراء يبدو من منظور تبسيطي وسيلة لتعزيز الثقة بالنظام النقدي وتسهيل المعاملات، فإن تطبيقه على أرض الواقع يحمل أبعادًا اقتصادية وسياسية وإدارية عميقة.
ومن هنا تبرز الحاجة إلى تحليل شامل يستند إلى دراسة التكاليف المباشرة وغير المباشرة ومستوى التنظيم المطلوب وآفاق التحكم في السياسات النقدية ضمن الإطار الأعلان الدستوري الساري.
1. جدلية تكلفة الطباعة والقيمة الاسمية للعملة
تمثل تكلفة الطباعة واحدًا من أبرز التحديات التي تواجه مشروع إعادة هيكلة العملة. يُلاحظ أن تكلفة طباعة العملة غالبًا ما تتجاوز قيمتها الاسمية، مما يثير الشكوك حول جدوى هذا الاستثمار في ظل محدودية الموارد الاقتصادية. ومع ذلك، تظل مسألة عدد الأوراق النقدية المطلوب طباعتها غير محسومة، حيث تعتمد بشكل كبير على نطاق التنفيذ: هل ستشمل العملية جميع الفئات النقدية الحالية أم سيتم الاقتصار على الفئات التي تحمل صورة رأس النظام البائد؟، ومن هنا تنقسم المسألة بحسب نطاق التنفيذ:
- على مستوى طباعة جميع الفئات النقدية المتداولة: تختلف التكاليف بشكل جزيئي حسب الفئة النقدية، بحيث تصبح:
- فئة 5000 ليرة: تُشكّل حوالي 40% من إجمالي الكتلة النقدية المطبوعة، وتُقدر تكلفة طباعتها وحدها عند ما يقارب 12 مليار دولار أمريكي.
- فئتا 1000 و2000 ليرة: تُعدا عملتين وسيطتين تُساهمان في تسهيل المعاملات اليومية؛ إذ تُقدر تكلفة طباعتهما مجتمعين بحوالي 4.5 مليار دولار أمريكي.
- فئة 500 ليرة: تشكل حوالي 10% من السيولة الأجنبية المتداولة، مع تكلفة تقديرية تبلغ 3 مليار دولار أمريكي.
- فئة الليرة (أقل فئة نقدية): تصبح تكلفة طباعة هذه الفئة مبالغ فيها، حيث تصل التكلفة إلى 15 مليار دولار أمريكي.
تظل نقطة عدد الأوراق المطلوبة للطباعة غير محسومة بشكل قطعي؛ إذ يعتمد ذلك على قرار السلطات فيما إذا كانت ستشمل العملية جميع الفئات النقدية أو سيتم الاقتصار على تلك التي تحمل صورة رأس النظام البائد.
2. انحراف سياسات الطباعة عن المعايير الدولية
تمثل سياسات طباعة النقود خلال سنوات الصراع في سوريا انحرافاً واضحاً عن المعايير الدولية المعتمدة في الأسواق العالمية، حيث تُعتمد نسب محدودة للطباعة (عادةً بين 2% و5% من الناتج المحلي الإجمالي) لضمان استقرار العرض النقدي. إلا أن النظام السوري اتخذ قراراً بطباعة كميات تعادل حجم الناتج المحلي الإجمالي، مما أدى إلى تضخم الكتلة النقدية بشكل كبير.
شهدت سوريا زيادة ملحوظة في الكتلة النقدية المتداولة، حيث ارتفعت من 600 مليار ليرة سورية في عام 2011، ومثلها كانت تستخدم عبر القنوات المصرفية، إلى 30 تريليون ليرة في عام 2021، ثم إلى 60 تريليون ليرة في نهاية عام 2023. كان الهدف من هذه الطباعة الحفاظ على السيولة بما يتماشى مع قيم الناتج المحلي، خاصة أن معظم الاقتصاد السوري يعتمد على النشاط الخدمي.
هذا الانحراف عن المعايير الدولية أدى إلى فجوة كبيرة بين النقد المتداول والنشاط الاقتصادي الفعلي، مما يثير تساؤلات حول استقرار العرض النقدي على المدى البعيد. رغم أن هذه السياسات قد تكون أساسية لدعم الاحتياجات الفورية خلال الأزمة، إلا أنها غالباً ما تواجه تحديات كبيرة، مثل التضخم المفرط وانخفاض قيمة العملة. يبقى السؤال الأهم هو كيفية تحقيق توازن بين الضرورات قصيرة المدى والاستقرار الاقتصادي بعيد المدى.
3. العبء التنظيمي وإعادة الهيكلة الاقتصادية
تتجاوز تداعيات حذف الصفر مجرد التعديل الشكلي للعملة؛ فهي تتطلب إعادة تنظيم شاملة للأسعار والرواتب، وإخراج العملة القديمة من التداول تدريجيًا. تترتب على هذه العملية تكاليف تشغيلية وتنظيمية هائلةً قد تثقل كاهل النظام الاقتصادي السوري، وتحرفه من تركيزه نحو اعادة اطلاق النشاط الاقتصادي، كما تؤثر بشكل مباشر على الحياة اليومية للمواطنين من خلال تعقيد المعاملات وزيادة معدلات التضخم.
4. أبعاد الشفافية ومخاطر الفساد
تثير هذه العملية تساؤلات حول مستوى الشفافية والنزاهة، خاصةً مع ارتباط جهات مثل شركة “شام كاش” وبنك الشام وحازم الشرع بعقد صفقات الطباعة. فقد أدت تسريبات صور العملات الجديدة بعيد التحرير إلى تأكيد وجود صفقات تمت دون الرقابة الكافية، مما يزيد من مخاطر الفساد ويضع آليات الرقابة في موقع محوري لضمان ثقة المستثمرين والمواطنين.
5. مواقع الطباعة وإدارة العملية النقدية
تم طرح عدة سيناريوهات لمواقع تنفيذ عملية الطباعة، تشمل الخيارات الخارجية كدول باكستان، العراق( ايران)، وروسيا ، الجزائر أو الاعتماد على المنشآت المحلية داخل سوريا. تشير المؤشرات الأخيرة إلى احتمالية تنفيذ العملية محلياً، مما قد يخفض التكاليف اللوجستية والنقل، ولكنه يثير تساؤلات حول قدرة البنية التحتية السورية على تطبيق معايير الجودة اللازمة.
واذا ما تمت محلياً هل ستون ضمن المركزي اما بنك شام ومن يقف خلفه من هئية اقتصادية ؟
6. الأبعاد الدولية والضغوط الخارجية
يُبرز حذف الصفر تأثيرات جيوسياسية تتمثل في تراكم مبالغ نقدية ضخمة لدى التجار بالخارج، ما يُضاعف الضغوط الخارجية على النظام المالي السوري. هذا السياق الدولي يزيد من تعقيد استقرار السياسات النقدية ويضعف الثقة في النظام مع احتمالية تحولات اقتصادية مستقبلية.
7. مخاطر التضخم وانفلات السيطرة النقدية
تُعد سياسة طباعة العملة، بغض النظر عن الفئة المستهدفة من العملة السورية، من الأدوات النقدية التي تُسهم في توسيع الكتلة النقدية( سياسات توسعية) التي بوضع كالوضع الاقتصادي السوري قد يتجاوز الاحتياجات الاقتصادية الفعلية مما تؤدي الى تحويل ظل التضخم الحاد الذي يشهده الاقتصاد السوري الى تضخم بمستويات منفلت ، في ظل غياب الرقابة الواضحة على عمليات الإصدار النقدي ، حيث إن أي تقصير في الإشراف الإداري والمالي قد يؤدي إلى اضطرابات نقدية إضافية تعدم القدرة الشرائية الى مستويات لا ينمكن اصلاحها الا بمرور سنوات طويلة، مما يعرض السوريين لخطر تفاقم الأزمة الإنسانية وحدوث مجاعة تُخنق آفاق إعادة بناء الدولة وتماسك الوحدة الجغرافية.
تتفاقم المخاطر بوجود كميات كبيرة من السيولة المحتجزة خارج نطاق سيطرة البنك المركزي والجهات الرسمية – والتي يُشار إليها أحياناً بخزائن النظام السابق” – سواء داخل سوريا أو خارجها، إذ يمكن استغلال هذه السيولة لتعطيل عمليات الاستبدال النقدي وافشالها باغلاق عملية الاستبدال بالسيولة المخزنة .
ومن هنا، تقتضي المعطيات ضرورة تبني إصلاحات مؤسسية تعيد سيطرة المركزي على السوق النقدية وقنواته، واعادة تنسيق السياسات الملاية و النقدية مما يعزز الاستقرار النقدي ويمنع تذبذبه عندها يمكن الانطلاق بمشروع الطباعة.
8. الإشكاليات القانونية والدستورية
من الناحية القانونية، تُعد عملية الطباعة النقدية قبل استقرار التضخم عند مستوى ثابت هدرًا في الموارد؛ حيث أنه سرعان ما يعود التضخم إلى الارتفاع، مما يستلزم طباعة كميات أكبر لتلبية احتياجات التداول. كما أن عملية التطباعة تتطلب موافقة تشريعية غير متوفرة في الإعلان الدستوري الجديد، وهو ما يؤدي إلى مخالفة نصوص الدستور السابق الذي لا تزال بعض بنوده سارية وخاصة ان عملة هي جزء من الدستور و حامي الحريات .
هذا التناقض بين الإطار التشريعي القديم والحديث يستلزم مراجعة تشريعية عاجلة لضمان توافق السياسات النقدية مع المتطلبات الدستورية .
9. تساؤلات حول تسمية العملة الجديدة
تشكل مسألة تسمية العملة بعد تنفيذ عملية حذف الصفر أحد النقاط المثرة للجدل قد تطرح في منهجية الإصلاح النقدي.
وينقسم النقاش إلى عدة خيارات:
- الاحتفاظ بالتسمية التقليدية (الليرة): يُمثل هذا الخيار رمزية وهوية تاريخية متأصلة.
- اعتماد تسمية جديدة مثل الدرهم أو الدينار: يُمكن تسويق هذا الخيار على انه خطوة إصلاحية كما حدث بايران بين الريال و تومان وغيرها من الدول ، وذلك بهدف تعريف النظام الجديد لهويته النقدي وسياساته المالية.
- الليرة الإسلامية: قد يُنظر إلى هذا الخيار على حل وسط يجمع بين اتجاه الذي تبرزه الحكومة بخطابها الدينية والثقافية للمجتمع، وبين الهوية المجتمع
يتطلب الاختيار إجراء دراسة متعمقة ومشاورات تشريعية وإدارية لتحديد الخيار الأنسب بما يتماشى مع الرؤية الإصلاحية الشاملة للنظام المالي السوري من جهو وه نظرة المجتمع الدولي للتصرف الحكومة بسياساتها المالية والنقدية.
يتضح من خلال هذا التحليل أن إعادة الهيكلة النقدية ليست مجرد إجراء شكلي، بل هي نسيج متشابك من الأبعاد الاقتصادية والسياسية والقانونية وتحديًا استراتيجيًا يتطلب إصلاحات شاملة مدعومة بتدابير تشريعية وتنظيمية دقيقة لضمان استقرار اقتصادي ونقدي مستدام.
توصيات المقترحة تشمل:
- تعزيز آليات الرقابة والشفافية: اعتماد تشريعات وضوابط صارمة لضمان نزاهة عملية الطباعة والحد من مخاطر الفساد.
- الالتزام بالمعايير الدولية: ضبط نسب الطباعة بما يتماشى مع الناتج المحلي الإجمالي (بين 2% و5%) لتفادي تضخم الكتلة النقدية.
- اعتماد نهج شامل لتجديد النظام النقدي: إجراء دراسة جدوى اقتصادية مفصلة لجميع الفئات النقدية لتحقيق توزيع متوازن لتكاليف الطباعة والتجديد.
- مراجعة الإطار القانوني والدستوري: تحديث النصوص التشريعية والدستورية بما يضمن توافق السياسات النقدية مع المتطلبات القانونية الحديثة.
- إصلاح السياسات النقدية الهيكلية: تبني سياسات نقدية متوازنة تهدف إلى استقرار الأسعار وتعزيز تدفق السيولة بما يتوافق مع الأهداف الاقتصادية الوطنية.
- الدلورة الجزئية: اعتماد على الدلورة الجزئية كوسيلة بديلة عن التضخم بحيث يتم تقديم سلع الاساسية وخدمات الدولة بالليرة و يمكن تعال الدولار بالعمليات التجارية الكبيرة مثل عند 20 الف دولار وهو رقم يتغير اسبويعا بناء على قرار المركزي على ان يتم ايداع 40% وديعة مصرفية بفائدة ثابتة لمدة دورة سلعية كاملة بحيث يتمكن المركزي استخدامها كاحتياطي له .