أيهم الشيخ
في خطوة أثارت اهتمامًا وردود فعل متباينة، وقعت الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية اتفاقية مع الشركة الفرنسية “CMA CGM”، لإدارة وتشغيل محطة الحاويات في مرفأ اللاذقية.
وبحسب مصادر حكومية، فإن مدة الاتفاقية هي 30 سنة، وهي المدة المعتمدة عالميًا لمثل هذا النوع من الاستثمارات لضمان الجدوى الاقتصادية وتحقيق الأهداف التطويرية المنشودة.
وقالت المصادر إن الشركة الفرنسية ستباشر خلال هذه المدة بضخ استثمارات أولية بقيمة 30 مليون يورو خلال السنة الأولى، مخصصة لتطوير البنية التحتية والفوقية وصيانة المعدات الحالية والأرصفة، بالإضافة إلى إدخال أنظمة تشغيل وتكنولوجيا حديثة تعتمدها الشركة في موانئ عالمية أخرى. كما ستضخ في السنوات الثلاث التالية استثمارات إضافية تصل إلى 200 مليون يورو.
لكن هذا الاتفاق لم يمر دون انتقادات وتحذيرات من خبراء اقتصاديين ونشطاء سياسيين، نظرًا إلى التعقيدات المحيطة به على المستويات الداخلية والدولية.
يقول الباحث الاقتصادي يونس الكريم، في تصريحه ، إن الاتفاق، ورغم ما يحمله من أهمية استراتيجية واقتصادية للبلاد، يواجه عراقيل حقيقية تحول دون تنفيذه على أرض الواقع. وأوضح أن هذه العراقيل تتوزع بين معوقات سياسية وأمنية واقتصادية ودستورية.
وأشار الكريم إلى أن أولى هذه التحديات تتمثل في الإطار السياسي الداخلي، إذ إن الحكومة الانتقالية الحالية تفتقر إلى قاعدة تمثيل واسعة، وتُحكم بسيطرة سياسية “أحادية اللون” في ظل استمرار الاضطرابات في مناطق مثل الساحل والسويداء وريف دمشق، وهي مناطق شهدت أحداثًا وصفت إعلاميًا وقانونيًا بـ”جرائم الحرب”. وهو ما يطرح تساؤلات جوهرية حول قدرة الحكومة على تأمين الاستقرار اللازم لتنفيذ اتفاقيات طويلة الأجل، دون أن يشكل ذلك عبئًا سياسيًا على الطرف الفرنسي.
وفيما يتعلق بالوضع الأمني، لفت الكريم إلى وجود تشكيلات عسكرية غير نظامية ومقاتلين أجانب، خصوصًا في مدينة اللاذقية، ما يعيق بشكل مباشر قدرة الحكومة على توفير بيئة آمنة لاستقبال الاستثمارات الأجنبية الكبرى، خاصةً تلك التي تتطلب مشاريع بنى تحتية حساسة.
كما شدد على أن العقوبات الغربية المفروضة على الحكومة السورية، وخاصةً من قبل الولايات المتحدة، وعدم الاعتراف الدولي بها، تشكل عائقًا جوهريًا أمام أي محاولة لتمويل أو تنفيذ الاتفاق. وأكد أن إدراج شخصيات مسؤولة ضمن قوائم الإرهاب يضيف أعباء قانونية ومالية على الشركة الفرنسية، التي قد تخشى أن يؤدي انخراطها في المشروع إلى خسارة عقود في أسواق دولية أخرى.
وفي البُعد الجيوسياسي، يرى الكريم أن الوجود الروسي في الساحل السوري يفرض واقعًا خاصًا، إذ تستمر موسكو في استغلال المياه البحرية عبر اتفاقات سابقة للتنقيب عن النفط. وقد يُنظر إلى دخول شركة فرنسية على الخط كتهديد استخباراتي، وهو نفس المنطق الذي جعل الروس يمنعون حليفهم الإيراني من الاستثمار في المنطقة ذاتها.
من الجانب القانوني، نبّه الكريم إلى غياب الإطار الدستوري والتشريعي المستقر، في ظل الطابع الانتقالي للنظام الحالي، وهو ما يُضعف شرعية أي اتفاق دولي طويل الأمد، ويجعل من الصعب تفعيل التزامات قانونية متماسكة تجاه الشركاء الأجانب.
وأضاف أن توقيع الاتفاق مع طرف أجنبي دون تنسيق إقليمي، في وقت كانت فيه دول مثل الإمارات وتركيا قد أبدت قبل أيام اهتمامًا بالاستثمار في نفس الموقع، قد يُنظر إليه دوليًا كخطوة استبعادية تُعقّد الصورة السياسية للمشروع، في ظل تضارب المصالح والمواقف الإقليمية.
وختم الكريم بالقول إن خلفية هذا الاتفاق تعود إلى مفاوضات بدأت منذ عهد بشار الأسد، واستُكملت لاحقًا عبر قنوات لبنانية، ما يعكس سياسة تقوم على تقديم أصول استراتيجية مقابل نيل اعتراف سياسي أو مكاسب خارجية، وهو توجّه قد يزيد من تعقيد المشهد السوري الهش بدلًا من معالجته.
ومن زاوية قانونية سياسية أكثر حدّة، يؤكد المحامي والناشط السياسي السوري، زيد العظم، أن ما تم توقيعه مع شركة “CMA CGM” الفرنسية لا يعدو كونه تجديدًا لعقد قديم مع النظام البائد. والشركة لا تمثل الدولة الفرنسية، بل هي شركة خاصة لعائلة رودولف سعادة (عائلة سورية بالأصل)، ولطالما كانت حاضرة في سوريا منذ عهد الأسد الهارب، ورئيس مجلس إدارتها كان من أصدقاء بشار.
وأضاف أن العقد يصب في صالح الشركة الفرنسية على حساب مصالح السوريين، لأن الشركة دفعت فقط 230 مليون يورو مقابل الامتياز الحصري لاستغلال ميناء اللاذقية لمدة 30 سنة. في المقابل، ستحقق الشركة أرباحًا بالمليارات، وسيحصل سماسرة على ما يقدّر بـ 30 بالمائة من قيمة العقد، فيما سيتبقى للدولة السورية ما قدره 20 بالمائة، والباقي يذهب للشركة والشركاء الآخرين.
وطالب العظم بأن يكون هناك شفافية في مثل هذه الاتفاقات الهامة من خلال نشر بنود الاتفاقية في الجرائد والإعلام الرسمي ليتمكن الشعب السوري من معرفة بنود هذه الاتفاقيات.
تكشف هذه التصريحات المتشابكة عن عمق الإشكالات التي تكتنف أي محاولة لعقد شراكات اقتصادية دولية في سوريا، حيث تتداخل المصالح الخارجية مع هياكل محلية منهكة سياسيًا وممزقة أمنيًا. وبينما تروّج الحكومة لهذه الخطوة على أنها انفتاح اقتصادي، يرى منتقدوها أنها مجرد إعادة تدوير لصفقات سابقة تُكرّس الهيمنة الاقتصادية وتفتقر لأبسط معايير الشفافية والمساءلة. ويبقى السؤال مفتوحًا: هل تنجح مثل هذه الاتفاقات في تحقيق التنمية، أم أنها ستُضاف إلى سلسلة الملفات التي تُدار خلف الأبواب المغلقة في مشهد سوري يتأرجح بين الصفقات والتجاذبات؟
المصدر: الترا سوريا.