في إطار المشهد السياسي والاقتصادي المتداخل والمعقد، تأتي زيارة الشرع إلى فرنسا كمحاولة لإعادة صياغة مفاهيم القوة والتحالفات على المستوى الإقليمي والدولي. ففي غضون ساعات، ستنزل طائرة خاصة—لِم يُعرف بعد ما إذا كانت قطر أو السعودية وراءها—وتحمل الرئيس الشرع مع وزير خارجه إلى قلب الأحداث، حيث ينتظر الرئيس ماكرون في باريس، حريصًا على استحضار روح دور شيراك لمحاولة لملمة الواقع السياسي والاقتصادي المتردي الذي يعاني منه كل من فرنسا وأوروبا عبر حصول على دعم من اصحاب الطائرة واقامة مشاريع طاقة بسورية والعراق…الخ .
الأهداف السياسية والتحديات الداخلية
تنطوي الزيارة على ملفات سياسية حساسة؛ إذ يُتوقع أن تُطرح ملفات تتعلق بتقليل نفوذ قسد العسكري، والانتقال إلى نظام سياسي لا مركزي يتيح توزيع السلطة بأسلوب يشمل كافة المكونات. كما يُراد من هذه المناقشات طرح نموذج حكومي جديد يستلهم صيغة اتفاق الطائف، بهدف شمول باقي الطوائف وتخفيف حدة التوترات الاجتماعية والسياسية. وتظهر الرؤية أيضًا الاتجاه إلى “تحجميم” القوى الاقليمية ؛ في محاولة لتقليل تأثير كل روسيا وإيران على المشهد، مع الحد من التدخل التركي، وهو ما يعكس سعيًا لإعادة توازن السلطة بعيدًا عن النفوذ الخارجي.
البعد الاقتصادي والآثار المحتملة
من الناحية الاقتصادية، تُعد الزيارة خطوة دبلوماسية تُهدف إلى خلق مناخ مؤقت يمكن أن يسهم في تمديد فترة تعليق العقوبات الدولية. فرغم أن استخدام طائرة خاصة ليست سوريا اي وفق اجندة اجنبية التي نظمت لقاءات رفيعة المستوى وفق مصالحها وكأنه نوع من شحن سابق يتم ، فهذه اللقاءات لا تعالج مباشرة المشكلات الاقتصادية، إلا أنها تُعتبر وسيلة للتفاوض على شروط تخفيف الضغوط الناتجة عن العقوبات. ومن الواضح أن رفع العقوبات لا يمكن تحقيقه وفق هذا النمط من اللقاءات ، بل يتطلب تنفيذ سلسلة من الإصلاحات الداخلية والمناورات الخارجية الدقيقة التي تثبت جدوى التحول السياسي والاقتصادي.
لا بد من تذكيرنا بأن مثل هذه الزيارات تأتي دائمًا بتكلفة سياسية، كما يظهر من محاولات ماكرون السابقة عند انفجار مرفأ بيروت والتي سعت في إطار تجديد اتفاق الطائف ودعم حزب الله، ولكنه حينها لم يحظَ بالتزام الطرف الآخر، مما أدى إلى تدخل فرنسي حاسم تمثل في تقديم معلومات ودعم لاستبعاد نفوذ الحزب من المشهد. تعد هذه التجربة درسًا واضحًا؛ فكل زيارة تحمل تبعاتها وغالبًا ما تكون مصحوبة بمتطلبات تبدل المواقف الحقيقية، ولا تكون مجرد مبادرة رمزية.
الفرصة الاخيرة
باختصار، تتجلى استراتيجية زيارة الشرع إلى فرنسا كمحاولة لبناء جسور فوق فجوة الإصلاح الداخلي مع واقع النظام الدولي القائم على معادلات قاسية. فمما لا شك فيه أن ماكرون يسعى لاستعادة مكانته كلاعب وسيط قادر على إعادة رسم ملامح السياسة الخارجية، لكن نجاح هذه المساعي يعتمد على قدرة الشرع على تقديم تنازلات داخلية حقيقية، وتوفير قاعدة شعبية وسياسية موحدة تساعد على تنفيذ الإصلاحات. في النهاية، لن تكون الزيارة لها أثر سحري في إنهاء العقوبات أو حل الأزمة الاقتصادية، بل ستكون خطوة أولى في سلسلة من المناورات الدبلوماسية والداخلية الضرورية لتحقيق تحول تدريجي ومستدام.
من هنا، يجب على جميع الأطراف أن تُدرك أن المسار نحو حلّ الأزمات يتطلب خططًا طويلة الأمد، واستراتيجيات شاملة تجمع بين الحلول السياسية والاقتصادية، مع معايير واضحة للتعامل مع القوى الإقليمية وتعديل موازين النفوذ بما يضمن استقرارًا داخليًا وخارجيًا بعيدًا عن الزيارات الرمزية التي، وإن كانت تساهم في تمديد فترة تعليق العقوبات، لا تُعد بديلاً عن الإصلاحات الجذرية.