شكّل تفجير كنيسة مار إلياس منعطفًا مقلقًا على الساحة السورية، لما يحمله من دلالات تتجاوز الحدث الأمني بحد ذاته، إلى إعادة تعريف طبيعة الصراع الحالي ومكونات المشهد السياسي. ففي الوقت الذي أصدرت وزارة الداخلية السورية بيانًا عامًا، محملًا بعبارات فضفاضة واتّهامات مبهمة، خرجت جماعة “أنصار السنة” ببيان مغاير، يتميّز بالسياق المحكم والدقة، محددًا هوية المنفذ، مبيّنًا أهداف العملية، ومشكّلًا تحديًا مباشرًا للرواية الرسمية.
الخلفية التنظيمية والجذور العقائدية
تمثل جماعة “أنصار السنة بقيادة أبو عائشة الشامي ” أحد التيارات المنشقة عن “هيئة تحرير الشام بزعامة أبو محمد الجولاني”، على إثر خلافات داخلية تتصل بتغير مواقف أبو محمد الجولاني عند استلام السطلة و ظهوره بموقف أحمد الشرع رئيس الجمهورية السورية، وما تخلّلها من اتهامات بنقض العهود السابقة والبيعات وعلى الرغم من هذا الصراع، حافظ التيار على درجة من التقاطع السياسي مع مؤسسات الدولة السورية، حيث ساند محاولات وزارة الدفاع التصدي لتمدد فلول جماعات النظام البائد ، قبل أن تتلوث صورته بممارسات عنف مروّعة وصلت الى درجة ارتكاب مجازر ، وضعت حكومة الشرع تحت ضغط دولي مباشر، مهددة بانفجار الوضع على خطوط تماس طائفية.
استراتيجيات الاختراق العقائدي والاجتماعي
مكنت “أنصار السنة” من تعزيز نفوذها على المستويات العقائدية، مكرسةً خطابًا سلفيًا جهاديًا، طال مكونات سكانية متنوعة بدأت بالمكون السني توسع انتشارها داخل المساجد السنية، محوّلًا منابرها إلى نقاط تعبئة، ومؤسسًا لخطاب موازٍ يحمل مضامين تكفيرية بدأت بمهاجة حاضنة النظام البائد حيث سعت لإيجاد أرضية أيديولوجية لاستقطاب الشباب، عبر توظيف الرمزية الدينية ورفع رايات التنظيمات المتطرفة بوصفها امتدادًا لما يُسمّى بـ”راية رسول الله عقاب “. كذلك، ، سرعان ما لبثت ان انتقلت إلى الأحياء المسيحية، مهددة بنية التعايش الهش أصلاً على الأرض السورية.
البنية التنظيمية والدور العسكري
تتشكّل هذه الجماعة من مزيج متنوّع من المقاتلين السوريين والأجانب، وتدّعي امتلاك جذور عسكرية سابقة كذراع تابع لهيئة تحرير الشام قبل سقوط النظام، دون توافر أدلة مستقلة تؤكّد هذه الرواية أو تنفيها. ميدانياً، تحوّل هذا التركيب المختلط إلى عنصر محوري ضمن معادلة السيطرة على مناطق نفوذها، لاسيّما مع التقاطع المرحلي بينها وبين السلطة السورية على جبهة محاربة تنظيم داعش، مما أتاح لها توسيع هامش تحرّكها وتعزيز قدرتها على تجاوز المواجهات التقليدية.
وفي المقابل، تبرز نقطة خلاف جوهرية تتعلّق بنموذج الحكم الذي يسعى الرئيس أحمد الشرع إلى ترسيخه، إذ يحمل ملامح مغايرة لما كان يمثّله عندما كان أبو محمد الجولاني ، الأمر الذي يزيد من تعقيد المشهد السياسي، ويعمّق التناقضات داخل الساحة السورية.
حرب الروايات: السلطة السورية وخياراتها المحفوفة بالمخاطر
على الصعيد السياسي، أخفقت حكومة الشرع في قراءة مؤشرات تفجير كنيسة مار إلياس، بل عجزت عن توظيف الحدث لصالحها داخليًا وخارجيًا. ففي بيان وزارة الداخلية، ظهر تبنٍّ ضمني للرواية التركية، حيث أشار المتحدث باسمها إلى عمليات نفذتها الوزارة ضد “داعش” و”وكر العصابة” التي اعتدت على الكنيسة — مفضلًا استخدام مصطلح “اعتداء” بدل “تفجير”، و”عصابة” بدل “تنظيم”. هذا التوصيف، المحاكي للخطاب التركي، يحمل اتهامًا مبطنًا لعناصر من حزب العمال الكردستاني (PKK) المنحل، ضمن صفوف “قسد”، بتنفيذ الهجوم، وأنهم سهلوا دخول جماعات متشددة من داعش للقيام بالتفجير بعد ابتزازهم وتهديدهم لاهالي العناصر الارهابية ، على الرغم من التباعد العقائدي مع قسد، ذلك ان قسد تقصد أحراج الحكومة السورية .
الخلاصة: تحدّي الدولة على محك المؤسسات
مع تبنّي “أنصار السنة” مسؤوليتها عن تفجير مار إلياس، تجد السلطة السورية نفسها محاصرة بتهديد مزدوج: أمني، يتمثل بتغلغل التيار داخل المساجد ومفاصل الجيش ومؤسسة الدفاع، وسياسي، يتمحور حول طبيعة المرحلة المقبلة، وحجم قدرة السلطة على محاربة نفوذ أبو محمد الجولاني وتياراته الجهادية ، وبين احمد الشرع الذي يطح الى استقرار السلطة وتحكم بها عبر بفوذ عسكري وسياسي متزايد، فكيف سيحقق يشكّل هذا توازن الهش ضمن بنية السلطة نفسها.
والسؤال المحوري يبقى: هل تملك حكومة الشرع الجرأة على مواجهة هذا التيار دون أن تهدد تماسك مؤسساتها، أو تدخل في صراع مباشر مع شخصية أصبحت، على نحو متزايد، جزءًا من مراكز القوى على الساحة السورية؟
ليس تفجير مار إلياس مجرد عملية عسكرية، بل هو مظهر لأزمة عميقة تعاني منها الدولة السورية، تتجاوز حدود الحدث الأمني، وتعبر عن مأزق مؤسسي يتمحور حول إعادة تعريف العلاقة بين السلطة وتنظيمات عابرة للحدود الفكرية والجغرافية. المرحلة المقبلة ستحسم مَن يمسك بزمام المبادرة، ومَن سيحدد ملامح المرحلة القادمة على أرض سورية منهكة، تبحث عن مخرج قبل أن تبتلعها دوامات العنف السياسي والديني من جديد.