مع تفاقم أزمة الطاقة في لبنان منذ 2019، عادت مبادرة ربط الشبكات الكهربائية بين الأردن وسوريا ولبنان إلى الواجهة. فقد أعلن البنك الدولي عن تخصيص 146 مليون دولار لإعادة تأهيل القطاع الكهربائي السوري، و250 مليون دولار لإعمار بنية الطاقة اللبنانية. ورغم الأهداف التقنية الواضحة، تثير هذه الخطوة مخاوف من استغلالها كأداة سياسية لإعادة تشكيل التوازنات الإقليمية التي تعصف بالمنطقة.
خلفية المشروع
تُركّز البرامج التمويلية للبنك الدولي على دعم قطاع الكهرباء في دول المشرق، لا سيّما لبنان الذي يعاني من انقطاعٍ متكرر للشبكة منذ تفجّر الأزمات الأمنية والاقتصادية في أعقاب “الربيع العربي”. فقد تدهورت بنية البلاد التحتية وانهارت المؤسسات المالية، ما جعل استعادة الاستقرار مرهوناً بضخّ الاستثمارات اللازمة لإعادة تأهيل المحطات وخطوط النقل والتوزيع. وفي هذا الإطار، تُعوِّل الحكومات والمانحون الدوليون على مشروع “الخط العربي للغاز والكهرباء”، الذي ينقل الغاز المصري عبر الأردن وسوريا لتشغيل محطات توليد الكهرباء في لبنان، ويحدّ من العجز المزمن في القدرات الإنتاجية.
وكانت إعادة تفعيل هذه الشبكة في الفترة بين 2021 و2022 حاجة ملحّة، لكنها اصطدمت بعقبتين جوهريتين:
-
عقوبات “قيصر” على سوريا، التي فرضت قيوداً صارمة على استيراد وتصدير مكوّنات الطاقة عبر الأراضي السورية، مما أعاق مرور الغاز وتقديم خدمات الصيانة لمحطات الضغط والضخ.
-
مخاوف لبنانية من خلط الغاز بمكونات إسرائيلية، إذ جرى التخوّف من أن يُدمَج الغاز المصري المرسل للمحطات اللبنانية بكمية من الغاز المنبثق عن حقول تُشغّلها شركات إسرائيلية، وهو ما يثير شكوكاً حول احتمال مساعدة هذا الخط على ترسيخ علاقات اقتصادية غير رسمية مع تل أبيب تحت ستار تلبية الاحتياجات الطاقية.
شروط الدعم الدولي
ربطت مؤسسات التمويل الدولية، وفي مقدمتها البنك الدولي، دعمها لقطاع الكهرباء وتنفيذ المشاريع الحيوية بلبنان، بحزمة إصلاحات محورية تتخطّى البعد التقني، وتشمل:
-
تعزيز مبادئ الحوكمة والشفافية على مستوى إدارة وتنظيم قطاع الكهرباء، وضمان مكافحة الفساد وتحسين جودة الخدمة.
-
معالجة أزمة الأجور وحماية الفئات الأكثر هشاشة ضمن إطار خطة إنقاذ اقتصادية شاملة، تحدُّ من تداعيات الانهيار على الأمن الاجتماعي.
-
الامتثال لقرار مجلس الأمن 1701، عبر ضبط سلاح الميليشيات وتنظيم العلاقة بينها وبين الدولة، بما يُمكن مؤسساتها من استعادة سيادتها وهيبتها.
-
تهيئة الأرضية لخطوات تطبيعية على المستويين السياسي والاقتصادي، سواء من خلال فك الارتباط مع المحور الإيراني، أو عبر التقدم تدريجيًا نحو إطار تفاوضي غير مباشر مع إسرائيل.
ورغم هذه الاشتراطات، لم يصدر حتى الآن موقف رسمي وصريح من الأطراف الفاعلة على الساحة اللبنانية، وفي مقدمتها حزب الله والرئاسة، بشأن القبول بتلك البنود، مما يشير إلى إمكانية تعثُّر المرحلة القادمة من البرنامج عند أول مراجعة لمدى الامتثال، بل وربما عدم تجاوز المرحلة الأولى أصلاً.
ولا يبدو الوضع على الضفة السورية أفضل حالًا، حيث لم تتخذ الحكومة السورية، منذ التحرير، خطوات جدية لمكافحة الميليشيات الإيرانية التي تواصل ترسيخ نفوذها على الأرض، مما يشير إلى أن الحديث عن مسار التطبيع لا يزال محصورًا بتصريحات إعلامية، بينما تظل الخطوات الفعلية معلّقة عند أبواب التفاوض دون تقدم ملموس على الأرض.
حصان طروادة للطاقة: هل يمهّد خط الغاز الطريق نحو التطبيع السياسي؟
يثير اعتماد لبنان على الغاز المصري، الذي يُعتقد أنه يحمل مكونات إسرائيلية، جدلاً عميقًا حول ما يمكن وصفه بـ«التطبيع الوظيفي» أو «التطبيع الاقتصادي». ففي الوقت الذي يُسوَّق هذا الخيار كحل عاجل لأزمة الكهرباء، تجد القوى السياسية اللبنانية نفسها أمام معضلة مزدوجة: تلبية حاجة ملحة للطاقة من جهة، والحفاظ على مواقفها المعلنة من رفض التطبيع مع إسرائيل من جهة أخرى.
ولا تقتصر تبعات هذا المسار على لبنان، بل تتعداه إلى سوريا، حيث تواجه دمشق تحديات موازية. ففي ظل تواجد مليشيات موالية لإيران على أراضيها، وعدم اتخاذها إجراءات جدية للحد من سطوتها، تتزايد شكوك الأطراف الدولية حول جدية التزاماتها. وفي الوقت نفسه، تتحدث تقديرات عن إمكانية أن يُشكّل خط الغاز والكهرباء بوابةً لانفراج تدريجي على المحور الأميركي–الإسرائيلي–السوري، خاصة مع تراجع حدة التوترات الإيرانية–الإسرائيلية، مما يمهّد لفتح باب التفاوض المباشر على قاعدة صفقة شاملة لتثبيت الاستقرار الإقليمي.
لكن هذا السيناريو يحمل مخاطر جدية على الساحتين السورية واللبنانية، حيث يُخشى أن يُستثمر مرفق الطاقة كذريعة لفتح باب التعامل غير المعلن مع إسرائيل، مما يزيد من هشاشة الوضع السياسي، ويهدد بتفجير جبهة داخلية وخارجية على موازين السيادة، مُمهدًا الطريق نحو تطبيع تدريجي على وقع الحاجة الملحّة للكهرباء.
منحة الطاقة السورية: مفتاح لضمان الدعم الدولي وإعادة بناء الاقتصاد
تتجاوز أهمية هذه المنحة مجرد كونها تدفقًا نقديًا بلا كلفة، لتصبح خطوة محورية تفتح الطريق لاستمرارية الدعم الدولي وتحويل ملف الطاقة إلى رافعة حيوية لإعادة تأهيل الاقتصاد السوري. ولكي تستفيد سوريا بشكل فعّال من هذه الفرصة، يتطلب الأمر اعتماد مجموعة من الإجراءات العملية والجذرية، أبرزها:
-
تعزيز الشفافية: نشر تفاصيل العقود ومسارات تدفق الطاقة بشكل علني، مع تحديث دوري يضمن اطلاع الجهات المانحة والمجتمع المحلي، ما يعزز الثقة ويؤسس لمبدأ المحاسبة.
-
حيادية إدارة القطاع: تكليف جهة مستقلة تدير وتشغل خطوط الغاز والكهرباء، معزولة عن نفوذ التيارات السياسية المرتبطة بالنظام السابق أو الحالي، أو الدول الضامنة كتركيا وقطر، وكذلك عن المحاصصات المسلحة، لضمان تنفيذ المشاريع بنزاهة وفعالية بعيدًا عن التجاذبات السياسية.
-
استراتيجية طاقية طويلة الأمد: وضع خطة وطنية تركز على تنويع مصادر الطاقة، وتعزيز حصة الطاقة المتجددة، وتقليل الاعتماد على المصادر الخارجية المشروطة، بما يُمكّن سوريا من بناء نظام طاقة مستدام يدعم استقرارها الاقتصادي ويعزز موقعها التفاوضي إقليميًا ودوليًا.
دور قطر والأردن في التمويل
في سياق متصل، عقد وزيرا الطاقة السوري والأردني اجتماعاً حضره رئيس صندوق قطر للتنمية، حيث نوقشت آليات نقل الغاز القطري إلى سوريا عبر الأردن، بالإضافة إلى دعم الصندوق للمشاريع المشتركة بين البلدان الثلاثة. تُعد هذه الخطوة توسيعًا لدائرة الشركاء الإقليميين في ملف الطاقة، رغم وجود مخاوف من أن تُستخدم هذه الأموال في إنشاء بنى تحتية قد لا تعود بالفائدة المباشرة على السوريين. يأتي هذا في ظل عقد سابق تم توقيعه مع شركة الخياط بقيمة 7 مليارات دولار، انطلق من دير الزور، ويركز أساساً على نقل الغاز، ما يفسر ارتفاع القدرة الكهربائية المخطط لها إلى نحو 5000 ميغاوات. وتكمن المخاوف في احتمال توظيف هذه المنح لتقليل تكلفة إنشاء خط الغاز القطري، على حساب مصالح السكان المحليين.
يظل ربط شبكات الكهرباء مشروعًا حيويًا لا بد منه لكبح العجز الطاقي في المنطقة، لكنه محفوف بتعقيدات ومخاطر سياسية جسيمة. ولضمان ألا يتحول هذا المشروع إلى “حصان طروادة” للتطبيع السياسي، يجب أن يصاحبه التزام تام بالشفافية، وإدارة من قبل مؤسسات مستقلة، إلى جانب تبني خطة طاقية وطنية طموحة تسعى نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي المستدام. في النهاية، ينبغي أن يكون هدف المشروع تنمية الشعوب وحماية سيادتها، لا أن يتحول إلى أداة لإعادة رسم خرائط النفوذ الإقليمي والدولي.