الرئيسية » عادة إنتاج الانهيار تحت شعارات “الإنقاذ”: سوريا بين دولة متفككة ووظيفة جغرافية

عادة إنتاج الانهيار تحت شعارات “الإنقاذ”: سوريا بين دولة متفككة ووظيفة جغرافية

رغم التصريحات الرسمية عن إعادة الإعمار، تشير المؤشرات الاقتصادية والأمنية إلى رسوخ نظام موازٍ قائم على التمويل غير المشروع وتفكيك مؤسسات دولة وعياب العدالة.

بواسطة Younes

رغم ما تروج له الحكومة السورية من شعارات حول “إعادة بناء الدولة” و”مشاريع الإنقاذ الوطني”، تشير المؤشرات الاقتصادية والأمنية إلى أن ما يحدث فعليًا هو إعادة إنتاج للمنظومة السابقة، لكن بأساليب جديدة ولغة إعلامية مختلفة. ففي خلفية الخطابات الرسمية، تتشكل ملامح اقتصاد ظل، وتحالفات غير رسمية، وهيمنة أمنية تعيد تدوير الفشل وتحوّله إلى سياسة ممنهجة.

تمويل في الظل: اقتصاد موازٍ محكوم بالابتزاز والتهريب

كشفت وثائق اطّلع عليها موقع الاقتصادي أن النظام السوري، في عهد الأسد السابق، اعتمد في تمويل البنية الهشة للدولة على ثلاث ركائز غير رسمية شكّلت العمود الفقري لاقتصاد الظل:

  • الحوالات الخارجية والمساعدات الدولية: جرى تسخيرها كأداة لتمويل الدولة وادرعها العسكرية وادة ابتزاز للمجتمع المدني ، في حين بقيت بعيدة تمامًا عن أي أثر ملموس على الوضع المعيشي أو القطاعات الإنتاجية.

  • المعابر غير الشرعية: تحوّلت إلى شرايين تهريب نشطة تديرها ميليشيات وأمراء حرب، ما منح هذه الشبكات نفوذًا اقتصادياً متصاعدًا وشرعية ميدانية بحكم الأمر الواقع، على حساب مؤسسات الدولة الرسمية.

  • تجارة المخدرات: وثّقت تقارير دولية توسّع هذه التجارة لتشكّل شبكة جريمة منظمة ترتبط بمؤسسات رسمية أو شبه رسمية. وتُستخدم كرافعة تمويلية موازية، محمية بغلاف أمني وسياسي يوفّر لها الاستمرار والإفلات من المحاسبة.

مشروع الحكومة الاقتصادي: شعبوية بلا مؤسسات

على مدار الأشهر السبعة الماضية، لم تظهر أي مؤشرات جدّية على بناء مؤسسات فاعلة لدى الحكومة الحالية. بل على العكس، اتّسمت المرحلة بتعميم خطاب شعبوي ارتجالي، طغى على القرار السياسي والإداري، وساهم في تكريس مناخ من الفوضى المؤسسية.

انطلقت الحكومة من شعارات مثل “من يحرر يقرر”، في تجاهل لتوازنات الواقع السياسي، رغم اعتراف الاتحاد الأوروبي – وغيره من الجهات الدولية – بأن سقوط النظام كان نتاجًا لحراك المعارضة بمجمل أطيافها، لا لطرف بعينه. تلا ذلك تبنّي مصطلحات مشحونة، مثل “بني أمية”، والتي أعادت إنتاج الخطاب الطائفي من بوابة تسييس المظلومية الشيعية، وجرّدت الدولة من بعدها الوطني لصالح سرديات مذهبية.

وفي السياق ذاته، رفعت الحكومة شعار “الانسجام الوطني”، بينما كانت عمليًا تُعيد تأطير الثورة ضمن سردية مظلومية تستبطن نفيًا لتعدديتها وتاريخها المدني.

هذه التناقضات مجتمعة أدت إلى تغييب العمل المؤسساتي، وتفكيك أي محاولة لبناء هياكل حكم مستقرة. ويمكن تلخيص أبرز سمات هذا النهج فيما يلي:

رفع العقوبات: أداة تفاوض لا مشروع إنقاذ اقتصادي

روّجت السلطة لملف “رفع العقوبات” بوصفه خطوة إنقاذية كبرى للاقتصاد السوري، إلا أن الواقع كشف عن استخدام هذا الملف كأداة تفاوضية وتعويم سياسي، لا كمشروع متكامل لإعادة الاستقرار. فقد سعت الحكومة، من خلال هذا الشعار، إلى انتزاع القبول الإقليمي والدولي بها كـ”تيار حاكم”، عبر تقديم تنازلات سرّية وصفقات غير معلنة، بدل تقديم رؤية سياسية أو اقتصادية قادرة على معالجة جذور الأزمة.

فما إن تحققت بعض التسهيلات المحدودة، حتى برزت ملامح التوظيف الانتهازي لهذا الملف، حيث:

  • لم تُخصّص العائدات الناتجة عن التيسير الجزئي للعقوبات في دعم البنية التحتية أو تحفيز الإنتاج المحلي، رغم وجود عروض استثمارية جدّية من رجال أعمال سوريين في الخارج.

  • استُخدم خطاب رفع العقوبات كغطاء لعقد صفقات مشبوهة، تم فيها بيع أصول سيادية للدولة بشروط غير واضحة، وضمن غياب تام لأي أطر قانونية أو رقابية ناظمة.

  • استفادت من هذه المرحلة نخب مالية وأمنية متغلغلة في بنية السلطة، عملت على تعزيز اقتصاد الظل عبر شبكات سمسرة وعمولات، ما أعاد إنتاج نفس الهياكل التي عطّلت التعافي الاقتصادي لعقدٍ كامل.

بهذا، لم يتحوّل ملف رفع العقوبات إلى بوابة إصلاح، بل إلى أداة تمكين لنظام زبائني يستثمر في العزلة لا في الانفتاح.

ميد العدالة وتعويم أمراء الحرب: شرعنة الفوضى باسم “الاستقرار”

لطالما كانت العدالة الانتقالية والمساءلة مطلبًا مركزيًا للسوريين، وواحدة من أبرز نقاط الخلاف مع نظام الأسد في مختلف جولات التفاوض. كما اعتبرها المجتمع الدولي شرطًا أساسيًا لأي تسوية قابلة للحياة، ومقدمة ضرورية لتحقيق الاستقرار الأمني وتهيئة بيئة الاستثمار.

لكن بدلًا من الاستجابة لهذا المسار، طرحت الحكومة رواية مضادة، تمثّلت في مقايضة العدالة برفع العقوبات، واستخدام خطاب “المصالحة” كغطاء لتصفية المساءلة وتحويلها إلى ورقة تفاوضية.

وقد تجلّى ذلك عمليًا في:

  • تجميد مسارات التقاضي الحقيقية، وتحويل ملفات الانتهاكات والجرائم إلى أدوات مساومة داخلية وخارجية، تصبّ في مصلحة شبكة مصالح ضيقة، تضمّ ما يُعرف بـ”هيئة الاستثمار” المرتبطة بالقصر الجمهوري، إلى جانب أذرع أمنية نافذة.

  • إعادة دمج أمراء الحرب والمقرّبين من الأجهزة الأمنية في مؤسسات الدولة، تحت شعار “الاستقرار”، مما ساهم في تقويض ثقة الشارع السوري بأي حل سياسي مستقبلي، وكرّس سياسة الإفلات من العقاب.

بهذا، تحوّلت الدولة إلى واجهة إدارية رمزية، بينما تُدار فعليًا من خلف الستار عبر مراكز قوى غير رسمية، تمتلك السيطرة على القرار السياسي والأمني والاقتصادي، في تغييب شبه كامل للحوكمة والمحاسبة.

سوريا كـ”وظيفة جغرافية” في الحسابات الدولية

في المشهد الجيوسياسي الراهن، لم تعد سوريا تُعامل كدولة ذات سيادة وطنية، بل كـ”وظيفة جغرافية” تُستخدم لتفريغ الأزمات الإقليمية والدولية. فبدلاً من التعامل معها ككيان سياسي مستقل، باتت تُستثمر على النحو التالي:

  • كمسرح لتصفية الحسابات بين أطراف إقليمية ودولية، يشمل ترحيل المقاتلين، وإعادة تدويرهم في صراعات أخرى، أو تسوية ملفات أمنية مؤجلة.

  • كمنطقة اقتصادية رمادية، تُستغل لتمرير مصالح غير معلنة، أو تُوظَّف كورقة ضغط في المفاوضات الإقليمية، وسط غياب إطار قانوني أو مؤسسات رقابية.

في هذا السياق، تضاءل دور الدولة السورية الرسمية إلى مجرد واجهة، تُستخدم لمقايضة ملفات الاستثمار، التي تُدار فعليًا من خلال “هيئة الاستثمار” التابعة للقصر الجمهوري، دون المرور عبر الوزارات المختصة.

كما أن انتشار الفوضى، وغياب المؤسسات، والحضور الكثيف للأجهزة الاستخباراتية، جعل من سوريا بيئة مثالية لأنشطة المافيا وغسيل الأموال، وهو ما دفع بعض المراقبين لتشبيه الوضع الحالي بـ”المكسيك في تسعينيات القرن الماضي”، حين تقهقرت سلطة الدولة أمام تصاعد نفوذ الشبكات غير الرسمية التي تحكم الاقتصاد والأمن معًا.

 نحو المستقبل: هل من أفق للخلاص؟

إذا استمرت الحكومة في النهج القائم، فإن السيناريو الأقرب يتجه نحو:

  • تدهور اقتصادي متواصل نتيجة غياب الاستثمار المنتج، واستفحال التهريب والفساد المنظم.

  • انفصال متزايد بين المواطن والدولة بسبب هيمنة الميليشيات والأجهزة غير الرسمية.

  • عزلة دولية متجددة مع تصاعد ارتباط سوريا بمنظومات إجرامية إقليمية ودولية.

ويبدو أن الحكومة الحالية لا تمثّل قطيعة مع النظام السابق، بل تُنفذ ما رفضه من قبل، وتُعيد إنتاج نفس الأدوات تحت عناوين جديدة. فالاقتصاد الموازي، والفوضى، ومراكز القوى غير الرسمية، هي من يدير المشهد فعليًا.

ورغم هذا الانسداد، يبقى الأمل الحقيقي معقودًا على صحوة مجتمعية واعية، تتجاوز الخوف والخطابات المستهلكة، وتعيد بناء مشروع سياسي من القاعدة لا من القصر. وقد تكون شرارة هذه الصحوة هي “القشّة” التي تُفجّر بنية الانهيار من داخلها.

مقالات ذات صلة