في ظل التحولات السياسية الجارية في سوريا، تم إطلاق هوية بصرية جديدة تعكس ملامح الدولة الانتقالية. وقد استُقبل هذا الحدث بترحيب من العديد من السوريين باعتباره خطوة رمزية نحو تجاوز مرحلة النظام السابق والانطلاق نحو مستقبل مختلف. إلا أن عناصر هذه الهوية البصرية، من رموز وشعارات، أثارت نقاشًا واسعًا حول دلالاتها العميقة ومدى قدرتها على تمثيل التنوع المجتمعي السوري بكل أطيافه، ما فتح الباب أمام تساؤلات جوهرية حول شرعيتها الرمزية وشمولها الوطني، ومنها:
1. العقاب كرمز مركزي: بين القوة والجدل الديني
يُعد اختيار طائر العقاب الذهبي محورًا بصريًا في الهوية الجديدة، مستندًا إلى رمزية القوة والسيادة المرتبطة به تاريخيًا في الثقافة السورية. غير أن هذا الاختيار لا يخلو من إشكالات دلالية، إذ يُعيد إنتاج صورة قريبة من النسر المستخدم في الهوية البصرية السابقة، ما يجعله أقرب إلى تحديث شكلي لرمز قديم، لا قطيعة رمزية حقيقية معه، ا
الأمر يزداد تعقيدًا مع التشابه البصري بين هذا العقاب وما يُعرف بـ”راية العقاب” ذات الخلفية العقائدية الإسلامية، والتي تتبناها التيارات السلفية، ومنها “هيئة تحرير الشام”. كما أن رسم العقاب بطريقة تشريحية مستلهمة من نماذج ليوناردو دافنشي بشكل دائري تناظري رغم ان رسم العقاب ماخوذ من النت حرفيا ، وفي راية العقاب الاصلية تُوضع عبارة “لا إله إلا الله” داخل دائرة، مما يُضفي على التصميم طابعًا دينيًا صريحًا، ويثير تساؤلات حول مدى حيادية الدولة الانتقالية في تمثيلها البصري لمواطنيها.
هذا التكوين يُفهم – لدى شريحة من المراقبين – كدليل على أن الرئيس الشرع لم ينجح في إحداث قطيعة حقيقية مع المرجعيات الرمزية لهيئة تحرير الشام ونهجها السلفي، ولم يتمكن من إنتاج رمز وطني جامع يعكس التعددية والمواطنة، كما تفترض المبادئ المدنية التي رفعتها الثورة، وتسعى الحكومة الانتقالية لترسيخها في مشروعها الدستوري.
2. النجوم الثلاث: من رموز الثورة إلى شعارات الدولة
في إطار إعادة تشكيل الرمزية الوطنية خلال المرحلة الانتقالية في سوريا، تم اعتماد النجوم الثلاث — التي ارتبطت تاريخيًا بعلم الثورة ومعاني التحرر — ضمن الهوية البصرية الجديدة، ولكن هذه المرة بدلالة رسمية جديدة تُعبّر عن “السيادة، الكرامة، الاستقلال”. هذا التحول في المعنى لا يبدو بريئًا من حيث التأويل السياسي، إذ يمكن قراءته كمحاولة لإعادة استيعاب رموز الثورة داخل سردية الدولة، ما يطرح إشكاليات حول مدى صدقية هذا التفسير في التعبير عن الوجدان الشعبي، وما إذا كان يحافظ على رمزية أصيلة أم يُعيد إنتاجها في سياق سلطوي.
على المستوى المقارن، تشير تجارب التحول السياسي الناجحة — كما في جنوب إفريقيا بعد الأبارتايد — إلى أهمية الحفاظ على رموز النضال الوطني دون تفريغها من مضامينها الأصلية، وذلك كجزء من عملية بناء هوية وطنية جامعة. فالحفاظ على هذه الرموز بذاكرتها النضالية ساهم في ترسيخ الشرعية الرمزية للمرحلة الانتقالية، وعزّز من الثقة الشعبية في مشروع الدولة الجديدة، على عكس المسارات التي اختارت إعادة تأويل الرموز بما يطمس دلالاتها التاريخية.
3. توقيت الإطلاق: دلالة سياسية أم تجاهل للمناطق؟
طلقت الهوية البصرية الجديدة للدولة الانتقالية خلال احتفال رسمي في العاصمة دمشق، في ظل غياب واضح لأي تمثيل من المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة. اختيار دمشق كموقع للإطلاق لم يكن مجرد تفصيل لوجستي، بل يحمل رمزية سياسية تُعيد التأكيد على مركزية السلطة، في وقت يُفترض فيه أن تسعى الدولة الجديدة إلى تجاوز الانقسامات وبناء هوية جامعة لكل السوريين.
في المقابل، تُظهر تجارب دولية ناجحة — مثل رواندا بعد الإبادة الجماعية — أن بناء رموز وطنية جامعة يتطلب إشراكًا حقيقيًا وشاملًا لكل الأطراف، لا سيما تلك التي كانت على هامش السلطة. دون هذا التمثيل، تبقى الهوية البصرية أقرب إلى إعلان من طرف واحد، يفتقر إلى التوافق المجتمعي اللازم لإعادة بناء العقد الوطني.
من الدولة الأمنية إلى الدولة الحارسة؟
قانونيًا: الهوية الجديدة قُدمت بوصفها “عقدًا بصريًا جديدًا” بين الدولة والمواطن، وفقًا لتصريحات الرئيس الشرع، وتُعد مؤشرًا على نوايا دستورية مرتقبة لإعادة تعريف العلاقة بين الشعب والسلطة. لكن في ظل غياب استفتاء شعبي أو نقاش ضمن هيئة تأسيسية منتخبة، تبقى شرعيتها موضع تساؤل قانوني.
اقتصاديًا: تُسوّق الهوية كجزء من مشروع “الدولة الحارسة” التي تضع التعليم، الصحة، والبنية التحتية في صلب أولوياتها.
غير أن غياب خطة اقتصادية واضحة أو مرافقة تشريعية تُحوّل هذه الهوية إلى مشروع رمزي أكثر منه برنامجًا عمليًا.
هوية في مفترق طرق
الهوية البصرية الجديدة تمثل قطيعة رمزية مع النظام السابق، وقد تشكل أرضية أولى لبناء الدولة من الحكومة الانتقالية التي تسعى للشرعية والمأسسة. لكنها في الوقت ذاته تثير تساؤلات حقيقية حول شموليتها، حياديتها، وشرعيتها القانونية.
يبقى نجاحها مرهونًا بقدرتها على التحول من مجرد شعار بصري إلى عقد اجتماعي حقيقي، يعكس تطلعات السوريين قانونيًا، اقتصاديًا، وثقافيًا.
ويبقى الانتظار لمعرفة الرسالة خلال من الهوية البصرية الجديدة ؟