في مدينة الميادين شرقي سوريا، على مقربة من الحدود العراقية، تشهد الأنشطة الاقتصادية غير الرسمية تحوّلات جذرية.
فمع محاولة عودة قبض النظام السوري الى المنطقة ، وتصاعد المفاوضات بين الحكومة السورية و«قسد» حول مستقبل الإدارة المحلية، وتقلّص نفوذ إيران، بدأ الفاعلون المحليون في إعادة رسم خريطة مصالحهم.
في هذا الإطار، عاد «المرسومي» إلى المشهد، محاطًا بنخبة من رجال الأعمال والشخصيات المؤثرة، بينهم جمال الشرع اخو الرئيس وزير الثقافة السابق محمد الصالح، وعناصر من «هيئة تحرير الشام المنحل» منهم “رعد الناصر”.
استضافهم المرسومي في مضافته، حيث تزين سقف القاعة نقش يحمل اسمه، في ما بدا بمثابة اجتماع تأسيسي لتحالف سياسي اقتصادي جديد.
حملت رسائل اللقاء وضوحًا تامًّا: المرسومي يهدف إلى إعادة بناء شبكته القديمة، مستندًا إلى خبرته في شبكات القاطرجي وطمعه في السيطرة عليها ، والذي يشاركه في العمل لدى القاطرجي والطمع “رعد الناصر” كضامن لملاء الفراغ القاطرجي والسيطرة على مملكته المالية.
ولم يأتِ حضور جمال الشرع شكليًّا؛ بل بدت مشاركته بمثابة «المباركة الخضراء» للمشروع، إذ مثّل دوره اعترافًا صريحًا بكونه العراب “Capo di tutti capi” الذي يمنح التشكيل الجديد غطاءً شبه رسمي. أما وزير الثقافة فاختار أن يضفي على المشهد رهافةً وديةً، فختم اللقاء بجلوسه مع الحاضرين يٌقرض عليهم أشعارًا تفاعلية، وكأنما يسعى لإضفاء طابع مدنيّ وحيّ على الاتفاق.
يتجاوز هذا التحول مجرد تبدّل الوجوه؛ فهو يعكس تغييرًا في طبيعة النشاط الاقتصادي نفسه، الذي انتقل من حالة ركود إثر المتغيرات السياسية في الأشهر السبعة الماضية، إلى عمليات معقدة يتداخل فيها المحلي والإقليمي.
وتشير المعطيات إلى أن هذه الشبكة تنخرط اليوم في مشروع صناعي غير تقليدي، يتركز في أحد جوانبها على تصنيع وتوزيع حبوب «الكبتاغون»، في إطار شبكات عابرة للحدود تُعيد رسم خرائط النفوذ والتجارة غير المشروعة في المنطقة.
النشأة والانطلاق التجاري للمرسومي
لد فرحان المرسومي في قرية الباغوز التابعة لمدينة البوكمال السورية على الحدود مع العراق. بدأ مشواره التجاري من نقطة بسيطة عبر افتتاح بسطة صغيرة لبيع الدخان، إلا أن خبرته العميقة بمسارات التهريب الممتدة عبر البادية مكّنته من بناء رأس مال أولي. وبفضل هذه المعرفة والجرأة، انتقل من بائع متنقل إلى أحد أبرز تجار السجائر المهربة في المنطقة، حيث أسّس مستودعات ضخمة داخل مدينة البوكمال لتخزين البضائع المهربة قبل توزيعها في العمق السوري.
دخول المرسومي الى تجارة النفط الخام
استكمالًا لتوسّعه في المجال التجاري، انتقل المرسومي إلى قطاع الطاقة، ففتح قنوات تنسيق مع شركة «القاطرجي»، التي تُعنى بنقل وتجارة النفط من مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) إلى مناطق سيطرة النظام السوري البائد.
وبعد وفاة محمد براء القاطرجي، قدّم المرسومي طلباً رسمياً إلى جهاز الأمن الوطني ” الذي يترأسه على مملوك ” التابع للنظام السوري، ساعياً إلى إنشاء خط مستقل لتجارة النفط، الأمر الذي يعكس رغبته في احتكار التراخيص والتحكم في عمليات الاستيراد والتصدير، مستنداً بذلك إلى شبكة من العلاقات داخل المؤسسة الأمنية.
الاستثمار العقاري ضمن مسارات النفوذ الإيراني
في إطار تمدد المصالح الإيرانية داخل سوريا، شكّلت علاقة المرسومي بحركة «جهاد البناء» الإيرانية قاعدة لعمليات استحواذ على عقارات في قلب العاصمة دمشق. وبالاستفادة من الثغرات القانونية وتواطؤ بعض العاملين في السجلات العقارية، تحت غطاء الضغوط الأمنية، شارك المرسومي في صفقات تهدف إلى تحويل تلك العقارات إلى أصول مالية لدعم النشاط الإيراني في البلاد. ورغم عدم انخراط الحركة بشكل مباشر في تجارة المخدرات، فإن ترشيحها للشركاء يمنحهم امتيازات أمنية ودعم لوجستي من الحرس الثوري الإيراني.
رابعاً: الشبكات العابرة للحدود والتعاون مع الميليشيات
وسّع المرسومي نشاطه ليشمل تهريب الأسلحة لحساب حزب الله اللبناني عبر معابر تسيطر عليها وحدة “الرضوان”، إلى جانب دوره في تأمين مرور قوافل الحشد الشعبي العراقي إلى مقام السيدة زينب قرب دمشق. ورغم اختلاف الانتماءات التنظيمية لتلك الميليشيات، نجح المرسومي في الحفاظ على توازن حذر بين مصالحها، ما عزّز موقعه كشخصية وسيطة ذات نفوذ متعدد الأبعاد في السياقات الأمنية والتجارية.
مصنع الكبتاجون في الميادين: بين الأرقام العسكرية والاقتصادية
في 24 يونيو 2025، وصلت شحنة من المواد الخام الأساسية إلى معمل الكبتاجون الجديد في الميادين، تتألف من أمفيتامين وثيوفيلين، جُلبت عبر شبكة غير رسمية من لبنان بإشراف القيادي في حزب الله اللبناني حسن الشماط، المعروف باسم «الحاج ناصر». بعدها بيوم واحد، في 25 يونيو، دُشّن الإنتاج التجريبي لأول دفعة من الحبوب المخدرة في المعمل، الذي أقيم تحت غطاء حزب الله في تلك المنطقة شرق سوريا.
اعتمدت المنشأة على «ماكينتين للشوكولاتة» معدّلتين خصيصاً لتشكيل وصب حبوب الكبتاجون، وثلاثة خلاطات صناعية بسعة ثلاثة أطنان لكل منها لتحضير مزيج الأمفيتامينات. وقد بلغ معدل الإنتاج في أيامه الأولى نحو 400 حبة في الدقيقة، أي ما يقارب 300 ألف حبة خلال 12 ساعة عمل، مع خطط لزيادة الطاقة اليومية إلى 450 ألف حبة.
اختيرت الميادين موقعاً استراتيجياً للمصنع لعدة اعتبارات: هي مناطق نفوذ مطلقة للمرسومي و خالية من القوى الامنية باستثناء العشائرية وقربها من المعابر السورية–العراقية، وسهولة نقل البضائع عبر البادية السورية باتجاه الحدود الأردنية، وكذلك امتدادها إلى مناطق سيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» التي تتمتع بدرجة أقل من الرقابة الأمنية الصارمة.
يرسّخ هذا المعمل دور فرحان المرسومي كأحد أبرز شركاء الحرس الثوري الإيراني في شرق سوريا. فبجانب نشاطه في تجارة المخدرات، لعب المرسومي دوراً مركزياً في تجنيد الشبان ضمن «الفوج 47» التابع للحرس، وعمل على توسيع النفوذ الإيراني الاجتماعي والعسكري في دير الزور والبوكمال والميادين. كما استفاد من غطاء الفرقة الرابعة وعلاقته بماهر الأسد لتأمين شبكة لوجستية متكاملة لتهريب الأسلحة والمخدرات عبر الحدود العراقية، والاستيلاء على عقارات وسط دمشق لصالح جهات إيرانية. بهذا التوازن الهشّ بين المال والقوة، يستمر المرسومي في رسم خريطة جديدة لخرائط النفوذ والتهريب في سوريا، متجاوزاً الحدود التقليدية بين الاقتصاد السياسي للحرب والجرم المنظم.
خطورة عودة تجارة الكبتاغون
لقد تجسّد فرحان المرسومي نموذجًا صارخًا لتاجر الحرب الذي يتنقّل بين قطاعات متعددة؛ من الدخان إلى النفط، ومن العقارات إلى المخدّرات والأسلحة. وللحدّ من تمدّد هذه الشبكات الإجرامية، لا بدّ من:
-
تعزيز الرقابة الصارمة على المعابر الحدودية بين سوريا والعراق لتفويت الفرصة على مهربي السلع المحظورة.
-
إطلاق تحقيق دولي مشترك في صفقات النفط والمخدّرات التي تربط النظام السوري بحلفَي طهران وبيروت، وتطبيق آليات الشفافية والمساءلة.
-
دعم المجتمعات المحلية عبر برامج تنموية وتوعوية تمنع استقطاب الشباب إلى ميليشيات الطائفية والإجرام.
- التحقيق مع المرسومي كخطوة لتنفيذ العدالة الانتقالية.
ومع إشارات العودة المحتملة لفرحان المرسومي للتحرّك مجددًا، يتزايد نشاط أمراء الحرب الساعين إلى عقد “اتفاق تسوية” مع الحكومة السورية—على غرار تلك التي رُصدت مع وسيم الأسد أحد أطراف تجارة الكبتاغون في البلاد ، التي يعتقد انها جاءت بعد رؤية عودة المرسومي لنشاطه.
هذه الديناميكية قد تؤدّي إلى تجدد مخاوف الدول الإقليمية والدولية من عودة تصاعد شحنات الكبتاغون وهو ما يحدث الآن ، واستئناف دور الأجهزة الاستخباراتية وفرض العقوبات. والأخطر من ذلك، أنّ الأموال الساخنة القادمة من تجارة المخدّرات قد تحمل في طيّاتها مخاطر إسقاط النظام،كما حصل مع العائلة الاسد، مما يحتم التعامل معها كتهديد ليس فقط للأمن المجتمعي بل لاستقرار الدولة بكاملها.