محمد كساح
رغم تعليق العقوبات المفروضة على مصرف سوريا المركزي، يبدو وضع الشبكة المصرفية الخاصة أكثر تعقيدا، إذ تواجه تحديات كبيرة تتمثل بشح السيولة الذي يمثل العنوان الأبرز في هذه المرحلة، وسط أزمة ثقة بين المودعين والمصارف تتطلب إعادة هيكلة لكل الخدمات المصرفية، لكن من المستبعد، وفقا للخبراء، أن تشهد البلاد حالة إغلاق قد تطاول هذه المصارف بالرغم من عدم استبعاد فكرة أن تشهد السوق المالية ظهور منافسين جدد مع رفع العقوبات بالتوازي مع دخول مصارف جديدة إلى السوق.
سباق مع الزمن
ويرى الخبير الاقتصادي أدهم قضيماتي أن عامل الزمن يشكل نقطة جوهرية بالنسبة للنهوض بالشبكة المصرفية، حيث تحتاج المنظومة المالية السورية إلى وقت كاف للانخراط في المنظومة المالية العالمية.
ويضيف خلال حديث ل أن المصارف تعاني من غياب البيئة القانونية الحقيقية المحفزة على الاستثمار، لافتا إلى أن البنية التحتية التقنية للمصارف غير متصلة بالأنظمة الدولية منذ مدة طويلة، ما يفاقم التحديات التي تواجهها.
كما تعاني المصارف من غياب الثقة الدولية بسبب الشفافية الضعيفة فيما سبق وارتباط عدد من هذه المصارف ببيئة سياسية وأمنية غير مستقرة سابقا، ما يعني تطلب وقت طويل لبناء هذه الثقة لاسيما في ظل تعقيدات آليات تيسير المعاملات الدولية.
ويلمح قضيماتي إلى أن أزمة الثقة بالمصارف من قبل المودعين والمستثمرين على حد سواء أدت إلى لجوء كثيرين إلى الاقتصاد الموازي خارج القطاع الرسمي.
شح السيولة.. التحدي الأبرز لمصرف سوريا
ويوضح المحلل الاقتصادي محمد صالح الفتيح أن العنوان الرئيس للتحديات التي تواجه المصارف الخاصة في سوريا هو نقص السيولة النقدية، مضيفا أن لهذه المشكلة أسباب وتفرعات، فمن ناحية أولى، التزمت المصارف الخاصة طوال فترة الحرب بالسياسة المالية التي وضعها مصرف سوريا المركزي والنظام السابق، والتي ركزت على محاولة احتواء تأثيرات الحرب والعقوبات الدولية عبر الضغط على القطاع الخاص.
ويتابع بأن المصارف الخاصة تحديداً، اضطرت إلى الامتثال لتوجيهات المصرف المركزي بتخفيض الحد الأدنى الإلزامي للودائع إلى ما يعادل 5% فقط – في حين تنص الاتفاقات الدولية والأعراف على أن تكون هذه النسبة بحدود 15%، مشيرا إلى أن هذا التخفيض كان بهدف تشجيع المصارف الخاصة على التوسع في الإقراض للقطاع الخاص لتعويض غياب الاستثمارات الخارجية، وتعذر الحصول على قروض أو منح من المصارف غير السورية.
ومن المعروف، وفقا لما يضيفه الفتيح، أن نسبة مهمة من هذه القروض لم يتم سدادها، وبعضها كان لشخصيات وفعاليات محسوبة على النظام السابق، في حين لم يظهر الحجم الحقيقي لهذه المشكلة في السنوات الماضية لأن الانخفاض الحاد لقيمة الليرة السورية سمح للمصارف الخاصة باستقطاب ودائع جديدة بقيمة اسمية أكبر بالليرة السورية من قيمة القروض المتعثرة السداد التي منحت قبل عدة سنوات، ولكن مع سقوط النظام وتحسن قيمة الليرة السورية في الأسواق بات هناك توجه واسع لدى المودعين لسحب أموالهم سواء للاستفادة من التحسن في قيمة الليرة أو بسبب الرغبة بالتحرر من القيود السابقة التي فرضها النظام المخلوع على المستوردين والمصدرين (إلزامية إيداع مبالغ معينة في المصارف).
ويرى الفتيح أن المصارف اليوم تواجه صعوبات كبيرة في تلبية عمليات السحب وسط غياب الحافز لدى السوريين لإيداع الأموال في المصارف، لأن السوق السورية لا تزال تعتمد على الأوراق النقدية بشكل كامل، ولا توجد خدمات مصرفية تسمح باستخدام بطاقات الخصم أو الاعتماد.
ويؤكد بأن حل مشكلة السيولة النقدية يتطلب تدخل المصرف المركزي سواء عبر طباعة كميات جديدة من الأوراق النقدية الحالية، أو طباعة فئات نقدية أعلى، أو عبر التدخل لمساعدة المصارف التي تواجه خطر الإفلاس إذا ما اضطرت إلى تلبية كامل عمليات السحب التي تواجهها.
مشكلة السحب العويصة
من ناحية أخرى، تتجلى مشكلة الشبكة المصرفية في الصعوبات التي يواجهها العملاء في سحب الكميات التي يرغبون بها من النقد السوري، سواء من فروع المصارف أو من أجهزة الصراف الآلي.
ويرى الفتيح أن هذه المشكلة لا علاقة مباشرة للمصارف بها، بل تتعلق بفئات النقد السوري، وعلى سبيل المثال تحتاج الأسرة السورية إلى مليون وحتى 3 مليون ليرة أسبوعيا، وهذا الرقم يعادل ما بين 200 و600 ورقة نقدية من فئة الخمسة آلاف ليرة – أكبر فئة نقدية متوفرة حالياً، من المعروف أن الأوراق النقدية تخزن ضمن جهاز الصراف الواحد باستخدام ما يعرف بـ”الكاسيت” (Cassette)، ويضم الكاسيت الواحد قرابة ألفي ورقة نقدية ويستوعب جهاز الصراف الواحد ما بين 3 و5 “كاسيتات”، أي أن هناك قرابة 10 آلاف ورقة نقدية كحد أقصى في جهاز الصراف الواحد، وهذه الكمية تكفي لما بين 15 و50 عملية سحب من الحجم الذي تحتاجه الأسرة أسبوعيا. ويلفت الفتيح إلى أن هذا عدد ضئيل للغاية ويمكن أن يحصل خلال بضع ساعات فقط مما يؤدي إلى نضوب الأوراق النقدية من أجهزة الصراف.
ولمواجهة هذا العبء، تفرض معظم المصارف الخاصة قيوداً على عمليات السحب – بحدود 100 أو 200 ألف ليرة أسبوعياً – وذلك لضمان أن تكفي كميات الأوراق النقدية الموجودة في أجهزة الصراف لما بين 250 و500 عملية سحب وذلك بدل أن تستهلك عبر 15 عملية سحب.
شخصيات معاقبة دوليا
ولا تقتصر التحديات التي تواجه المصارف الخاصة على عدم توفر السيولة النقدية الكافية لإتمام عمليات السحب الموسعة، بل تتجاوز إلى العوائق التي أوجدها بعض رجال الأعمال المعاقبون غربيا والذين يمتلكون حصصا داخل هذه المصارف.
ويوضح الباحث ومدير منصة “اقتصادي” يونس الكريم أن عددا من رجال الأعمال الموضوعين على اللوائح التنفيذية للعقوبات يستحوذون على حصص هامة من المصارف كانوا يتحكمون بالبنوك ويجرون عمليات غسيل أموال عبر القروض التي تمول أيضا تجارة المخدرات وأعمال العنف.
ومن الشخصيات التي لا تزال تمتلك حصصا كبيرة داخل الشبكة المصرفية رجال الأعمال ضمن مجموعة شركتي “شام القابضة” و”سوريا القابضة”، وعلى رأسهم رامي مخلوف ونادر القلعي وخالد زبيدي وطريف الأخرس ومحمد حمشو.
ويؤكد الكريم أن جزءا من المصارف الخاصة يعاني من عدم رفع القيود المفروضة بسبب العقوبات، وذلك لوجود حصص الشخصيات المذكورة وغيرها، لافتا إلى أنه لن يتم رفع العقوبات عن هذه المصارف قبل إجراء مراجعات دقيقة لمجالس إداراتها.
من جانبه، لا يتفق محمد صالح الفتيح مع هذه الفرضية التي طرحها الكريم، مؤكدا أن هذه المشكلة لا تشكل تحدياً على المدى المتوسط والطويل، وذلك في ظل المراجعات المستمرة التي تجريها الدول الغربية للوائح العقوبات السابقة، كما أن امتلاك شخصية معاقبة لحصة في مصرف خاص معين لم يؤدِ حتى الآن إلى صدور عقوبات دولية بحق أي من المصارف الخاصة السورية. ويضيف أنه في السياق الأوسع، يمكن أن يؤثر وجود مثل هذه العقوبات فقط على التواصل بين المصارف الخاصة في سوريا والمصارف الأجنبية، لا على المشكلة الرئيسة التي تواجه المصارف الخاصة حالياً وهي نقص السيولة.
هل تغلق المصارف أبوابها؟
يتفق الخبراء على استبعاد أن تشهد البلاد أي إغلاق للمصارف الخاصة، ويرى أدهم قضيماتي أن البنوك بشكل عام كانت تعمل في بيئة غير مهنية نهائيا وغير قانونية وسط محدودية النشاط والمعاملات أو التمويل، ومع ذلك تمكنت من التكيف قدر الإمكان.
ويشير إلى أن الحكومة الجديدة ستسعى إلى تجنّب أي إقفال رسمي للمصارف من خلال تقديم التسهيلات اللازمة، لذلك قد تلجأ البنوك إلى حلول مثل إعادة الهيكلة أو الدمج، من دون الإعلان عن إفلاس أو إغلاق.
أما المحلل الاقتصادي محمد صالح الفتيح فيتوقع ظهور منافسين جدد في القطاع المالي السوري، سواء من الفاعلين المحليين أو دخول مصارف جديدة إلى السوق السورية.
المصدر: تلفزيون سوريا.