الرئيسية » قانون غائب واستثمار الحاضر: هل يستطيع رأس المال السعودي تجاوز عقبات غياب الدولة السورية؟
لقاء احمد الشرع مع الوزير خالد الفالح

قانون غائب واستثمار الحاضر: هل يستطيع رأس المال السعودي تجاوز عقبات غياب الدولة السورية؟

بواسطة Younes

شهدت العاصمة السورية دمشق مؤخرًا انعقاد مؤتمر الاستثمار السوري السعودي، برعاية المملكة العربية السعودية، في خطوة تمثل تحولًا محوريًا في مسار العلاقات الاقتصادية الإقليمية. المؤتمر الذي عُقد في ظل انتقادات دولية للأوضاع الأمنية في السويداء، والتقارير المثيرة للجدل حول الساحل السوري، جاء في توقيت تحاول فيه القوى الدولية تجنب انفجار صراع داخلي جديد في مناطق الإدارة الذاتية التي تسيطر عليها “قسد”، ما يضفي بُعدًا سياسيًا عميقًا على الطابع الاستثماري الظاهري للمؤتمر.

البعد السياسي للاستثمار

في كلمته خلال المؤتمر، وصف وزير الاستثمار السعودي خالد الفالح البيئة الاستثمارية في سوريا بأنها “جاذبة”، وهو توصيف لا يخلو من أبعاد سياسية تتجاوز الإطار الاقتصادي التقليدي. فوفقًا لمراقبين، ترى المملكة في سوريا اليوم جزءًا من منظومة أمنها القومي، وتسعى — بالتنسيق الضمني مع تركيا — إلى منح الحكومة السورية الانتقالية فرصة جديدة ضمن تفاهمات إقليمية غير معلنة تهدف إلى تحقيق قدر من الاستقرار في المدى القريب.

أكد وزير الاستثمار السعودي خالد الفالح أن “البيئة الاستثمارية في سوريا جاذبة”

وفي هذا الإطار، يمكن فهم أن توقيع 47 اتفاقية تعاون لا يُمثل بالضرورة انطلاقة حقيقية لإعادة الإعمار، خاصة في ظل استمرار العقوبات الدولية، وغياب البنية التشريعية والمؤسساتية القادرة على استيعاب استثمارات بهذا الحجم. وبالتالي، تُقرأ هذه الاتفاقيات بوصفها تحركًا سعوديًا استباقيًا لحجز موقع متقدم في مستقبل الإعمار، أكثر من كونها بوادر لمشاريع اقتصادية فورية ومباشرة وانها ااحد اللاعبين الاقليمين عبر البوابة السورية.

مؤتمر الاستثمار السوري السعودي: انطلاقة استراتيجية

شارك في المؤتمر وفد سعودي رفيع المستوى ترأسه وزير الاستثمار خالد الفالح، وضم أكثر من 120 مستثمرًا. إلى جانب الحضور السوري الرسمي ممثلًا بالرئيس أحمد الشرع وعدد من الوزراء المختصين، سعى المؤتمر إلى:

  • رسم خارطة استثمار طويلة الأمد

  • توقيع اتفاقيات بقيمة 6 مليارات دولار

  • خلق فرص عمل مباشرة وغير مباشرة

  • تفعيل الشراكات الإقليمية مع رفع تدريجي للعقوبات.

لذا يمكن تقسيم المنتدى حسب المحاور الى :

المحور الأول: القطاعات الصناعية

  • الإسمنت الأبيض: معمل “فيحاء” تم تدشينه بطاقة 150 ألف طن سنويًا، بكلفة 20 مليون دولار، ويوفّر 130 وظيفة مباشرة. المشروع يغطي ما يقارب احتياجات سوريا السنوية من الإسمنت الأبيض.
  • الإسمنت الرمادي: مشروع ضخم بكلفة 300 مليون يورو، قيد الإنشاء، يُعد الأكبر في سوريا ويهدف إلى خفض الاستيراد، وهو ثمرة تعاون استثماري سعودي-سوري.
  • مجمع صناعي في حسياء: بكلفة 385 مليار ليرة سورية، يشمل مصانع إلكترونيات ومواد إنشائية، في خطوة تعزز الإنتاج المحلي وتعيد تمركز الاستثمار الصناعي بعيدًا عن العاصمة.

وللعلم عدد معامل الإسمنت في سوريا ، 4 معامل حكومية (عدرا، المسلمية، الرستن، طرطوس) ، اضافة معمل خاص متوقف (إسمنت البادية).

لمحور الثاني: الطاقة والكهرباء

وقعت السعودية اتفاقية لإنشاء محطة طاقة شمسية بقدرة 500 ميغاواط في البادية السورية، بالتوازي مع خطط لإعادة تأهيل منشآت الكهرباء في دير الزور والرقة.

من جهة أخرى، تظهر مشاريع قطرية – تركية – أمريكية في نفس المناطق، لا سيما في منشأة “التيم”، ضمن اتفاقية مع شركة UCC، لإنشاء محطة حرارية بقدرة 750 ميغاواط ومحطة شمسية.

المشروع التمويل القدرة الهدف
سعودي قطاع خاص سعودي 500 ميغاواط شمسية تنمية محلية وتشغيل
قطري قطر، تركيا، أمريكا (7 مليار $) 750 ميغاواط حرارية + شمسية إعادة إعمار و300 ألف فرصة عمل

تُطرح تساؤلات حول جدوى هذه السعة الكهربائية في مناطق دير الزور، ما يفتح الباب لتكهنات بأن المشاريع القطرية قد تخدم أهدافًا تتجاوز الكهرباء نحو نقل الغاز وتثبيت النفوذ.

المحور الثالث: السياحة والعقارات

  • تم إطلاق مشاريع كبرى مثل برج الجوهرة وأبراج البرامكة، ومدينة طبية وترفيهية، إضافة إلى تمويل سعودي لمرافق سياحية في تدمر وسوق الحميدية.
المشروع التكلفة
برج الجوهرة 100 مليون دولار
أبراج البرامكة 400 مليون دولار
مدينة طبية 900 مليون دولار
مترو دمشق 2 مليار دولار

إلا أن عددًا من موقع اقتصادي  أعربوا عن شكوكهم بشأن إمكانية تنفيذ بعض هذه المشاريع، مشيرين إلى أن الطبيعة الجغرافية للمناطق المستهدفة لا توفر المساحات المناسبة لاستيعابها بالشكل المطلوب.

كما حذروا من أن إطلاق هذه المشاريع قد يؤدي إلى مزيد من الارتفاع في الأسعار المحلية، التي تعاني أصلًا من مستويات تضخم غير مبررة.

المحور الرابع: الاتصالات والتكنولوجيا

وقّعت السعودية اتفاقيات لتطوير شبكة الألياف الضوئية، وإنشاء مركز للأمن السيبراني في دمشق، بالإضافة إلى مجمع تكنولوجي افتراضي في إدلب لدعم ريادة الأعمال، في خطوة تحمل طابعًا رمزيًا باتجاه تعزيز الاقتصاد الرقمي في سوريا.

غير أن جدوى هذه الخطوات تثير تساؤلات مشروعة، خصوصًا في ظل توجه الحكومة نحو خصخصة المؤسسات العامة، مما قد يدفع الشركات المحلية إلى التعاقد مع شركات دولية أقل كلفة بدلًا من الاعتماد على المركز السيبراني المحلي. كما أن التركيز اللافت على إدلب يثير علامات استفهام حول تجاهل باقي المحافظات السورية، ما يطرح تساؤلات حول الأجندات السياسية الكامنة وراء توجيه الاستثمارات نحو مناطق محددة دون غيرها.

المحور الخامس: المال والمصارف

شمل التفاهمات المالية الموقعة بين الطرفين ثلاث نقاط رئيسية:

  • إعادة تشغيل مصرف التعاون السوري السعودي
    تم الاتفاق على إعادة تفعيل هذا المصرف، الذي تعود جذوره إلى زيارة الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى دمشق في 7 أكتوبر 2009، ضمن حزمة تعاون شملت آنذاك أيضًا تأسيس شركة تأمين مشتركة وزيادة رأسمال شركة الاستثمارات الصناعية والزراعية. إعادة إحيائه اليوم تعكس محاولة لإعادة تنشيط أدوات التمويل المشترك بين البلدين.

  • إطلاق منصة تحويل مالي إلكترونية
    رغم أن إطلاق المنصة يُعد خطوة إيجابية من حيث تسهيل التحويلات المالية، إلا أنها تُثير تساؤلات بشأن غياب دور البنك المركزي السوري، خاصة إذا تبين أن ترخيصها قد تم خارج الإطار التنظيمي الرسمي، كما حدث مع منصة “شام كاش” التي نُظّمت عبر تركيا.

  • إدراج شركات سورية في بورصة تداول السعودية
    تُشير تصريحات الوزير  السعودي  للاستثمار خالد الفالح إلى أن هذه الشركات هي بالأصل شركات سورية تعمل في السعودية، وقد سُمح لها “بالهجرة إلى سوريا”، وهو تعبير أثار تحفظًا واسعًا على اعتباره السوريين مغتربين عن وطنهم، رغم أن واقعهم القانوني والاقتصادي يختلف تمامًا عن مفهوم “الهجرة” بالمعنى التقليدي.

لكن هذه الخطوات يُنظر إليها كآليات للرقابة على الحوالات وليس كدعم فعلي للنظام المصرفي السوري، في ظل استمرار العقوبات وغياب الدور المركزي للبنك المركزي السوري.

تحليل اقتصادي: فرص حقيقية أم دعاية سياسية؟

أولاً: النمو المحلي

يتوقع أن يرتفع الناتج المحلي بنسبة 2.5–3% فقط، وهو رقم متواضع بالنظر إلى حجم القوى العاطلة عن العمل، ما يطرح احتمال أن المشاريع تعمل خارج الاقتصاد الرسمي أو لا تمتص الطاقة الإنتاجية المحلية.

ثانياً:  الوظائف

  • الإعلان عن 50 ألف وظيفة مباشرة و150 ألف غير مباشرة يبدو مبالغًا فيه، حيث أن الاستثمارات (6 مليارات) بالكاد تولّد أجورًا تعادل 500 دولار شهريًا للعامل، ما يضعف الأثر الحقيقي على الاقتصاد.

  • يُحتمل أن يكون الهدف اجتماعيًا – أمنيًا، لا سيما في الرقة، إدلب ودير الزور، عبر سحب الشباب من ساحات العسكرة إلى سوق العمل.

ثالثاً: الاستقرار المالي

  • الاستثمارات تعزز الثقة نسبيًا، وتفتح قنوات جديدة للتمويل، لكن دون معالجة جذرية لمشاكل القضاء والقوانين والبنى التحتية، فإن المردود سيبقى محدودًا.

المعوقات الأساسية: رسائل سياسية في بيئة غير جاهزة

رغم الزخم الاستثماري الذي رافق مؤتمر دمشق، والذي بدا في جزء منه محاولة لإرسال إشارات بأن الحكومة السورية لا تزال تحظى باعتراف دولي كافٍ لتجاوز تداعيات مجازر السويداء، إلا أن الواقع الاقتصادي يشير إلى أن ما حمله المنتدى أقرب إلى رسائل سياسية منه إلى انطلاقة اقتصادية حقيقية. إذ ما تزال التحديات البنيوية على الأرض تعرقل أي مسار استثماري فاعل، وأبرزها:

  • دمار واسع في البنية التحتية نتيجة سنوات الحرب، ما يزيد من كلفة التشغيل ويؤخر الجدوى الاقتصادية.

  • غياب تشريعات مستقرة ومحفزة للاستثمار، مع وجود قوانين متضاربة تُربك المستثمرين وتعيق تنفيذ العقود.

  • ضعف استقلالية القضاء التجاري، الذي تحوّل في كثير من الأحيان إلى أداة خاضعة لأهواء السلطة، مما يُفقد بيئة الأعمال الثقة.

  • استمرار وتوسّع العقوبات الدولية، التي تحدّ من حركة رؤوس الأموال وتمنع الوصول إلى الأنظمة المصرفية العالمية.

  • مخاوف أمنية حقيقية في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة، ما يجعل الاستثمار فيها محفوفًا بالمخاطر.

مقارنة: سوريا بين مساري العراق وليبيا

للمقارنة، تُظهر تجارب العراق وليبيا أن تجاوز الأزمات لا يتم فقط عبر فتح الأبواب للاستثمار، بل بوجود إصلاح سياسي حقيقي، وإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس قانونية مستقلة وشفافة.

  • في العراق، ورغم تدفق استثمارات ضخمة بعد عام 2003، إلا أن ضعف البنية القانونية وتفشي الفساد وغياب الأمن خارج المناطق المحمية، أدى إلى فشل معظم المشاريع أو انسحاب الشركات الأجنبية بعد فترة قصيرة. كانت الاستثمارات تُستخدم في كثير من الأحيان كغطاء سياسي أكثر من كونها رافعة اقتصادية فعلية.

  • أما ليبيا، فواجهت تحديًا مضاعفًا بعد انهيار النظام، حيث أصبح تعدد الحكومات والمليشيات عقبة مباشرة أمام أي استثمار طويل الأمد. المشاريع ظلت معلقة بين سلطات متنافسة، فيما غابت بيئة قضائية موحدة يمكن الرجوع إليها لفض النزاعات.

تُظهر تجارب العراق وليبيا أن تجاوز الأزمات لا يتم فقط عبر فتح الأبواب للاستثمار، بل بوجود إصلاح سياسي حقيقي، وإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس قانونية مستقلة وشفافة.

في الحالتين، كما في سوريا اليوم، كانت الرسائل السياسية الإيجابية غير كافية لتجاوز الحقائق على الأرض. فدون وجود مؤسسات سيادية قوية، وإرادة سياسية حقيقية لخلق مناخ آمن ومحفّز، تظل الاستثمارات مجرد إعلان نوايا يُستخدم لتحسين صورة النظام أمام الخارج أكثر من كونه مشروعًا للتنمية الوطنية.

يشكّل التحالف الاقتصادي بين السعودية وسوريا محاولة واضحة من الرياض لإعادة تموضعها الاستثماري في قلب المعادلة السورية، ضمن مشهد إقليمي معقّد تتقاطع فيه المصالح والمشاريع القطرية والتركية والروسية. ورغم أن هذه المبادرات تعكس رغبة سياسية في احتواء الأزمة السورية عبر أدوات اقتصادية، إلا أن التحديات القانونية، والاقتصادية، والأمنية ما تزال تُهدد بعرقلة تحويل هذه الاتفاقيات إلى إنجازات تنموية حقيقية.

وتزداد الشكوك عندما نُدرك أن جزءًا كبيرًا من هذه الاستثمارات يدخل في نطاق مشاريع كانت مرتبطة سابقًا بأسماء الأسد أو رامي مخلوف، ما يشير إلى أن المملكة لا تستهدف فقط الاستثمار، بل تسعى أيضًا إلى رسم حدود نفوذها الاقتصادي داخل قطاعات استراتيجية، في محاولة لإعادة توزيع الأدوار ضمن الاقتصاد السوري الذي ما يزال يفتقر إلى الشفافية والحوكمة.


مقالات ذات صلة