في منعطف سياسي واقتصادي لافت، جاءت الاستثمارات السعودية الأخيرة في سوريا لتطرح تساؤلات حول أهدافها ودلالاتها، لا سيما في ظل ظروف محلية وإقليمية متشابكة. وبينما وقّعت المملكة العربية السعودية وسوريا 47 اتفاقية ومذكرة تفاهم خلال المنتدى السوري السعودي الأول، بدأ الحديث يتصاعد حول ما إذا كانت هذه الخطوة تمثل بداية فعلية لمرحلة إعادة الإعمار، أم أنها مجرد تموضع سياسي اقتصادي سعودي محسوب في الملف السوري.
وقد جاءت هذه التحركات متزامنة مع ظروف داخلية سورية حساسة، أبرزها استمرار القصف الإسرائيلي على مواقع سورية، وتصاعد الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، فضلاً عن مفاوضات متعثرة مع قسد ومخاوف من انفجار أمني جنوب البلاد.
سياق معقد وتحرك لافت
يقول يونس الكريم، المحلل الاقتصادي، في حديثه، إن هذه الاستثمارات “جاءت في توقيت بالغ الحساسية، على وقع كشف لجنة التحقيق في أحداث الساحل السوري، إضافة إلى تصاعد التوتر في الجنوب وعرقلة المفاوضات مع قسد”.
ويضيف: “التحرك السعودي يعكس قرارًا سياسيًا بأن تكون المملكة ضامنًا للاقتصاد السوري، في حين تتولى تركيا دور الضامن الأمني والعسكري، ليشكلا معًا نوعًا من شبكة الأمان تمنح الحكومة السورية الحالية فرصة جديدة”.
وفي هذا السياق، أوضح عبدالله رفيدي، مدير شركة اتحاد سلام للاتصالات، خلال حديث أن شركته السعودية الرائدة في مجال الاتصالات والفايبر، تتواجد اليوم في سوريا للاستثمار في قطاع الاتصالات عبر تمديد خدمات الإنترنت لتشمل جميع السكان، مبينًا أن المواطنين سيستفيدون بشكل كبير من إنترنت مدعوم بأحدث التقنيات والسرعات، إلى جانب محتوى نوعي في مجالات الألعاب والمحتوى الفني والتقني، بما يعكس التطور التقني الذي وصلت إليه السعودية.
هل هي فعلاً بداية إعادة إعمار؟
رغم التوقيع على 47 اتفاقية كما أعلن وزير الاستثمار السعودي خالد الفالح، يرى الكريم أن هذه المشاريع لا تمثل بالضرورة انطلاقة لإعادة الإعمار بالمعنى الحقيقي، بل هي أقرب إلى محاولات لحجز موطئ قدم في السوق السورية المستقبلية.
ويقول: “هذه المشاريع تأتي برؤية سعودية خاصة، ولا تنسجم مع مؤسسات الدولة السورية من حيث الحوكمة أو السياسات العامة أو حتى توجهات التنمية، التي لا تزال ضبابية في دمشق”.
ويضيف: “السعودية تريد أن تضمن حصتها في مرحلة إعادة الإعمار مستقبلاً، لكنها في الوقت نفسه لا تخاطر الآن بمشاريع استراتيجية متقدمة، في ظل غياب بيئة اقتصادية وتشريعية مستقرة”.
وفي ذات الإطار، أكد إياد الدعلوج، الرئيس التنفيذي لشركة باني للبرمجيات لـ”ستيب” أنهم “سعيدون بوجودهم في هذا المؤتمر”، موضحًا أن شركتهم ترى فرصًا واعدة في سوريا وتستهدف التوسع عبر فتح مكتب تقني وتوظيف الطاقات والعقول السورية في مجال هندسة البرمجيات.
تصريحات رسمية تدعم التوجه
أكد محمد يسر برنية، وزير المالية السوري، أن فلسفة الحكومة السورية الجديدة تقوم على خلق بيئة مواتية للاستثمار، قائلاً: “كل سياساتنا تركز على جذب الاستثمار، والقوانين والتعديلات الجديدة هدفها خلق بيئة جاذبة”، مضيفًا أن “اليوم هو نتاج لهذه الجهود ورسالة بأن سوريا لديها فرص كثيرة وترحب بالمستثمرين وتوفر كل التسهيلات”. وشدد على أن الاستثمارات المعلنة هي “فرص حقيقية وليست مجرد مجاملات، وستنعكس بالفائدة على الاقتصاد السوري”.
كما أكد الدكتور حمدان السمرين، رئيس مجلس إدارة شركة الخليج للسبائك المعدنية (سبائك)، أن السعودية حريصة على زيادة حجم التبادل التجاري والتكامل الاقتصادي مع سوريا، مضيفًا: “اليوم سوريا تمر بمرحلة تحول جديد وتعود لاقتناص الفرص والالتحاق بحضنها العربي. القطاع الخاص السعودي لن يكون في مؤخرة الركب بل في مقدمته، والدليل حضور وفد يضم أكثر من 100 شركة سعودية، إضافة إلى مشاركة أكثر من 40 جهة حكومية سعودية”. وأوضح أن “كل القطاعات في سوريا اليوم واعدة، من الطاقة والتعدين إلى البنية التحتية والتقنية والزراعة والسياحة، وهي تنتظر من يقتنص هذه الفرص”.
معوقات على طريق الاستثمار
رغم الزخم الإعلامي والتصريحات الودّية، يلفت الكريم إلى وجود معوقات جدية تعترض طريق المستثمرين في سوريا، أولها تدهور البنية التحتية “التي تشمل الطرق والكهرباء والمرافق العامة وحتى النقاط الحدودية، فضلاً عن التهديدات الأمنية المستمرة نتيجة تجارة الكبتاغون والقصف الإسرائيلي”.
كما يبرز غياب البيئة التشريعية كأحد أبرز العوائق، حيث “لا توجد مؤسسات حقيقية فاعلة، والهيئات الاقتصادية تخضع بشكل مباشر لرئاسة الجمهورية، ما يعني غياب الشفافية والحوكمة”. ويضيف: “السلطة القضائية أيضًا غير مفعلة، ولا يمكن للمستثمر التقاضي بعدالة دون اللجوء إلى علاقات شخصية، مما يقلّص من جاذبية الاستثمار”.
هل تستجيب الحكومة السورية؟
السؤال المطروح هنا: هل ستعمل الحكومة السورية على تذليل العقبات؟ يجيب الكريم: “الأمر مرهون بالإرادة السياسية للرئيس الشرع، فإذا قرر توسيع صلاحيات الحكومة وتعزيز استقلالية القضاء ومؤسسات الدولة، فقد يُطمئن ذلك المستثمرين ويوقف النزاعات المحلية”.
ويتابع: “تفعيل العدالة الانتقالية سيساعد في مكافحة الجريمة المنظمة وتجارة المخدرات، وسيمهد الطريق أمام الاستثمارات الجادة التي تساهم في تحسين البنية التحتية والاقتصاد الكلي، شرط أن يشعر المواطن أن هذه المشاريع تعود بالفائدة على الصالح العام، وليس كما حدث سابقًا مع مشاريع احتكارية مثل ‘شركة الشام القابضة’”.
استثمارات خليجية جماعية؟
ويشير الكريم إلى أن السعودية تتحرك ضمن تصور خليجي أوسع يشمل شركاء مثل الإمارات وقطر والأردن وتركيا، وهو ما يشير إلى محاولة جماعية لخلق استقرار اقتصادي في سوريا.
لكنه يحذّر من أن “نجاح هذا المسار يتوقف على نقطتين: أولهما الموقف السياسي لكل دولة من سوريا، وثانيهما التعامل مع الاستثمار كأداة إنسانية لمنع تدهور الأوضاع أكثر، وليس فقط كمجال ربحي”.
التأثير المرتقب: على المدى القصير والمتوسط
يختتم الكريم بالتأكيد على أن التأثير الاقتصادي للاستثمارات السعودية سيعتمد على نوع المشاريع المُباشرة بها، ويقول: “إذا كانت استثمارات في البناء أو الاتصالات، فقد تكون نتائجها آنية، أما إذا تم التوجه إلى بناء مصانع إسمنت رمادي أو إصلاح شبكة الكهرباء أو المدن الصناعية، فسيكون الأثر متوسطًا وطويل الأمد”.
ويختم: “في نهاية المطاف، ستُشكّل هذه الاستثمارات، إن نُفذت بالشكل الصحيح، بداية لدمج سوريا مجددًا في محيطها العربي، وربما العالمي، لكن ذلك كله مشروط بالشفافية، واستقلال المؤسسات، وتوافر الإرادة السياسية الفعلية لدى الطرفين”.
الفرصة والإرادة
الاستثمارات السعودية في سوريا قد تمثّل فرصة حقيقية لفتح نافذة اقتصادية في جدار الأزمة السورية المتصلب، لكن تحويل هذه الفرصة إلى واقع ملموس يتطلب أكثر من توقيع اتفاقيات، بل إرادة سياسية حقيقية من دمشق، وانفتاحًا مؤسساتيًا يبعث برسائل طمأنة إلى المستثمرين، في المقابل، تحتاج الرياض إلى الالتزام بتعهداتها فعليًا، وتحويل الوعود إلى مشروعات على الأرض.
المصدر : ستيب نيوز