بين صفقات الفوسفات في عمق البادية السورية، واحتكار الغاز في ريف حلب الشمالي، تتكشف خيوط شبكة معقدة من الترتيبات الاقتصادية والوساطات الأمنية، توحي بأن السلطات الجديدة في دمشق تعمل على إعادة توزيع للنفوذ تحت واجهات جديدة تضمن ولائها لها وتدير ملف الاقتصاد لحسابها الخاص . في هذا التحقيق، نفتح ملفًا شائكًا يكشف كيف تحوّلت الثروات الوطنية إلى بوابة للهيمنة الاقتصادية والسياسية، سواء عبر وسطاء محليين أو عبر شراكات دولية غامضة.
الصفقة التركية: فوسفات تدمر مقابل نقدٍ عاجل
في 2 نيسان/أبريل 2025، أتمّت شركة “ترانسبت” التركية شحنتها الأخيرة من الفوسفات الرطب من نوعي G4 وG6 — المعروف باحتوائه على نسب من اليورانيوم والمعادن النادرة — قادمة من مناجم تدمر (خنيفيس، الشرقية، الرخيم) باتجاه مرفأ اللاذقية، في طريقها إلى دولة شرق آسيوية لم يُكشف عنها.
وجاءت هذه العملية تتويجًا لصفقة رسمية تم توقيعها في 25 شباط/فبراير بين وزير النفط في الحكومة الانتقالية السورية، غياث دياب، وعضو مجلس إدارة “ترانسبت”، مصطفى كور، تتضمن بيع 175 ألف طن متري من الفوسفات بسعر 132 دولارًا للطن، تُنقل على أربع دفعات خلال 40 يومًا، مقابل دفعة نقدية مباشرة. تبع ذلك اتفاق آخر لتوريد مليون طن متري إضافي. وعند الاستفسار عن شرعية الاتفاق، أُوضح أنه تم عبر عقود رضائية ولكنه قانوني، مع التأكيد على حاجة الحكومة الماسة للأموال. في المقابل، ذكر مصدر آخر تحفظنا على ذكر اسمه، أن التعويض كان على شكل شحنات نفطية.
من هو مصطفى كور؟
االسيد مصطفى كور (Mustafa Kor) هو عضو مجلس إدارة شركة “ترانسبت” التركية (Transpet)، إحدى الشركات الرائدة في مجال تجارة المنتجات البترولية والنقل الطاقي في تركيا والمنطقة.
تُعد Transpet من كبرى شركات التجارة العابرة للنفط، وتدير أسطولًا ضخماً يضم أكثر من 4,200 ناقلة، وتمتلك ترخيصًا حصريًا لتجارة المنتجات البترولية وغاز البترول المسال (LPG) عبر الطرق بين تركيا وشمال العراق.
في عام 2022، مثّل كور الشركة في توقيع مذكرة تفاهم مع شركة مناجم الفوسفات الأردنية (JPMC) لإنشاء مصنع مشترك لإنتاج حمض الفوسفوريك في مدينة العقبة الأردنية، بطاقة إنتاجية 500 طن يوميًا. وقد أكد خلال المناسبة على أهمية الشراكة بين القطاعين العام والخاص، ودور شركته في تعزيز التعاون الإقليمي في مجال الطاقة والصناعة.
يمثل كور في صفقة تدمر الذراع التركية الطاقية والاستراتيجية، ضمن مساعٍ أوسع لتمكين شركات تركية من دخول السوق السوري في مرحلة ما بعد النزاع، تحت غطاء من الشراكات الرسمية مع سلطات الأمر الواقع.
التمهيد التركي… والطلاق الروسي
المفارقة الأكبر أن هذه الصفقة جاءت بعد خطوة غير معلنة اتخذتها الحكومة الانتقالية بإلغاء العقود الاستثمارية التي أبرمها النظام السوري مع شركات روسية، ومنها عقد فوسفات مع شركة “Stroytransgaz” الروسية، الذي منحها سابقًا حق استخراج 2.2 مليون طن سنويًا لمدة 50 عامًا.
بهذا الإجراء، تكون الحكومة الانتقالية قد أنهت عمليًا النفوذ الروسي في مناجم الفوسفات لصالح انفتاح اقتصادي على الشركاء الأتراك، في إطار إعادة رسم خارطة المصالح تحت عباءة “الشرعية الانتقالية”.
ناصر الرعد… من النفط إلى المصالحات الأمنية
سعى ناصر الرعد، بدعم من حازم الشرع، إلى توسيع نفوذه عبر تسويات أمنية تستهدف قادة وشخصيات كانت مرتبطة سابقًا بشبكة القاطرجي، في إطار خطة ممنهجة للسيطرة على ممتلكات الأخير رغم ان الرعد كان ببدايته يعمل لصالح عائلة القاطرجي. وقد بدأ تنفيذ هذا المسار فعليًا من خلال الاستحواذ على شاحنات القاطرجي، معدات التنقيب، ومساحات واسعة من مراعيه، ما دفع أبناء القاطرجي إلى توجيه نداءات متكررة للتحذير من حملة الاستيلاء التي تطالهم.
ولم يقتصر دور الرعد على النشاط التجاري، بل برز أيضًا كطرف أساسي في إدارة مصالحات أمنية حساسة، أبرزها ترتيب عودة المدعو مدلول العزيز إلى دمشق، بعد تسوية أمنية دفع مقابلها مبلغًا ماليًا كبيرًا.
العزيز، القيادي السابق في “جبهة النصرة” والذي انسحب عند دخول تنظيم “الدولة” إلى منطقته، لجأ لاحقًا إلى مناطق النظام حيث عقد تسوية خاصة مع المخابرات الجوية. وبعدها، شكّل ميليشيا محلية موالية لإيران، تورطت في تهريب المخدرات والنفط، وشاركت في تأمين شحنات “القاطرجي”، إلى جانب تنفيذ حملات اعتقال وتجنيد قاصرين مقابل المال والسلاح.
تُظهر هذه التحركات أن تسويات الرعد لا تقتصر على إعادة دمج أفراد سابقين، بل تهدف في جوهرها إلى إعادة تشكيل خريطة النفوذ الاقتصادي والأمني في المنطقة بما يخدم مصالحه الشخصية ويعزز مكانته على حساب قوى كانت فاعلة سابقًا، وفي مقدمتها شبكة القاطرجي.
احتكار الغاز في ريف حلب: التعطيل من أجل السيطرة
بالتوازي مع هذه التطورات، تفجّرت أزمة جديدة في ريف حلب الشمالي عندما أصدر مدير شركة “سادكوب”، أبو أحمد خاروف، قرارًا فجائيًا يقضي بإيقاف عمل جميع معامل تعبئة الغاز في المنطقة دون تقديم مبررات رسمية. وعندما سأل أصحاب المعامل عن السبب، كان ردّه مقتضبًا: “اذهبوا وبِيعوا طوناج معاملكم”، مشيرًا إلى أن القرار جاء بأمر مباشر من وزير الطاقة الجديد، محمد البشير.
وبعد أيام، دخلت شركة “الحسن” على الخط، والتي تُعد واجهة اقتصادية مرتبطة بناصر الرعد. بدأت الشركة بمطالبة أصحاب المعامل بتوقيع تعهدات خطية لنقل ملكية منشآتهم لصالحها، مقابل وعود بإعادة تشغيلها تحت إدارتها. القرار أدى إلى انفجار أسعار الغاز، إذ وصل سعر الأسطوانة إلى أكثر من 1000 ليرة تركية، ما تسبب بموجة غضب شعبي واتّهامات بفرض سياسة احتكار منظم.
دخلت شركة “الحسن” على الخط، والتي تُعد واجهة اقتصادية مرتبطة بناصر الرعد
اللافت أن المعامل المستهدفة كانت فقط في ريف حلب، بينما استُثنيت معامل إدلب والمعمل التركي العامل في المنطقة، ما فُسّر بأنه إجراء انتقائي يهدف لإقصاء المنافسين لصالح أطراف محددة.
خاتمة مفتوحة: مجلس اقتصادي جديد كواجهة للنهب؟
ما يجري في الشمال السوري المحرر ليس سوى صورة مكثفة عن التحولات العميقة في اقتصاد الحرب. فبين صفقات الفوسفات واحتكار الغاز، يتضح أن بعض الجهات تُعيد إنتاج آليات الهيمنة والفساد تحت عناوين مختلفة، فيما يدفع المواطن البسيط الثمن.
التحقيق يكشف، على نحو متسق، وجود شبكة تضم مسؤولين، رجال أعمال، ووسطاء سابقين في ملفات أمنية يخضعون لمجلس اقتصادي يدار من القصر الجمهوري في سوريا ، يسعون لبناء إمبراطوريات مالية عبر السيطرة على القطاعات الحيوية، بالتوازي مع تراجع الشفافية وتآكل ثقة الشارع ، مما يعيد للاذهان المكتب الاقتصادي للقصر الجمهوري خلال حكم الاسد الساقط.