بين سطور التصريحات الدبلوماسية والتحركات الخفية، تتكشف ملامح مرحلة جديدة من الصراع في سوريا؛ مرحلة تتشابك فيها المصالح الأمنية والعسكرية مع شبكات اقتصاد غير مشروع تتجاوز أرباحها ميزانيات دول بأكملها. هذا التداخل المعقّد بين العلني والسري، وبين الرسمي وغير الرسمي، يرسم خريطة نفوذ جديدة تتشكل في قلب الإقليم.
ولا يمكن قراءة التحولات السياسية أو ردودها العسكرية بمعزل عن الاقتصاد، الذي يشكّل المحرك الأساسي، لا سيما في دول العالم الثالث، حيث يتحوّل الاقتصاد إلى وسيلة للسلطة لا إلى نتيجة لها. وفي بلد أنهكته الحرب وتكوّنت فيه منظومة حكم مبنية على تمجيد دكتاتور بصلاحيات مطلقة، يصبح البحث عن حلفاء دوليين ليس فقط ضرورة استراتيجية، بل وسيلة لإطالة أمد النفوذ وتحصين شرعية متهالكة.
التناقض الروسي… ما وراء الدبلوماسية
في السادس من تموز/يوليو، سُجّل وصول شحنات أسلحة إلى ما يُعرف بـ”الحرس الوطني” في محافظة السويداء، وفق مصادر موثوقة، قادمة من مناطق خاضعة لسيطرة “قسد” شرقي البلاد، وهي مناطق تقع ضمن نطاق النفوذ الأمريكي المباشر. هذه العملية لم تكن منعزلة، بل جرت بتنسيق غير معلن مع فهمان حسين، المعروف باسم “باهوز أردال”، القائد العام لقوات الكَريلا — الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني (PKK) — الذي لطالما ارتبط بدعم أمريكي فعّال.
وشاركت في هذا التنسيق شخصيات محلية بارزة، منها الشيخ رائد المتني، مدير التواصل والعلاقات العامة في الهيئة الروحية الدرزية، والعقيد الركن فايز مهند، ما يعكس وجود تفاهمات داخلية ــ وخارجية ــ تهدف إلى إعادة تشكيل المشهد الأمني في الجنوب السوري، تحديدًا في السويداء ذات الأهمية الرمزية والطائفية.
ورغم أن المندوب الروسي في الأمم المتحدة، فاسيلي نيبينزيا، أعرب في تصريحاته عن قلق موسكو من تصاعد التوتر في السويداء، وشدد على احترام سيادة سوريا ووحدة أراضيها، إلا أن الواقع الميداني يشير إلى عكس ذلك. فالدعم الروسي، وإن جاء بطرق غير مباشرة، يصب في تعزيز قوى محلية لا ترتبط مباشرة بالنظام، في خطوة قد تُفضي إلى تغيّر في ميزان النفوذ الإقليمي.
هذا التناقض الصارخ بين الخطاب الدبلوماسي والممارسة الفعلية على الأرض يُفهم ضمن سياق أوسع لسعي موسكو إلى:
-
-
إحداث اختلال أمني محسوب يهدف إلى تغيير المعادلات الميدانية في الجنوب، وإعادة روسيا إلى واجهة اللاعبين المؤثرين في الملف السوري.
-
فرض واقع جديد على الأرض يسمح بتوسيع هامش المناورة الروسية بعيدًا عن الهيمنة المطلقة للنظام أو الأطراف الإقليمية الأخرى.
-
استخدام الجنوب السوري كورقة ضغط استراتيجية في مواجهة الخصوم الدوليين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة وإسرائيل، عبر خلق توترات قابلة للتصعيد أو الاحتواء حسب مقتضيات المصالح الروسية.
-
“قسد”… وسيط بين القوى الكبرى؟
يثير استخدام مناطق سيطرة “قسد” لتمرير شحنات السلاح إلى الجنوب السوري تساؤلات عميقة حول طبيعة علاقتها مع موسكو. فهل تقتصر مهمتها على تأمين الممرات اللوجستية؟ أم أنها باتت تلعب دور الوسيط غير المعلن بين القوتين الرئيسيتين في المشهد السوري — الولايات المتحدة وروسيا — ضمن معادلة توازن دقيقة تُدار من خلف الكواليس؟
تتقاطع هذه التساؤلات مع تقارير متعددة تشير إلى تورط “قسد” في أنشطة أكثر تعقيدًا، منها المساهمة في إنشاء ميليشيات جديدة، مثل إعادة تأهيل “لواء الإمام محمد الباقر” ذي التوجه الإيراني، وذلك بدعم روسي مباشر. كما تتحدث هذه التقارير عن وجود قاعدة عسكرية روسية في مطار القامشلي، ما يعزز فرضية التنسيق المشترك أو على الأقل التعايش الأمني بين قسد وموسكو.
وبطبيعة الحال، فإن هذه التحركات العسكرية والتنظيمية تتطلب تمويلًا مستمرًا، وهو ما تشير الأدلة إلى أنه يتم توفيره — جزئيًا على الأقل — من خلال شبكات تجارة المخدرات، التي أصبحت مصدرًا موازنًا لتمويل المشاريع العسكرية غير الرسمية في المنطقة.
المخدرات: اقتصاد موازٍ يحكم من خلف الكواليس
في موازاة الصراعات السياسية والعسكرية في سوريا، تتكشّف ملامح اقتصاد خفي تقوده شبكات المخدرات، والتي تحوّلت إلى أحد أبرز مصادر التمويل للميليشيات والنفوذ غير الرسمي في البلاد. وكشفت مصادر استخباراتية عن خريطة واسعة لتوزيع صناعة وتهريب المخدرات، تُظهر تورط مسؤولين رسميين في دول الجوار، وشخصيات مقربة من الحكومة السورية مثل المرسومي ومليشياته، والمدلول، الذين تربطهم علاقة مباشرة بجمال الشرع، رغم الخطاب الدولي المتكرر حول محاربة هذه الظاهرة وفرض العقوبات المرتبطة بها.
وبحسب تقارير أممية وأخرى أمنية موثوقة:
-
يُنتج الكبتاغون بكثافة داخل سوريا، ويُهرّب عبر لبنان والأردن والعراق باتجاه دول الخليج، ضمن شبكات إقليمية متشابكة.
-
تم ضبط شحنات مخدرات على متن سيارات رسمية في ليبيا والنيجر، ما يكشف عن تواطؤ جهات رسمية محلية في تمرير وتسهيل عمليات التهريب.
-
تُستخدم شركات الوقود والخدمات اللوجستية كواجهات لتغطية أنشطة التهريب، بدعم أو تغطية أمنية مقصودة، تتيح للمخدرات العبور دون عراقيل.
-
تشكل حدود السويداء مع الأردن ثغرة أمنية بارزة، حيث تُعتبر “النقطة العمياء” في جهود مكافحة المخدرات الأردنية، وسط ضعف رقابة دمشق وتنامي نفوذ المجموعات غير الرسمية في الجنوب السوري.
ورغم الخطابات الرسمية ومحاولات محاربة تجارة الكبتاغون، إلا أن الفقر المتفشي وتردّي الأوضاع الاقتصادية، إضافة إلى استئثار نخبة جديدة بمقدرات البلاد، كانت عوامل رئيسية في إدامة هذه التجارة. فهذه النخبة، بما في ذلك شخصيات مقربة من النظام، وجدت في هذه التجارة أموالاً لا يمكن مقاومتها، مما دفعها إلى المشاركة فيها واستثمارها كأحد أهم مصادر التمويل في ظل الانهيار الاقتصادي المستمر.
اقتصاد المخدرات… رافعة للنفوذ السياسي والمصالح الأمنية
تُقدر أرباح تجارة المخدرات في سوريا بأكثر من 7 مليارات دولار سنويًا، ما يجعلها واحدة من أقوى الاقتصادات الموازية التي لا تقتصر أهميتها على الجانب المالي فحسب، بل تتعداه لتكون أداة استراتيجية تُوظف في تعزيز النفوذ السياسي وتوطيد المصالح الأمنية. هذا الاقتصاد الموازٍ يُستخدم بشكل ممنهج لتمويل أنشطة متنوعة، تشمل:
-
دعم الجماعات المسلحة عبر تمويل رواتب مقاتليها، أو شراء ولاءات المجتمعات المحلية التي تعتبر الحاضنة الأساسية لهم، مما يضمن استمرارية وجودهم وقدرتهم على التأثير في مناطقهم.
-
زعزعة الاستقرار السياسي والاجتماعي من خلال تمويل شبكات إعلامية تضم صحفيين ومؤثرين وشخصيات سياسية، تستخدم هذه الشبكات أدواتها لنشر رسائل تخدم مصالح هذه القوى، وتوجيه الرأي العام بما يخدم أهدافها في صناعة واقع سياسي هش وممزق.
-
بناء شبكات ضغط وتأثير تملك القدرة على تعطيل أو عرقلة أي جهود جادة لمكافحة تجارة المخدرات، حيث رغم مرور أكثر من سبعة أشهر على إطلاق حملات مكافحة الكبتاغون، لم تسفر هذه الحملات عن نتائج ملموسة، بل شهدت تسويات مع قادة وأمراء هذه التجارة الذين يعملون بدعم مباشر أو غير مباشر من سماسرة نافذين مقربين من دوائر السلطة، على غرار جمال الشرع وغيرهم.
خريطة النفوذ في سوريا والمنطقة… من يصنع القرار الحقيقي؟
أضحى الخط الفاصل بين السياسة والتجارة غير المشروعة في سوريا أكثر ضبابية وتعقيدًا من أي وقت مضى، خاصة في ظل الدعم الروسي الذي يُستخدم لخلق توترات أمنية في الجنوب السوري اضافة الى قوى اخرى، في حين يتم تمويل شبكات الفساد وتجارة المخدرات عبر شخصيات نافذة يعملون تحت غطاء تفاهمات دولية ضمنية. هذه الخيوط المتشابكة تشير بوضوح إلى أن سوريا أصبحت مركزًا لصراع متعدد الأبعاد، تعتمد فيه القوى المتنافسة بشكل متزايد على تمويل غير مشروع — لا سيما تجارة المخدرات — لإدامة نفوذها.
تُفسر هذه الديناميكية المعقدة احتمالية انزلاق البلاد نحو صياغة اتفاقيات “سلم أهلي” برعاية دولية، تستهدف تهدئة الصراعات على المدى القصير، لكنها في الوقت ذاته تُبقي على التوترات البنيوية التي تعيق بناء مؤسسات دولة قادرة على إدارة البلاد بفعالية.
في ظل استمرار حالة الصراع والفوضى المؤسسية، تبقى الجغرافيا السورية أرضًا خصبة لازدهار شبكات المخدرات، التي لم تعد مجرد ظاهرة جانبية، بل تحولت إلى أحد أهم التحديات التي قد تُعيد إشعال الحرب الأهلية مجددًا، لكن هذه المرة عبر أبعاد دولية معقدة، حيث يصبح ملف المخدرات هو القضية السورية القادمة التي قد تُعيد رسم ملامح الأزمة السياسية والأمنية في المنطقة.