حسن عيسى
أثار قرار صدر مؤخراً عن الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية في سوريا، بمنع استيراد عدد كبير من المنتجات الزراعية، موجة واسعة من الجدل والتساؤلات حول الجهة التي تملك فعلياً صلاحية اتخاذ مثل هذه القرارات.
ولم تكد الضجة حول القرار تهدأ، حتى أصدرت وزارة الاقتصاد قراراً مطابقاً لما صدر عن الهيئة، دون الإشارة إلى التضارب الواضح في الصلاحيات أو توضيح أسباب التخبط الحاصل.
هيئة المنافذ.. من التنفيذ إلى التشريع!
وزيرة الاقتصاد السابقة، لمياء عاصي، وفي حديثها ، أشارت بوضوح إلى أن القانون السوري رقم /197/ لعام 2005 منح صلاحية إصدار قرارات حظر الاستيراد والتصدير حصراً لوزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية. وأكدت عاصي أن مسار اتخاذ هذه القرارات يجب أن يمر بعدة مراحل دقيقة، تبدأ بتقارير من الوزارات المعنية، مثل الزراعة والصحة والصناعة، إلى جانب التقييمات القانونية والمالية، قبل أن يصدر القرار النهائي عن وزارة الاقتصاد نفسها.
وتلفت الوزيرة السابقة إلى أن الهيئة العامة للمنافذ البرية والبحرية هي جهة تنفيذية بحتة، حلّت مكان الهيئة العامة للجمارك، ومهامها تتعلق بتحصيل الرسوم الجمركية وتنفيذ القرارات الصادرة عن وزارة الاقتصاد، دون أي صلاحية لإصدار أو إعلان سياسات عامة أو قرارات اقتصادية تخص الاستيراد والتصدير، وبالتالي فإن إعلان الهيئة الأخير هو تجاوز قانوني واضح.
وأضافت عاصي أن تداخل الصلاحيات بين الجهات المسؤولة عن رسم السياسات الاقتصادية وبين الجهات التنفيذية، يؤدي حتماً إلى فقدان ثقة المستثمرين في استقرار السياسات الاقتصادية، واضطراب الأسواق، ورفع تكاليف التمويل، وخلق بيئة استثمارية متقلبة وغير جاذبة، ما يتطلب إعادة هيكلة للمؤسسات وتحديداً دقيقاً للصلاحيات، وفصلاً واضحاً بين صناعة القرارات وتنفيذها، وتعزيز الشفافية والمساءلة.
وزارات بروتوكولية ودولة في الظل!
في سياق متصل، ذهب الخبير الاقتصادي يونس الكريم إلى ما هو أبعد من تجاوز الهيئة لصلاحياتها، حيث اعتبر، في حديثه أن الهيئة العامة للمنافذ لم تكتف فقط بتجاوز صلاحيات وزارة الاقتصاد، بل إنها جردت عدداً من الوزارات، مثل الاقتصاد والمالية والنقل، من صلاحياتها وقدرتها على التخطيط ورفع كفاءتها، وتحقيق الأهداف المنصوص عليها في قوانينها الداخلية، حتى بات وجود تلك الوزارات شكلياً وبروتوكولياً، وأصبحت هذه الوزارات مجرد كيانات تحتوي موظفين بلا صلاحيات فعلية، في حالة وصفها بـ”فوضى السلطات”.
ويؤكد الكريم أن الهيئة استحوذت فعلياً على الجمارك من وزارة المالية، وأخذت المناطق الحرة وإجازات الاستيراد والتصدير من وزارة الاقتصاد، إضافة إلى الموانئ والمعابر من وزارة النقل، مما جعلها السلطة التنفيذية الحقيقية، فيما الوزارات الرسمية تحولت إلى هيئات استشارية لا تملك أي قرار أو تخطيط.
ويربط الكريم هذه الحالة بوجود مجلسين اقتصاديين في سوريا: المجلس العام الذي يضم الوزراء والمسؤولين الرسميين لكنه لا يملك صلاحيات حقيقية، مقابل مجلس آخر في الظل يتشكل من شخصيات نافذة داخل وخارج المؤسسات الرسمية، وهو المجلس الفعلي الذي يدير المشهد الاقتصادي ويحدد القرارات الجوهرية.
من يحرك خيوط الاقتصاد؟
تقر الوزيرة السابقة لمياء عاصي بوجود “دوائر نفوذ” أو مجموعات ضغط غير مرئية في سوريا، سواء من رجال أعمال أو جهات أمنية أو دوائر داخل القصر الرئاسي، والتي تمارس تأثيراً عميقاً على القرارات الإدارية والاقتصادية، واصفةً ذلك بـ”الدولة العميقة”، وهو أمر موجود في دول عدة بدرجات متفاوتة، ويؤدي إلى غياب الشفافية والمساءلة عندما تطغى المصالح الشخصية على المصلحة العامة.
في حين يرى يونس الكريم أن هذه الفوضى في اتخاذ القرار لا تخدم سوى مصالح قلة من أصحاب النفوذ، وتفتح الباب أمام إعادة إنتاج نماذج فساد مشابهة لما كانت عليه الحال في فترة النظام السابق، مثل نموذج “أبو علي خضر”، الذي اعتمد على احتكار السوق المحلي وفتح الأبواب أمام التهريب.
الكريم أشار بوضوح إلى أن القرار الأخير بمنع استيراد السلع الزراعية الأساسية، رغم مبرراته الظاهرية بحماية المنتج المحلي، يخفي أهدافاً أخرى، أهمها تقليص السوق الرسمي وإفساح المجال لسوق التهريب والاحتكار، خاصة مع ضعف المؤسسات الرسمية وغياب السيولة المالية لديها.
ويحذر الكريم من أن استمرار هذه الفوضى وغياب القانون الواضح سيدفع المستثمرين إلى تبني مبدأ “اضرب واهرب”، أي الاستثمار قصير الأجل الذي يهدف إلى أعلى عائد بأقل وقت ممكن، ما يهدد مستقبل الاستثمارات الجادة والطويلة الأمد التي تساهم فعلياً في إنعاش الاقتصاد.
ختاماً، تؤكد الوزيرة السابقة لمياء عاصي أنه بعد تغير جذري في النظام الاقتصادي والسياسي للبلاد، باتت الحاجة ماسة لإصلاح جذري، يشمل إعادة هيكلة المؤسسات، وتوضيح مسارات اتخاذ القرار، وتعزيز الشفافية والمساءلة، ومراجعة التشريعات الاقتصادية، ووضع رؤية متكاملة واضحة لاستعادة ثقة المستثمرين، وإخراج الاقتصاد من حالة الفوضى الراهنة.
المصدر :هاشتاغ.