رغم سقوط بشار الأسد سياسيًا وأخلاقيًا، لا تزال أنفاس نظامه تتسلل إلى مفاصل الحياة السورية، بما في ذلك المناطق التي كانت الخارجة عن سيطرته.
لكن المثير للقلق اليوم ليس مجرد بقاء تأثير الأسد، بل محاولات استعادة أدواته السلطوية تحت عباءة “الشرعية الجديدة”، لا سيما من خلال إعادة تفعيل مراسيمه وقوانينه السابقة، أو عبر شخصيات تكن له الولاء الشخصي وتعيد تدوير سلطته عبر مؤسسات “الثورة” ذاتها.
المفارقة المؤلمة أن المراسيم التي أُسقطتها الثورة يومًا، تعود اليوم من بوابة حكومة انتقالية التي كان يفترض أن تجرّم رموز النظام وتقطع مع إرثه، لا أن تشرعن عودته باسم التنظيم والتشريع. لقد تحولت الأجيال الثائرة إلى رهائن بيد شخصيات مرتبطة بالنظام السابق، مستفيدة من مظلة “الشرع” الجديد، الذي عُقدت عليه الآمال ذات يوم باجتثاتهم.
إدلب تحت رقابة مالية مشددة: نحو إعادة الهيمنة على السوق
في تطور لافت، عاد ملف شركات الصرافة في إدلب ” غرب الفرات” إلى الواجهة إثر اجتماع جمع وفدًا من الصرافين المحليين ومسؤولين سابقين في “حكومة الإنقاذ”.
الاجتماع كشف عن توجه رسمي لإعادة تنظيم قطاع الحوالات والصرافة ضمن ما وصفه البعض بأنه “أجندة مركزية لإعادة بسط السيطرة الاقتصادية”، بما يشبه نموذج النظام السابق في دمشق.
أبرز مخرجات الاجتماع:
-
التشديد على أن الوضع الراهن غير مستدام، وضرورة فرض تغييرات صارمة.
-
رفض منح إدلب أي خصوصية أو استثناءات في شروط الترخيص.
-
تشكيل فرق من “الضابطة العدلية” لتنفيذ جولات رقابية ميدانية.
-
تسجيل مخالفات تتعلق بعدم توثيق بيانات المرسل والمستلم في بعض المكاتب.
- تلميح ان التعامل بغير الليرة سوريا بالحوالات هو جريمة.
الليرة التركية تحت الاستهداف… والدولار محمي بذريعة “الظروف الاستثنائية”
من أوضح المؤشرات على التحوّل الجديد في السياسة المالية تجاه شركات الصرافة في إدلب وغرب الفرات، ما جرى خلال الاجتماع الأخير الذي جمع صرافي المنطقة بمسؤولين سابقين في حكومة “الإنقاذ”، حيث طُرح سؤال صريح حول قانونية التعامل بالدولار، في سياق نقاش إجراءات تجريم التداول بغير الليرة السورية كلوم الشركات بغرب الفرات عن تجاوزها القانوني للمركزي ، حيث جاء رد أحد المسؤولين بصيغة سياسية مموّهة تحمل في طياتها أكثر مما تقوله حرفيًا:
“سأجيبك… هذا أمر يتعلق بالسياسة النقدية للدولة، ولا يمكن تعطيل هذه المصالح في ظل الظروف الاستثنائية.
هذا التصريح يلمّح بوضوح إلى أن التعامل بالدولار يُسمح به فعليًا، أو يُغض الطرف عنه، بذريعة “الظروف الاستثنائية”، بينما تُجرَّم العملات الأخرى – وعلى رأسها الليرة التركية – استنادًا إلى المرسوم رقم 54 لعام 2013 الصادر عن النظام الساقط و القمراسيم 5_6 لعام 2024 ، والذي يحظر استخدام أي عملة غير الليرة السورية، ويُعاقب المخالفين بالسجن والغرامات المالية الكبيرة.
بعبارة أخرى، يجري تطبيق القانون القديم بانتقائية تخدم مصالح السلطة، حيث يُبرَّر استخدام الدولار كضرورة وطنية، بينما يُنظر إلى استخدام الليرة التركية – التي اقرتها حكومة الانقاذ و وهي العملة المتداولة فعليًا في مناطق الشمال السوري – كجريمة يُعاقب عليها القانون!.
لكن المفارقة الأكبر، أن المركزي نفسه الذي يفشل في ضبط سوق الصرافة أو إدارة السياسة النقدية على مستوى البلاد، يُعيد توظيف قوانين الأسد الساقط لملاحقة مواطنين في المناطق الخارجة عن سلطته. ويتم تحميلهم عبء قرارات مالية مرتجلة وفاقدة للعدالة، وكأن هذه النصوص – التي استُخدمت سابقًا ضد الثورة – تُستعاد اليوم لتُفرض على حاضنتها، ولكن بأيدٍ مختلفة.
وفي المقابل، تُمنح الاستثناءات لشركات بعينها، مثل “الفؤاد” و”الهرم”، اللتين تقبلان التحويلات بالدولار وتُسلمها بالليرة السورية، رغم أزمة السيولة الخانقة التي تعاني منها الأسواق، وغياب توفر العملة المحلية إلا عبر هذه القنوات المحددة.
وتتعمق هذه الازدواجية في ظل الدعم العلني الذي تحظى به هذه الشركات من قبل منصة “شام كاش”، التي باتت تُعتبر فعليًا الادارة التنفيذية للبنك المركزي السوري الجديد، وصاحبة الكلمة العليا في السياسات النقدية داخل مناطق المعارضة، وهو ما ينسف مبدأ الاستقلال المالي، ويحول الاقتصاد إلى أداة سيطرة سياسية جديدة بواجهة “قانونية”.
المفهوم الاقتصادي أم الانتقائية السياسية؟
لا خلاف على أن لكل دولة الحق في فرض التعامل بعملتها الوطنية، لكن ذلك لا يُمكن تبريره إلا بوجود سياسات نقدية مستقرة، وقوانين واضحة تُطبق على الجميع دون تمييز. أما حين يصبح القانون وسيلة لتجريم فئة، وتمكين فئة أخرى من تحقيق أرباح خيالية عبر فوارق سعر الصرف، فحينها نكون أمام نموذج متجدد من الفساد والاستغلال السلطوي.
وهنا تحديدًا، يُطرح السؤال الجوهري:
أليست هذه الازدواجية عبر اختيار تشريعات اقتصادية انتقائية، من الأسباب البنيوية التي ساهمت أصلًا في سقوط نظام الأسد؟
فلماذا نُعيد إنتاج أدواته وسلوكياته اليوم، تحت مسميات الثورة والدولة الجديدة؟
أصل ازمة شركات الصرافة : أدوات النظام الساقط تعود لتكريس القبضة المالية
في ظل العجز الواضح في إدارة الملف المالي من قبل السلطة النقدية في الحكومة الانتقالية، تبدو الخيارات المطروحة أمامها محدودة، ما دفعها إلى الاحتماء بمراسيم النظام الساقط، وإعادة تدوير أدواته القديمة، لا عبر القوانين فقط، بل من خلال الاعتماد على شخصيات كانت جزءًا من دائرته الضيقة، مثل ميساء صابرين وعبد القادر حصرية، اللذين يشغلان اليوم مناصب حساسة في هيكلية البنك المركزي الجديد.
وتحوّل الأمر من إعادة استخدام الأشخاص إلى إحياء المراسيم ذاتها، وعلى رأسها المرسومان التشريعيان رقم 5 و6 الصادران في 20 كانون الثاني/يناير 2024 عن بشار الأسد – حينما كان لا يزال يحمل صفة “رئيس الجمهورية”. هذه المراسيم، التي تم تفعيلها مجددًا وفق تصريحات متطابقة صدرت عن عدد من المسؤولين في لقاءات مغلقة، حملت معها مجموعة من الإجراءات القمعية ذات الطابع المالي:
-
تجريم التعامل بغير الليرة السورية، رغم أزمة السيولة الحادة التي تشهدها البلاد.
-
منع ممارسة مهنة الصرافة دون ترخيص رسمي، في ظل شروط ترخيص تعجيزية، لا تُتاح فعليًا إلا عبر شركات مرتبطة بالمراكز المالية في دمشق.
-
الاستثناء الوحيد كان التعامل بالقطع الأجنبي لأغراض التجارة الخارجية أو عبر الحيازة القانونية، استنادًا إلى القرار التفسيري رقم 112/ل.إ الصادر لاحقًا في 28 كانون الثاني/يناير 2024.
ورغم ما يبدو من ظاهر هذه المراسيم على أنها خطوات تنظيمية لضبط السوق، فإنها تصطدم بعدة إشكاليات بنيوية:
-
غياب إطار قانوني واضح ومستقر لعملية الترخيص، حيث تتبدل التعليمات يوميًا، دون وجود بيئة تشريعية شفافة أو موحدة.
-
مطالب مالية ضخمة وغير مبررة، كان أبرزها إلزام شركات الصرافة بدفع مبلغ 30 ألف دولار كشرط للحصول على وكالة من إحدى الشركات المرخصة، والتي تقع أغلبها في دمشق وتعود ملكيتها لرجال النظام السابق أو لشخصيات نافذة ضمن المنظومة الحالية.
-
عدم قدرة الشركات المحلية على استيفاء الشروط المفروضة، نتيجة للضبابية القانونية، وضعف الإمكانيات، وانعدام الدعم المؤسسي العادل.
المفارقة الصارخة أن هذه الحملة المالية المكثفة تُركز حصرًا على مناطق إدلب وغرب الفرات، ما يثير تساؤلات جوهرية حول الأهداف السياسية الكامنة خلفها، خاصة في ظل الحاجة الملحة لأي تدفق نقدي داخل البلاد، وغياب أي مبرر اقتصادي حقيقي لفرض هذا النوع من القيود الباهظة.
لكن الأخطر، أن هذه المنظومة المالية الجديدة تعيد إحياء أدوات النظام الساقط نفسها، وتستند إلى مراسيمه ورجاله وخطابه الأمني المالي، ما يطرح سؤالًا محوريًا حول حقيقة المشروع القائم:
هل نحن أمام دولة جديدة فعلاً، أم أمام نظام قديم يعيد تشكيل نفسه من خلال واجهات مختلفة؟
هل نحن أمام دولة جديدة، أم مجرد إعادة إنتاج للنظام بوجه آخر؟
الضابطة العدلية: جهاز أمني بثوب اقتصادي
من أخطر تجليات أزمة شركات الصرافة في الشمال السوري هو إحياء مفهوم “الضابطة العدلية”، وهي وحدة أمنية مستحدثة تم استحداثها بموجب المرسومين 5 و6 الصادرين عن بشار الأسد في يناير 2024، لتكون أداة رقابة مالية بغطاء قانوني، لكنها في جوهرها امتداد للجهاز الأمني القمعي ذاته الذي سقط مع النظام.
فقد منح مصرف سوريا المركزي – بموجب هذه المراسيم – صلاحية إنشاء هذه الوحدة، لتتولى مهام ضبط ما يُصنَّف كـ”جرائم صرافة غير مرخصة”، ومراقبة التحويلات المالية الخارجة عن الإشراف الرسمي، تحت ذرائع مثل مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب.
لكن الأخطر، أن هذه الصلاحيات لم تُمنح لمؤسسات مالية مستقلة، بل كُلّف بتنفيذها موظفون من المصرف المركزي بالتعاون مع عناصر من الاستخبارات العسكرية وقتها ، وهي الجهة التي كانت لأعوام أداة ابتزاز وقمع بحق السوريين، حتى لحظة سقوط النظام.
وما يزيد من حساسية هذا التوجه هو أن هؤلاء المكلفين أدّوا القسم القانوني أمام المحاكم المدنية، ما يُضفي على دورهم طابعًا “رسميًا” يعيد إنتاج النموذج الأمني السابق داخل مؤسسات يُفترض أنها مدنية واقتصادية، فهل نحن امام اعادة انتاجهم من جديد ، ومن هم هل هم موظفين فقط او عناصر ياعاد تشكيلها من ارث النظام السابق ؟
منصة “شام كاش” وعودة الأذرع القديمة: احتكار السيولة باسم السوق
في ظل هذه السياسات المالية المتشددة، تتصاعد المخاوف من عودة الأذرع الاقتصادية للنظام السابق عبر بوابة “شام كاش”، المنصة التي باتت تتحكم فعليًا في مفاصل السوق الداخلية للحوالات المالية، تحت غطاء “تنظيم القطاع”.
تعمل شركات مثل “الهرم” و”الفؤاد” على إدارة الحوالات الخارجية، فيما تتولى “شام كاش” التحكم بالسوق المحلية، ما يعني فعليًا احتكارًا مزدوجًا للسيولة النقدية، حيث أصبحت هذه المنظومة قادرة على توجيه حركة الأموال، وضبط أسعار الصرف وفق مصالحهم فقط، وتحديد من يستطيع الوصول إلى العملة ومن يُحرم منها.
هذا التمركز المالي لا يعيد فقط إنتاج النموذج الاقتصادي السابق، بل يحوله إلى شريان يغذي الاقتصاد الموازي المرتبط باتلمجلس الاقتصادي الاعلى وليس المؤسسات كما يستفيد منها بقايا النظام الى يتم احياءها بالخفاء والذي سقط سياسيًا وأخلاقيًا، لكنه لا يزال حيًا في مفاصل السوق عبر أدوات مالية مجددة وبواجهة جديدة.
إن إعادة تموضع هذه الشركات ضمن منصة شبه رسمية، دون خضوع حقيقي للرقابة أو الشفافية، يمثل خطرًا مباشرًا على أي محاولة لبناء اقتصاد مستقل عن إرث النظام السابق.
بقاء رجالات الأسد في مفاصل القرار المالي
رغم أن بقاء موظفين في البنك المركزي يمكن تفسيره بكونهم من الكوادر الموظفين السوريين، فإن استمرار شخصيات اقتصادية كانت مقربة من بشار الأسد في مواقع صنع القرار يطرح تساؤلات خطيرة.
تعيين عبد القادر حصرية حاكمًا للبنك المركزي، وعودة ميساء صابرين كنائبته رغم كل ما كتب وقيل اضافة الى وجود مشيخة تابعة لمجلس الاقتصادي الاعلى تابع لرئاسة الجمهورية يتحكم بالقرار بالبنك المركزي بشكل مستقل عن دولة السوريا و سياسات صالح العام ، يمثلان استمرارًا واضحًا لهيمنة الحلقة المالية الضيقة التي حكمت سابقا و تحكم الان ا ويزداد القلق من كون هذه الأسماء لا تزال تملك الكلمة الفصل في قضايا تمس حياة السوريين اليومية.
ما يحدث اليوم في إدلب لا يمكن قراءته كتحسين تنظيمي فحسب، بل هو محاولة لإعادة تدوير النظام السابق وخلق نظام جديد يشمل السلطة الموازية للدولة . ومن خلال أدوات مالية وأمنية، تُفتح أبواب خلفية لعودة هيمنتهم ظاهرها البنك المركزي دخلها المجلس الاقتصاد العلى لرئاسة احمد الشرع وبكن بجوهرها الحقيقي هو الاسد ، عبر رجاله ومراسيمه وشركاته، ليُعاد فرض السيطرة على مفاصل الاقتصاد السوري، حتى في مناطقه المحررة.
فهل نشهد ثورة مضادة بأدوات الثورة نفسها؟ أم أن المعركة الحقيقية لم تبدأ بعد؟