حين يبرّر الاقتصاد ما تعجز العقيدة عن تبريره
على الرغم من العداء التاريخي والمعلن بين السوريين وإسرائيل، فإن انهيار نظام الأسد في دمشق، وما تبعه من تفكك مؤسسات الدولة، فتح المجال أمام تصوّر واسع لدى بعض السوريين بأن سقوطه تم بضوء أخضر إسرائيلي.
ورغم غياب أي دليل رسمي يؤكد هذه القناعة، إلا أنها شكّلت مبررًا ودافعًا لعدد من الفصائل الميدانية في سوريا لفتح قنوات تواصل مع تل أبيب، سعيًا وراء تثبيت نفوذها وتحقيق طموحاتها، ليس فقط في الميدانين السياسي والعسكري، بل وصولًا إلى إقامة روابط اقتصادية مباشرة.
غير أن هذه التحركات لم تنطلق من رؤية وطنية واضحة، أو حتى من مصالح محلية مستقلة، وإنما جاءت ضمن إطار تنافسي ضيّق لتعزيز قوة طرف على حساب آخر داخل المشهد السوري الممزق.
بداية التفاهم النفطي: شركة ديليك تدخل حقول رميلان
مع تصاعد حالة الانقسام وغياب السلطة المركزية، بدأ بعض الفاعلين المحليين في مناطق النفوذ المختلفة بتجاوز الأطر القانونية والدستورية المؤقتة، لصالح قرارات فردية تتعلق بالتصرف في مقدرات الدولة السورية.
من أبرز هؤلاء، الرئيس أحمد الشرع، الذي تجاوز ليس فقط الإعلان الدستوري المؤقت الذي وضعه في صياغته، بل كذلك الأعراف الدولية ومؤسسات الدولة، ليتخذ قرارات سيادية—مثل التصرف في أملاك الدولة—بشكل شخصي، تحت مبرر سياسي مفاده: “الذي يحرر يقرر”. وقد تم إنشاء ما يُعرف بـ”المجلس الاقتصادي الأعلى”، وهو هيئة اقتصادية موازية لا تخضع لأي رقابة أو مساءلة، شكلها الشرع من دائرة ضيقة من المقربين، لتعمل كواجهة اقتصادية لسلطته الفعلية.
هذا السلوك شجّع قوى أخرى—ومنها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، التي لا تتفق سياسيًا مع الشرع—على تبنّي نمط مشابه في التصرف بأملاك الدولة العامة لأهداف فئوية أو محلية ضيقة. فباتت الثروات الوطنية تُدار من قبل قوى أمر واقع، دون توافق دستوري أو رقابة شعبية، بل وفق توازنات القوى على الأرض.
في هذا السياق، وبتاريخ 2 أغسطس/آب 2025، دخل إلى الأراضي السورية عبر معبر سيمالكا مع إقليم كردستان العراق، فريق فني إسرائيلي يتبع لشركة ديليك الإسرائيلية (Delek Group)، وهي من كبريات شركات الطاقة في إسرائيل، تُعرف بنشاطها في الاستكشاف البحري والبري للنفط والغاز، ولعبت دورًا بارزًا في تطوير حقول الغاز في شرق المتوسط.
تكوّن الفريق من:
-
6 مهندسين.
-
4 خبراء جيولوجيين.
دخل هؤلاء إلى منطقة رميلان بمحافظة الحسكة، بدعوة من شركة محلية تُعرف باسم “روجآفا النفطية“، وذلك في إطار مذكرة تفاهم تهدف إلى استكشاف وتقييم الموارد النفطية في حقول رميلان والسويدية.
ويُذكر أن شركة “روجآفا النفطية” كيان حديث النشأة، أُنشئ خصيصًا لتمهيد وتنظيم هذا اللقاء.
هوية الفريق الإسرائيلي
فيما يلي لمحة عن أبرز الأسماء التي تأكدت هويتهم ضمن الوفد الإسرائيلي الفني:
سم | المسمى الوظيفي | ملاحظات |
---|---|---|
عوديد أرسينو (Oded Arsenault) | مهندس بترول – شركة ديليك | خبير في الاستكشاف والإنتاج |
شموئيل فيكسلر (Shmuel Veksle) | مهندس بترول – شركة ديليك | متخصص في العمليات البرية |
ماكسيم شفيلي (Maxim Shvili) | مهندس بترول – شركة ديليك | ذو خلفية في مشاريع المتوسط |
إيتسيك إيدلسون (Eitsik Edelson) | مهندس بترول – شركة ديليك | عمل سابقاً في التنقيب البحري |
آفي هيرشكو (Avi Hershko) | مهندس بترول – شركة ديليك | يشرف على عمليات الحفر |
غير محددين (4 جيولوجيين) | خبراء جيولوجيا | لم تُكشف هوياتهم بعد |
المفارقة التي تثير الريبة، أنّ البحث المفتوح والتحقق من خلفيات هؤلاء الأشخاص عبر الإنترنت — سواء عبر محركات البحث العامة، أو قواعد البيانات المهنية مثل LinkedIn، أو حتى من خلال موقع الشركة نفسها — لم يسفر عن أي نتائج تؤكد وجودهم المؤسسي أو حضورهم الرقمي الموثوق. هذا الغياب الكامل لأي أثر إلكتروني أو سيرة مهنية علنية يفتح الباب أمام تساؤلات جدية حول طبيعة المهمة وهوية الفاعلين الحقيقيين.
وتبيّن لاحقًا أنّ الأسماء المعلنة ليست حقيقية، وأن بعض أصحابها يمارسون أنشطة مغايرة تمامًا لما ورد في إفادة المصدر الخاص من “قسد”، ما يعزز الاحتمال بأن هؤلاء ليسوا خبراء نفط، بل يحملون أهدافًا أمنية أو استخباراتية، وهو ما يوسّع دائرة الشكوك.
قد يكون هذا التعتيم الرقمي متعمدًا، سواء لحماية الفريق الإسرائيلي نظرًا لحساسية المهمة، أو لأن الأسماء المستخدمة مستعارة أو رمزية في إطار اتفاق أمني غير معلن. وفي واقعة مشابهة عام 2021، وثّقت الاستخبارات العسكرية التابعة لنظام الأسد دخول فريق من العناصر الاستخباراتية الإسرائيلية — ضمّ 11 مهندسًا وطبيبًا — في مهمة ميدانية سرية داخل مناطق سيطرة “قسد” في الشدادي.
حينها، كانت الأسماء المعلنة عامة وغير حقيقية، في محاولة لتمويه هوياتهم الحقيقية ومنع كشف طبيعة مهامهم أو الجهة التي تشرف عليهم.
خلفية عن شركة ديليك:
- تأسست عام 1951.
- رائدة في تطوير حقلي ليفياثان وتمار البحريين.
- ترتبط بعلاقات استراتيجية مع شركات أميركية مثل نوبل إنرجي (Noble Energy).
- تتوسع باتجاه أسواق شرق المتوسط، واليوم تتجه لأول مرة نحو الداخل السوري.
من الجهة المقابلة: شركة “روجآفا النفطية”
بحسب المصدر، تُعدّ شركة “روجآفا النفطية” الذراع التنفيذية للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، والمُرشَّحة لتولي الإشراف المباشر على إدارة الموارد النفطية في مناطق رميلان، السويدية، والشدادي، وذلك في مرحلة ما بعد الاتفاق مع الشركة الإسرائيلية.
ووفق إفادة المصدر، تتسم الشركة بالملامح التالية:
-
المدير التنفيذي: سردار عثمان، مهندس سوري من مواليد المالكية.
-
تاريخ التأسيس: 2016، بدعم تقني من الولايات المتحدة.
-
شبكة الشراكات: تعتمد على تعاون إقليمي، ولا سيما مع شركات نفطية في إقليم كردستان العراق.
نص الاتفاق – ماذا تقول المذكرة؟
وفق نسخة حصلت عليها وحدة التحقيقات، فإن مذكرة التفاهم التي وُقّعت مطلع يوليو 2025 في القامشلي بين سردار عثمان ويوتام آودن (Yotam Odin) – نائب المدير التنفيذي لشركة ديليك، تنص على ما يلي:
البنود الرئيسية:
- مدة العقد: 10 سنوات غير قابلة للتجديد.
- تنفيذ دراسات سيزمية ثلاثية الأبعاد لتقييم التكوينات الجيولوجية في حقول رميلان والسويدية.
- تخصيص مساحة استكشاف تصل إلى 80 كم².
- تمويل أولي بقيمة 20 مليون دولار:
- 45% تتحملها ديليك.
- 55% تتحملها روجآفا.
- تأسيس لجنة إشراف مشتركة لتسويق واستلام الإنتاج.
- تقاسم الأرباح:
- 34.5% لشركة ديليك.
- 50% لشركة روجآفا.
- 15.5% مخصصة لـ “التزامات تشغيلية واستراتيجية”.
- تلتزم ديليك بتوريد جميع المعدات والخبراء اللازمين للتنقيب.
الأبعاد السياسية – إسرائيل على الخريطة الاقتصادية السورية
يُعد هذا الاتفاق سابقة تاريخية، إذ أنها المرة الأولى التي تدخل فيها شركة إسرائيلية باسمها الى قطاع الطاقة في سوريا.
صحيح أن العقود الموقعة لا تحظى باعتراف دولي باعتبارها جرت خارج مؤسسات الدولة المركزية، إلا أنها بحكم الواقع الميداني، تُرسخ:
- وجودًا اقتصاديًا إسرائيليًا مباشرًا في الشمال الشرقي.
- نفوذًا محميًا أمنيًا من قبل حلفاء تل أبيب.
- تغييرًا في قواعد اللعبة الجيوسياسية، خصوصًا مع تراجع التأثير الإيراني في الشرق.
ماذا عن روسيا؟ هل يتحوّل الخلاف إلى صراع؟
من أهم ما يمكن استخلاصه من الاتفاق، أنه يُنذر بإعادة خلط أوراق النفوذ. فروسيا التي تسيطر على مناطق الساحل والبادية وتحمي مصالحها في فوسفات تدمر ومرفأ طرطوس، لن تقف مكتوفة أمام التمدد الإسرائيلي في قطاع الطاقة، حتى ولو كان بعيدًا عن ساحات نفوذها التقليدية.
سيناريوهات محتملة:
-
-
- تدخل روسي/ تركي غير مباشر لعرقلة التنفيذ عبر دعم جماعات محلية.
- طرح عقود مضادة في مناطق الإدارة الذاتية عبر واجهات شركاء روس.
- استغلال الملف لإعادة التفاوض مع واشنطن حول مناطق النفوذ في سوريا.
- تحريك بعض العشائر العربية بدعم تركي، وتصعيد التوتر في المنطقة، يهدفان إلى إدخال الإدارة الذاتية في حالة من الضعف تمنعها من تنفيذ التزاماتها.
- طلاق هذه المشاريع، مستغلةً الحوار القائم مع دمشق على أكثر من صعيد، بما في ذلك ملف الجنوب، قد يهيئ الظروف لفرض الوجود الإسرائيلي كأمر واقع من الجانب الاقتصادي.
-
في نهاية المطاف، يمكن لأي تفاهمات اقتصادية تبدو هشة ان تتحول الى واقع اذا كانت تخفي تفاهمات سياسية امنية .
تداعيات داخلية – حقل رميلان صار محرّمًا
على الصعيد المحلي، باتت حقول رميلان عمليًا خارج أي مساومة محلية. فمنذ توقيع العقد، لم تعد أطراف الإدارة الذاتية ولا فصائلها تملك حرية القرار حول استخدام أو استثمار هذه الحقول دون موافقة ضمنية من شركة ديليك، وبالتالي من إسرائيل.
ويعني ذلك أن:
- أي جهة تحاول الاقتراب من الحقول تُعتبر “تهديدًا للمصالح الإسرائيلية”.
- التفاهمات الأمنية حول المنطقة ستُعاد صياغتها.
- الموارد أصبحت ورقة تفاوض إقليمي لا محل فيها للسكان المحليين.
من يملك النفط يملك القرار… ومن يملك القرار يرسم الجغرافيا
صفقة بين روجآفا وديليك ليست مجرد مشروع للتنقيب عن النفط، بل تمثل أداة استراتيجية للسيطرة، وإعلانًا غير مباشر بأن السيطرة على الأرض وحدها لم تعد كافية، بل يجب أن تتجسد في عقود إنتاج، ومسارات تصدير، وخطوط أنابيب، وتفاهمات دولية.
الأخطر أن هذه الصفقة قد تُشعل سباق تسلح وصراعًا ناعمًا في الشمال السوري:
-
من جهة، تتنافس قوى محلية على التموضع حول الشركات الدولية والمشاريع الاقتصادية.
-
من جهة أخرى، يستمر التفكك الداخلي، الذي تغذيه خطابات الكراهية والتخوين، مهددًا الاستقرار الداخلي.
في النهاية، لم تعد الحرب تُخاض بالسلاح فقط، بل أصبحت تُدار بالعقود، والتفاهمات، والسيطرة على الحقول الاقتصادية الحيوية.