منذ عام 2015 بدأت أزمة المياه في القامشلي وشمال شرق سوريا تتفاقم بشكل غير مسبوق، لتتحوّل تدريجيًا إلى أزمة هيكلية، خاصة مع تكرار تعطّل محطة علوك منذ 2019. هذه الأزمة لم تقتصر على شحّ المياه، بل تسببت في تغيّرات ديموغرافية داخل الأحياء والقرى، فلم يعد التغير الديمغرافي سببه سياسي او عسكري او أثني اليوم هناك عامل جديد هو المياه ، هو ما انعكس بشكل مباشر على استقرار الإدارة الذاتية ونفوذها، وأضعفت مساراتها التفاوضية كإدارة مدنية. ومن هنا، أصبحت أي اتفاقيات خدمية أو استثمارية في المنطقة خاضعة لمنطق البراغماتية، سواء مع حكومة دمشق قبل سقوطها وخبرتها في إدارة المدن، أو مع شركاء آخرين، أكثر منها رهينة للسياسة المجردة. هذا الواقع انعكس لاحقًا على ضعف استقطاب الاستثمارات، إذ لا يمكن لأي طرف أن يغامر بضخ أموال كبرى في مشاريع كهذه ما لم تكن مجدية تجاريًا وذات ضمانات استدامة، في ظل غياب مؤسسات حقيقية من الادارة المحلية قادرة على إدارتها.
وعلى الرغم من التدفقات المالية الكبيرة التي حصلت عليها قوى الأمر الواقع، من قسد إلى النظام السوري الساقط ، لم يُنجَز مشروع بنيوي حقيقي يمكن أن يرسّخ مؤسسات دولة، ما كشف بوضوح عن عجز هيكلي في الإدارة المحلية،
في المقابل، ترى الشركات الإسرائيلية الآن في هذه المشاريع فرصة استثمارية–أمنية مزدوجة، يمكن توظيفها كأداة ضغط على العراق، وإقليم كردستان العراق، وسوريا، مع توجيه ثقل خاص نحو تركيا التي تبقى الهدف الاستراتيجي الأهم. وتُقدَّم هذه المشاريع كبديل عملي عن مسار حزب العمال الكردستاني (PKK)، بحيث تندمج في خطط أشمل ترسمها الولايات المتحدة وإسرائيل في المنطقة، تشمل الطاقة وأنظمة المراقبة الأمنية الموجّهة ضد تنظيم داعش والجماعات الجهادية. وبالتوازي، تتحوّل هذه المشاريع إلى نقاط رصد حدودية، أشبه بأشكال وصاية إسرائيلية غير معلنة على التخوم.
وفي هذا التوجه تبرز مبادرة جديدة في شمال شرق سوريا تتعلق باستثمار مياه نهر دجلة عبر مشروع تُشرف عليه شركة ميكوروت الإسرائيلية بالتعاون مع منظمة أمريكية تُعرف باسم تحالف الأديان (Multifaith Alliance).
المشروع، الذي أُعلن عنه إثر لقاء عقد في القامشلي بتاريخ 15 آب/أغسطس 2025، يتجاوز كونه مجرد خطة تنموية إلى كونه ورقة جيوسياسية حساسة تتقاطع فيها القوانين الدولية مع الحسابات الاقتصادية والأمنية.
خلفية الاجتماع والجهات المشاركة
عُقد الاجتماع تحت استضافة حسن محمد علي، الرئيس المشترك لمكتب العلاقات العامة في مجلس سوريا الديمقراطية (مسد)، ونُفذ بمبادرة من رافائيل عوفر، ممثّل شركة ميكوروت، الشركة الوطنية الإسرائيلية للمياه. ودعمت منظمة تحالف الأديان الأمريكية اللقاء، بمشاركة شخصيات بارزة مثل ستيفن تاتوم وكيفن جيمس، وكلاهما أمريكي الجنسية. وعلى الرغم من عدم وجود أدلة رسمية تربط هذه الأسماء مباشرة بالجهات المذكورة، فإن انعقاد الاجتماع يحمل دلالات مهمة، إذ يعكس تصاعد مستويات التنسيق الأمني والسياسي بين الأطراف، ويبرز اهتمام جهات دولية وأجنبية بالملف السوري، خصوصاً في مناطق الإدارة الذاتية. كما يشير إلى إمكانية فتح قنوات غير معلنة للتعاون أو تبادل المعلومات بين مؤسسات محلية ودولية، مما يجعل هذا الاجتماع نقطة ارتكاز لفهم التحولات السياسية والتأثيرات الخارجية على ديناميات السلطة في شمال وشرق سوريا.
الوصف الفني للمشروع
يشمل المشروع مد خط رئيسي لنقل المياه من نهر دجلة بمحاذاة حدود إقليم كردستان لمسافة تقديرية تبلغ 148 كم، باتجاه الحسكة والقامشلي مرورًا بمنطقة ديريك، لتلبية الاحتياجات الزراعية والحضرية في المنطقة. ويتضمن المشروع عدة مكونات رئيسية، منها نقل المياه إلى بحيرات سفان التي تبعد عن مجرى النهر الطبيعي 18كم رغم وجود مخاطر مد المياه الى جبال قنديل ، جل آغا التي تبعد 25كم ، ومزكفت 20كم ، وإنشاء بحيرة اصطناعية جنوب القامشلي، بالإضافة إلى خزان رئيسي جنوب الحسكة لتصريف أي فائض. ويشتمل المشروع أيضًا على محطات تحلية وتوزيع بطاقة تصل إلى 400 مليون متر مكعب سنويًا، تعمل بالكامل بالطاقة المتجددة، مع إمكانية ري نحو 150 ألف هكتار من الأراضي الزراعية. وقد تم تمويل المشروع بتقاسم التكلفة، والتي تقدر بحوالي 2 مليار دولار، بين شركة ميكوروت الإسرائيلية ومنظمة تحالف الأديان.
الإطار القانوني الدولي
السيادة الوطنية: يُنفذ المشروع خارج نطاق سلطة الحكومة المركزية السورية، ما يثير تساؤلات جدية حول خرق السيادة الوطنية وفق القانون الدولي، لا سيما مبدأ احترام وحدة وسلامة أراضي الدول المنصوص عليه في المادة 2 من ميثاق الأمم المتحدة. وقد يؤدي هذا الوضع إلى تصعيد الصراع الداخلي في سوريا، لا سيما أن جزءًا من الجغرافيا المحتلة يسيطر على الموارد الحيوية، في حين يعيش باقي السكان في فقر شديد، مما يضاعف احتمالات اندلاع صراع داخلي واسع من جديد.
القانون الدولي للمجاري المائية الدولية: يُصنف نهر دجلة كمجرى مائي دولي وفق تعريف اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997 بشأن استخدام المجاري المائية الدولية لأغراض غير الملاحية. وتقوم المبادئ الأساسية للاتفاقية على الاستخدام المنصف والمعقول للمياه (المادة 5) والالتزام بعدم التسبب بضرر ذي شأن للدول المجاورة (المادة 7). ومن ثم، فإن تنفيذ المشروع من جانب واحد، دون موافقة العراق وتركيا، يُعد خرقًا لهذه المبادئ، خصوصًا مع معاناة العراق من الجفاف. كما أن المشروع قد يفتح الباب لنزاعات قانونية دولية حول السدود التركية القائمة، ويعيد تنشيط العمليات الاستخباراتية الصامتة بين الأطراف المعنية لإفشال مشاريع الطرف الآخر.
المسؤولية الدولية: انخراط شركات أجنبية، بما فيها إسرائيلية وأمريكية، في استغلال مجرى مائي دولي داخل سوريا يعرضها للمساءلة القانونية الدولية إذا تسبب المشروع في الإضرار بتدفق المياه إلى العراق أو تركيا. وقد يتم تجنب هذه المساءلة فقط إذا تم تنفيذ المشروع وفق أطر قانونية تسمح للإدارة الذاتية بالضغط على الحكومة السورية لمنح هذه الشركات حرية العمل، ضمن مبدأ الخصخصة والنمط الرأسمالي الذي تتبعه استثماراتها.
الأبعاد الاقتصادية والسياسية (سيناريو التنفيذ المستقل)
يمكّن المشروع الإدارة الذاتية من بناء قوة مالية مستقلة مقارنة بباقي الأقاليم السورية اذا ماتم الاتفاق على الفدرالية الادارية او من حكومة دمشق المركزية ، مما يزيد من نزعتها نحو الاستقلالية ويعزز سيطرتها على الموارد المحلية.
كما قد تتيح لها إمكانية بيع منتجات المياه إلى الحكومة في دمشق أو إلى إدارات أخرى، ما يمنح الإدارة الذاتية نفوذًا أكبر في صناعة القرار السياسي.
الأبعاد الاجتماعية
يسهم المشروع في تحسين مستوى الخدمات الأساسية مثل مياه الشرب والري، ويحد من النزوح الداخلي عبر تثبيت السكان في مناطقهم، ما يعزز الشرعية المحلية للإدارة الذاتية ويقوي ارتباط السكان بمؤسساتها.
الأبعاد العسكرية والأمنية
تظل مشاريع المياه أهدافًا محتملة في النزاعات المسلحة. دخول إسرائيل والولايات المتحدة في الملف يفرض ترتيبات أمنية معقدة، وقد يزيد من التواجد العسكري الأمريكي في المنطقة. كما قد تدفع الخطوة تركيا لتعزيز تحركاتها العسكرية على الحدود الشمالية لمنع أي مسار يمنح الإدارة الذاتية شرعية إقليمية.
الأبعاد السياسية والإقليمية
تعتبر دمشق المشروع خرقًا مباشرًا لسيادتها. تركيا ترى أي تعاون مائي مع الأكراد تهديدًا وجوديًا، بينما يخشى العراق من انخفاض منسوب نهر دجلة الحيوي لاقتصاده وزراعته. الولايات المتحدة وإسرائيل قد تستخدم المشروع كأداة لتعزيز النفوذ الإقليمي وإعادة تشكيل موازين القوى.
السيناريو الثاني: تنفيذ المشروع بموافقة حكومة دمشق
الكلفة والعوائد
تظل الكلفة مرتفعة، لكنها تحصل على غطاء قانوني، ما يسهل جذب الاستثمارات والتمويل الدولي ويقلل احتمالية النزاعات المباشرة.
الأبعاد الاقتصادية والسياسية
تُشارك الحكومة السورية في العوائد الاقتصادية، ما يقلل النزعة الاستقلالية للإدارة الذاتية، ويحوّل المشروع إلى أداة لتعزيز الاقتصاد الوطني وتوزيع الموارد بشكل متوازن. كما قد يؤدي المشروع إلى تطوير نمط جديد من العقود بين الملكية والاستثمار، بما يخدم شبكات المياه في باقي أنحاء سوريا.
الأبعاد الاجتماعية
تتوسع الفوائد لتشمل مناطق أوسع، بما في ذلك تحسين البنية التحتية المائية وخدمات الري، ما يعزز الاستقرار الاجتماعي ويحد من النزوح الداخلي، وقد يخفف من رفض السكان للمشروع نتيجة خلفية شركات السياسية.
الأبعاد العسكرية والأمنية
ينخفض احتمال استهداف المنشآت، بفضل التعاون بين دمشق والإدارة الذاتية، كما تقل الحاجة لتواجد أجنبي كثيف، ما يخفف التوترات مع تركيا ويزيد الأمان المحلي.
الأبعاد السياسية والإقليمية
يحصل المشروع على شرعية وطنية ودولية أكبر، ويقلل المخاوف الإقليمية في حال الاتفاق حول حصص المياه، ما يجعله أداة لتعزيز التعاون الإقليمي بدلًا من إثارة التوتر.
السيناريوهات المستقبلية للمشروع
النجاح الجزئي: تنفيذ مشاريع محدودة مثل وحدات تنقية صغيرة أو محطات معالجة مياه محلية، ما يوفر فوائد جزئية للسكان دون تغييرات كبيرة على المشهد السياسي أو الإقليمي.
النجاح الكامل: إقامة مشروع ضخم يمتد لأكثر من 150 كم، مدعومًا بتمويل وسياسة قوية، يحقق فوائد اقتصادية واجتماعية كبيرة للإدارة الذاتية، لكنه يفاقم الصدام مع أنقرة وبغداد ودمشق بسبب تداعياته على السيادة وتدفق المياه.
الفشل: تجميد المشروع بالكامل نتيجة معارضة قوية من القوى الإقليمية والدولية، مما يوقف أي تقدم في تحسين البنية التحتية المائية ويترك الإدارة الذاتية دون مكاسب ملموسة.
لمحة تاريخية عن محاولات استجرار مياه نهر دجلة إلى شمال شرق سوريا
شهدت فكرة استجرار مياه نهر دجلة إلى شمال شرق سوريا عدة محاولات سابقة، لكنها جميعها واجهت عوائق فنية وسياسية واقتصادية أدت إلى فشلها:
-
منتصف التسعينيات:أطلقت شركة الرافدين للتقنيات المائية مشروعًا أوليًا لمد قناة من نهر دجلة إلى الحسكة، بتمويل من البنك الدولي للتنمية المائية ، لكنها فشلت بسبب نقص بالتمويل والبنية التحتية غير الكافية، ما أدى إلى توقف المشروع عام 1998.
-
عام 2007:حاولت شركة أورينت للهندسة المائية تنفيذ مشروع مماثل بدعم من منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (FAO) بهدف ري الأراضي الزراعية في الجزيرة السورية ، لكن اعتراض الحكومة السورية على المشروع، ورفض العراق المجاورة للحدود الدولية،
مشروع استثمار مياه دجلة في شمال شرق سوريا يمثل تحولًا استراتيجيًا يتجاوز البعد التنموي إلى صراع على الشرعية والسيادة والموارد، ورغم إعلان إمكانية بدء تنفيذه مطلع 2026، فإن نجاحه يبقى رهينًا بمدى:
-
قدرة الإدارة الذاتية/ حكوكة دمشق على تأمين تمويل مستدام والخروج من دائرة الفساد والمناكفات السياسية .
-
تقبّل تركيا والعراق لأي تدخل خارجي في ملف المياه.
-
الموقف القانوني الدولي الذي قد يعتبر المشروع انتهاكًا لمبادئ القانون الدولي للأنهار المشتركة.
إن أي تقدم في هذا المشروع سيتطلب إطارًا قانونيًا متعدد الأطراف يضمن حقوق الدول المتشاطئة ويمنع تحوله إلى سبب جديد للتوترات الإقليمية.