يتميز الوضع السوري منذ سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر الماضي الهشاشة العميقة، نتيجة تصاعد التوترات السياسية والأمنية. رفضت دول كانت من لاعبين الأساسيين في الملف السوري أي محاولة لتغيير موازين القوى، معتبرة ما يحدث خديعة تمس أمنها القومي على غرار ما جرى سابقاً في ليبيا. في المقابل، رأت بعض الميليشيات التي كانت تتشارك العقيدة مع دمشق أن انقلابها على هذه المرجعية الفكرية يُشبه طعنة في الظهر، ما دفع هذه الأطراف المتباينة إلى الاصطفاف في مخيم واحد بعلاقة ظل بينهم .
هذا الاصطفاف لم يكن مجرد صراع نفوذ سياسي؛ بل انعكس مباشرة على الأسواق والممرات التجارية. ففي بلد يعيش شللاً اقتصادياً بفعل العقوبات وتوسع اقتصاد الظل، يصبح أي تحرك أمني يستهدف رأس السلطة أو العقد اللوجستية على الحدود عامل ضغط اقتصادي فوري: انخفاض قيمة العملة، قفزات في أسعار السلع الأساسية، تعطّل سلاسل الإمداد، وزيادة الاعتماد على شبكات تهريب مكلفة وخطيرة.
وبحسب تقرير اطلع عليه موقع الاقتصادي بتاريخ 1 سبتمبر 2025 حول لقاء في البوكمال، فإن ما يبدو على السطح مؤامرة أمنية لا يمكن عزله عن سياقه الأوسع؛ إذ قد يشكل ذريعة لتوسّع اقتصاد الحرب على حساب الاقتصاد الشرعي، مما يفاقم أزمات الدولة والمجتمع معاً.
لقاء البوكمال السري: مؤامرة أمنية تهدد الاستقرار السوري
كشف تقرير حصري حصل عليه موقع اقتصادي عن اجتماع أمني بالغ السرية جرى بتاريخ 1 سبتمبر 2025 في بادية البوكمال، قرب الحدود العراقية–السورية. ووفق التقرير، التقى الحاج جواد، ضابط في وحدة استخبارات الحرس الثوري الإيراني التابعة لمجلس تنسيق المعلومات في وزارة الاستخبارات، بـ أبو فاطمة المغربي، المسؤول عن المراكز الأمنية والاستخبارية والعسكرية، الذي دخل الأراضي السورية بطريقة غير شرعية قبل اللقاء.
وأشار التقرير إلى أن الاجتماع جرى بترتيب خلف الطياوي، الوسيط المعروف بعلاقاته مع تنظيم داعش وصفقات الأسلحة، وذلك بناءً على طلب الحاج عسكر، قائد الحرس الثوري الإيراني سابقاً في المناطق الشرقية بسوريا ومسؤول غرفة عمليات محور الشرق. ويرى محللو اقتصادي أن هذا النشاط يعكس عودة النفوذ الإيراني إلى المنطقة، حيث لوحظ تصاعد نشاط شخصيات مقربة من طهران في تجارة المخدرات وإعادة هيكلة المقاتلين المحليين الموالين لها.، هذه الشخصيات حصلت على دعم من أخ الرئيس أحمد الشرع، جمال الشرع في تحركاتها ، ضمن تسويات تحت الطاولة، ما يعكس شبكة معقدة تتشابك فيها السياسة بالأمن والاقتصاد وتؤمن امتداد النفوذ الإيراني في المنطقة.
وبحسب المصادر، تناول الاجتماع مخططاً أمنياً مدروساً لتنفيذ اغتيال دقيق ضد الرئيس السوري أحمد الشرع، بالتعاون مع عناصر من تنظيم داعش عبر غرفة اتصال مشتركة. ومن المتوقع أن يشرف على هذه الغرفة يحيى حسيني بنجشكي (المعروف أيضاً باسم سيد يحيى حميدي)، مساعد وزير المخابرات لشؤون الأمن الداخلي في إيران، الذي وُصف بأنه العقل المدبر للعملية.
وأكد التقرير أن الحرس الثوري الإيراني يعتزم تقديم الدعم المالي واللوجستي الكامل لتنظيم داعش لتنفيذ المخطط، في خطوة تُعد جزءاً من استراتيجية أمنية إيرانية جديدة في سوريا تهدف إلى فتح خطوط تواصل مع الجماعات المتطرفة، في تكرار لتجارب مماثلة شهدتها العراق واليمن والقرن الأفريقي.
توتر أمني يربك الشارع والأسواق
خلال زيارة الرئيس أحمد الشرع الأخيرة إلى إدلب، بدا الحرس الرئاسي في حالة توتر شديد وغير مسبوق. فقد كادت إحدى النساء أن تفقد حياتها حين حاولت الاقتراب لتقديم قائمة بطلبات النساء، فتعامل معها الحرس بعنف كاد يودي بها. تعكس هذه الحادثة حجم الخوف داخل الحماية الرئاسية، وهو مؤشر مباشر على تصاعد القلق الأمني.
وبحسب مصادر مقربة من الرئاسة، فإن هذه التوترات تنتقل إلى الرئيس نفسه، الذي عبّر عن مخاوفه من عمليات اغتيال محتملة، ما جعل التقرير عن المخطط الأمني قابلاً للتصديق. هذا الاضطراب الأمني المتسرب انعكس فوراً على ثقة المستثمرين المحليين والدوليين، ووضع الأسواق في حالة ترقب وحذر شديدين، حيث يُنظر إلى أي تصرف مرتبك من الرئاسة ضمن سياق هذا القلق الأمني المتزايد.
البوكمال: عقدة اقتصادية قبل أن تكون عسكرية
البوكمال ليست مجرد موقع حدودي عسكري، بل تشكل شرياناً اقتصادياً حيوياً يربط إيران بلبنان عبر العراق وسوريا. أي خلل أمني في المنطقة ينعكس فوراً على التوتر بين سوريا وحزب الله، يؤثر على الحدود اللبنانية، إضافة إلى تصاعد التوترات في مناطق البادية من دير الزور ومناطق قسد ، حيث تلعب بعض العشائر المحلية دوراً محورياً في المشهد الأمني.
وتتخذ البوكمال اليوم دوراً اقتصادياً قاتلاً، فهي تُعد خزان صناعة الكبتاغون والمخدرات، ويُشكل ما يخرج منها ما يمكن تسميته بـ «صندوقها الأسود»، أي شبكة اقتصاد ظل متكاملة تتحكم في حركة الأموال والسلع غير القانونية، وترابط بين النفوذ الأمني والسياسي والاقتصادي في المنطقة بشكل متشابك ومعقد.
قتصاد الحرب يبتلع البدائل
وجود وسطاء مثل خلف الطياوي يعكس أن اقتصاد الظل أصبح اليوم أكثر حضورا وتأثيراً في سوريا: صفقات سلاح مع جماعات مسلحة، شبكات تمويل غير مشروعة، وتجارة موازية للسلع الأساسية. هذا الاقتصاد الموازي يسحب موارد الدولة ويستنزف قدراتها على إعادة بناء دورة اقتصادية طبيعية، ما يعمّق أزمات الفقر والبطالة ويزيد من اعتماد المواطنين على السوق السوداء.
علاوة على ذلك، يشكل هذا الاقتصاد البديل حلقة مركزية في منظومة اقتصاد الحرب، حيث تتحرك الأموال والسلع خارج الرقابة الرسمية، ويرتبط مباشرة بالنفوذ السياسي والأمني: الدعم المالي للميليشيات، تهريب المخدرات مثل الكبتاغون، وحتى تجارة الوقود والقمح المهرب. هذه الديناميكية تجعل أي محاولة لإنعاش الاقتصاد الرسمي أو خلق بدائل مشروعة مهددة بالابتلاع أو الإحباط، إذ يظل اقتصاد الحرب أكثر ربحية بالنسبة للفاعلين المحليين والدوليين على حد سواء.
انعكاسات إقليمية ودولية: أمن هش واقتصاد في مهبّ العاصفة
إذا صحّت المزاعم حول التعاون بين إيران وتنظيم داعش، فقد يؤدي ذلك إلى موجة عقوبات جديدة تستهدف دمشق وطهران معاً، مما يقوّض أي فرص لانفتاح اقتصادي عربي أو دولي على سوريا ويزيد من عزلة اقتصادها المنهك.
ومع أن صحة تفاصيل تقرير 1 سبتمبر 2025 ما تزال موضع تحقق، فإن تداولها يكشف بوضوح الترابط الوثيق بين الأمن والاقتصاد السوري. فالتوتر الأمني حول الرئيس، وتعقيدات البوكمال الحدودية، وتوسع اقتصاد الحرب، كلها مؤشرات تجعل الاستقرار الأمني شرطاً لا غنى عنه لأي تعافٍ اقتصادي محتمل.
ما يربك صُنّاع القرار والمستثمرين ليس فقط دقة هذه المزاعم، بل الأثر الاقتصادي والسياسي لتداولها وانتشارها. في بيئة تعاني من ندرة مؤسساتية وحساسية سوقية، تتحول الأخبار الأمنية — حتى لو بقيت في خانة المزاعم — إلى أداة لإعادة تشكيل توازنات القوة والموارد: تزيد تكلفة رأس المال، تدفع الاقتصاد نحو مظلات أمنية وخاصة، وتعمّق اقتصاد الظل الذي يغذي الصراع ويستفيد منه.
الرسالة للمحللين الاقتصاديين وصُنّاع القرار واضحة وصارمة: لا يمكن فصل السياسة الأمنية عن اقتصاد بلد هش. الاستقرار السياسي والأمني ليس رفاهية، بل شرط مسبق للحد من تكلفة الفرص الضائعة وخلق بيئة تسمح بعودة تدريجية للنشاط الاقتصادي الرسمي. وفي غياب هذا الاستقرار، ستبقى سوريا ساحة اقتصاد ينتج الحرب ويطعمها، مع آثار تكلفتها على المدى المتوسط والطويل تفوق بكثير أي صرفية عمليات عسكرية قصيرة الأجل