منذ عسكرة الثورة السورية، ظلّ المشهد العسكري والأمني في البلاد مرآة للتجاذبات الإقليمية والدولية، حيث تحوّلت الجغرافيا السورية إلى ساحة تتقاطع فيها مصالح القوى الكبرى والإقليمية، وفي مقدمتها تركيا وإيران وروسيا، إلى جانب الحضور الغربي والأمريكي. ومع تعاظم دور الطائرات المسيّرة في الحرب السورية، مما تعاظمت أهمية البنية التحتية القادرة على إنتاج هذا السلاح وتطويرها، لتصبح جزءاً من عامل في بسط النفوذ والسيطرة.
في هذا السياق، برز مطار الضبعة العسكري، القريب من قرية الضبعة شمال شرق القصير بمحافظة حمص، كأحد المواقع الاستراتيجية التي حظيت بتركيز خاص. فالمطار الذي يبعد نحو 30 كيلومتراً عن مدينة حمص، و25 كيلومتراً فقط عن الحدود اللبنانية، لم يكن مجرد منشأة عسكرية متوسطة القدرة تحوي 16 حظيرة للطائرات، بل تحوّل مع مرور الوقت إلى موقع مثالي لتوظيفه في صناعة وتخزين الطائرات المسيّرة الإيرانية. فموقعه الجغرافي قرب الحدود اللبنانية أتاح لإيران وحلفائها مرونة في الحركة والدعم اللوجستي لحزب الله، كما أن مساحته المتوسطة وفّرت قاعدة مناسبة لإعادة تهيئته كمركز بحث وتطوير.
هذا البعد الاستراتيجي لم يغب عن حسابات حكومة الشرع، التي وضعت المطار في مقدمة أولوياتها عقب سيطرتها على حمص. فالمطار مثّل بالنسبة لها أكثر من مجرد قاعدة عسكرية، بل بوابة للتحكم في مسار الصراع العسكري والسياسي في المنطقة، وعقدة حيوية تربط بين النفوذ الإيراني وحزب الله من جهة، وبين محاولات القوى الإقليمية الأخرى — وعلى رأسها تركيا — لإعادة رسم موازين القوى من جهة ثانية. ومن هنا يمكن القول إن مطار الضبعة تحوّل إلى رمز لصراع الإرادات على مستقبل سوريا، وتجسيد حيّ للتنافس على التكنولوجيا العسكرية الأكثر حساسية في زمننا الراهن: الطائرات المسيّرة.
مطار الضبعة بين السيطرة التقنية وإعادة التأهيل الاستراتيجي
في 14 ديسمبر 2024، شهد مطار الضبعة تحولًا استراتيجيًا مفاجئًا، عندما تمكنت قوات “ردع العدوان” من السيطرة الكاملة على المطار وتأمين المخازن والمستودعات التي تحتوي على منظومات مسيرة غير مجهزة وقطع غيار تكنولوجية حساسة تُستخدم في صناعة المحركات النفاثة. وتُعد هذه المعدات من أبرز الغنائم التقنية التي استحوذت عليها القوات، لما لها من قيمة عالية في تطوير القدرات الجوية والتسليحية.
يشير الانسحاب المفاجئ للخبراء والمهندسين التابعين للوحدة 127 ووحدات الحراسة التابعة لحزب الله اللبناني، دون تفخيخ المطار، إلى عنصر المفاجأة وسرعة تقدم المعارك، بالإضافة إلى استسلام الجيش السوري أمام ضغط المواجهات.
سبق أن تم تجهيز المطار كمركز تقني متقدم من قبل الوحدة 340 التابعة للواء القدس الإيراني والحرس الثوري، بالتعاون مع الوحدة 127 التابعة لحزب الله اللبناني، تحت إشراف خبراء إيرانيين وكوريين شماليين منذ نهاية مايو 2024. وشمل التجهيز تطوير بنية تحتية شاملة للطيران المسير، بما في ذلك تصنيع المحركات النفاثة وأنظمة التحكم والملاحة.
بعد السيطرة، سعت قوات “ردع العدوان” إلى تحويل المطار إلى مركز تقني متقدم، مستغلة الفراغ العسكري والسياسي في المنطقة لتعزيز موقعها الاستراتيجي.
ابتداءً من منتصف يوليو 2025، تولت إدارة القوى الجوية السورية التابعة لوزارة الدفاع استقدام خبراء ومهندسين أوكرانيين لإعادة تأهيل مركز تصنيع المحركات التوربينية، بهدف استغلال المخزون الإيراني السابق وتعزيز القدرات التقنية للمطار ومعركة تقنيات الايرانية في صناعة المسيرات ونقلها الى شاهين المسيرات تابعة لإدارة القوى الجوية السورية
المخزون التقني داخل المخازن يشمل:
-
مسيرات قتالية غير مجهزة من طراز أبابيل 4 (Ababil 4) طويلة المدى.
-
مسيرات انتحارية غير مجهزة من طراز عرش 2 (Arsha 2) طويلة المدى.
-
مسيرات من طراز شاهد 136 (Shahid 136) مع محركات مخصصة للطائرات المسيرة من طراز شاهد 129 و136.
-
أجهزة استشعار وأنظمة ملاحة GPS متطورة مرتبطة بالأقمار الصناعية.
-
أنظمة بث مباشر وكاميرات عالية الدقة للطيران المسير.
-
أجهزة اتصال رقمية للطائرات المسيرة من طراز شاهد 129 و136.
-
صواريخ من طراز حيدر 1 (Haider 1) وسديد 345 (Sadid 345) القابلة للإطلاق من الطائرات المسيرة.
تأتي هذه الخطوة في إطار استراتيجية تهدف إلى تطوير وتصنيع مسيرات قتالية وانتحارية طويلة المدى على نمط المسيرات الإيرانية، مع اعتماد مسميات جديدة، مستفيدين من قطع الغيار الإيرانية والأجهزة الإلكترونية والمحركات الخاصة بالطيران المسير. ويجري هذا العمل تحت إشراف خبراء ومهندسين أتراك، بالتعاون والتنسيق مع خبراء ومهندسين من إدارة القوى الجوية السورية، ما يعكس توجهًا نحو دمج الخبرات الإقليمية لتأسيس مركز تقني متقدم للطيران المسير داخل مطار الضبعة.
تركيا تمد ظلال نفوذها على مطار الضبعة: خطوة نحو السيطرة التقنية للطيران المسير
تشير التقارير إلى أن تركيا رأت في مطار الضبعة العسكري بريف حمص الغربي مركزًا استراتيجيًا يمكن استغلاله ليس فقط للاطلاع على صناعة المسيرات الإيرانية المنافسة لمسيرات “بيرقدار” من حيث التكلفة والأداء، بل أيضًا لفهم جزء من القدرات الروسية التي ساهمت في تطوير المسيرات الإيرانية سابقًا. وتأتي هذه الخطوة في إطار استراتيجية تركية لتعزيز الخبرات التقنية في صناعة الطيران المسير وربطها بالقدرات الإقليمية.
على الرغم من محاولة الحكومة السورية التنصل من منح تركيا أي نفوذ على المطار، إلا أن الضغط التركي كان شديدًا، ما أدى إلى فرض مشاركة الخبراء الأتراك في عمليات الاطلاع والتطوير داخل المطار.
وجاءت هذه الخطوة بعد سلسلة من اللقاءات العسكرية والتنسيقية بين المسؤولين السوريين والأتراك، كان آخرها توقيع اتفاقيات خلال زيارة العميد عاصم هواري، قائد القوى الجوية السورية، إلى أنقرة في 9 سبتمبر 2025، حيث التقى كل من:
-
الجنرال ضياء قاضي أوغلو (Zia Qazioglu)، قائد القوات الجوية التركية.
-
الجنرال سلجوق بيرقدار أوغلو (Selcuk Bayraktaroglu)، رئيس أركان الجيش التركي.
في 14 سبتمبر 2025، وصل إلى مطار الضبعة فريق من الخبراء والمهندسين الأتراك المتخصصين في صناعة وتطوير الطيران المسير، للاطلاع على تجهيزات المطار ومحتوياته. ويُذكر أن المطار كان قد تحول سابقًا إلى مركز أبحاث وتطوير للمسيرات الإيرانية، بالإضافة إلى كونه مركزًا لصيانة وتجهيز المسيرات خلال سيطرة الحرس الثوري الإيراني في عهد النظام السوري السابق.
عرف من بين الخبراء والمهندسين الأتراك المشاركين كل من:
-
إرهان أوزتورك (Erhan Ozturk) – مختص في صناعة وتطوير الطيران المسير.
-
رسلان يلدز (Ruslan Yildiz) – مختص في صناعة وتطوير الطيران المسير.
-
دوغان أولكر (Dogan Ulker) – مختص في صناعة وتطوير الطيران المسير.
-
سيركان أكغون (Serkan Akgun) – مختص في صناعة وتطوير الطيران المسير.
-
أراس أكتور كوغلو (Aras Actor Co Glow) – مختص في صناعة وتطوير الطيران المسير.
تعكس هذه الزيارة التوجه التركي نحو الاستفادة من البنية التحتية السابقة للمطار والمخزون التقني الإيراني، بما في ذلك المحركات، الأجهزة الإلكترونية، وأنظمة الملاحة، لتأسيس مركز تطوير متقدم للطيران المسير، قادر على دمج الخبرات التركية والسورية، ودعم استراتيجية البلاد في المجال العسكري والتقني على الصعيد الإقليمي.
صمت إسرائيلي غير معتاد على مطار الضبعة
رغم التقارير التي تشير إلى وجود مخزون من المسيرات الإيرانية داخل مطار الضبعة، لم تشن إسرائيل أي هجمات مباشرة على المطار بعد السيطرة الأخيرة وإعادة التأهيل التقني. هذا الصمت يُعد غير معتاد، خاصةً في ضوء السياسات الإسرائيلية المتكررة لاستهداف أي منشآت تحتوي على طائرات مسيرة أو ذخائر متقدمة. ويطرح هذا الواقع عدة تساؤلات حول الأسباب المحتملة وراء هذا الامتناع، والتي قد تشمل الوجود التركي المباشر في المطار والإشراف على العمليات التقنية، أو اعتبارات جيوسياسية وتقنية أخرى تهدف إلى تجنب تصعيد الموقف في منطقة تخضع الآن لإشراف متعدد الأطراف، او انها لا تريد حرق جسور التواصل مع حكومة دمشق ؟.
فقد أضحى مطار الضبعة نقطة تقاطع استراتيجية حيوية بين القوى الإقليمية والدولية. من الناحية الاقتصادية، يتيح المطار لإدارة القوى الجوية السورية وتركيا الوصول إلى تكنولوجيا متقدمة للطيران المسير، ما يقلل الاعتماد على الاستيراد من إيران أو روسيا، ويفتح المجال لتطوير صناعة دفاعية محلية قادرة على إنتاج مسيرات متقدمة وقطع غيارها، وهو ما قد يغير موازين القوة الإقليمية ويؤسس لسوق عسكرية تكنولوجية جديدة.
من الناحية السياسية، يمثل التدخل التركي والإشراف المباشر على عمليات التطوير تعزيزًا لنفوذ أنقرة في سوريا، ويظهر قدرة تركيا على فرض مصالحها التقنية والاستراتيجية رغم محاولات دمشق للتنصل من أي نفوذ خارجي. في الوقت نفسه، يعكس الصمت الإسرائيلي تجاه المطار بعد اكتشاف المخزون الإيراني موازنة دقيقة بين الاعتبارات العسكرية والسياسية، مع مراعاة النفوذ التركي والمخاطر الجيوسياسية لتجنب تصعيد المواجهة.
باختصار، أصبح مطار الضبعة منصة تقنية وسياسية استراتيجية، تجمع بين تطوير القدرات الدفاعية، النفوذ الإقليمي، والقدرة على التأثير في موازين القوى، ما يجعله محطة رئيسية لفهم التحولات المستقبلية في المشهد السوري والإقليمي.