في خطوة تنظيمية جديدة تحمل دلالات سياسية عميقة، أعلن مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC) التابع لوزارة الخزانة الأمريكية عن تعديل نهائي للائحة العقوبات المتعلقة بسوريا، حيث تم تغيير اسمها إلى “لوائح عقوبات تعزيز المساءلة عن الأسد والاستقرار الإقليمي”، مع تنفيذ أمرين تنفيذيين جديدين صدرا في عام 2025. هذه التعديلات لا تلغي قانون قيصر، بل توسّع نطاق العقوبات وتعيد توجيهها لتشمل أهدافًا جديدة تتعلق بالسلم الأهلي والعدالة الانتقالية.
ورغم أن هذه الخطوات أعادت هيكلة العقوبات لتصبح أكثر وضوحًا من الناحية التنظيمية والسياسية، فإنها لم تنعكس بشكل مباشر على الاقتصاد السوري. فلا تزال البنوك العالمية وشركات الاستثمار تتعامل بحذر شديد، والسبب الأبرز وراء ذلك هو استمرار تصنيف سوريا كـ”دولة راعية للإرهاب”، وهو تصنيف له آثار أشد وأطول أمدًا من مجرد العقوبات الاقتصادية.
ما الذي تغيّر فعليًا في ملف العقوبات؟
قانون قيصر، الذي أُقر عام 2020، يفرض عقوبات على النظام السوري وكل من يدعمه، بسبب ارتكاب جرائم حرب وانتهاكات حقوق الإنسان. وبما أنه قانون صادر عن الكونغرس، فلا يمكن إلغاؤه إلا عبر عملية تشريعية قد تستغرق عادة أربع سنوات أو أكثر، ما يجعله ثابتًا ومحصنًا نسبيًا من التغييرات السياسية السريعة.
الجديد أنه تم إعادة تسمية اللوائح إلى صيغة جديدة تربط العقوبات بمفاهيم العدالة الانتقالية والمساءلة، وهو ما يمكن اعتباره توسعة للعقوبات لتشمل المهام المنوطة بالحكومة الانتقالية حسب المهام المتوقعة منها وفق القرار الأممي 2254.
كما أُدخلت أوامر تنفيذية إضافية لتعزيز نطاق العقوبات بدل تقليصها، وهذه المرة صادرة عن وزارة الخارجية الأمريكية بالتعاون مع مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC) التابع لوزارة الخزانة، كبديل عن العقوبات التنفيذية التي كانت تصدرها الرئاسة الأمريكية سابقًا، والتي أُلغي العمل بها بعد تدخل من قبل المملكة العربية السعودية عند زيارة ترامب ل في 30 يونيو 2025.
ومع ذلك، يبقى قانون قيصر ساريًا كإطار رئيسي للعقوبات الاقتصادية على سوريا.
لكن تغيير الاسم يعني أيضًا إدخال أهداف سياسية جديدة في صلب نظام العقوبات، مثل السلم الأهلي والعدالة الانتقالية.
لم تكن هناك عملية رفع للعقوبات، بل إعادة صياغة وتشديد مقصود لإطارها القانوني
والسياسي.
ما الجديد في العقوبات الأمريكية على سوريا؟
1. تغيير اسم اللوائح:
- تم تعديل اسم العقوبات من “عقوبات على سوريا” إلى “لوائح تعزيز المساءلة عن الأسد والاستقرار الإقليمي“. هذا التغيير ليس شكليًا فقط، بل يعكس تحولًا في الرؤية الأمريكية.
- لم تعد العقوبات تقتصر على النظام السوري وحده، بل تشمل كل من يهدد السلم الأهلي والعدالة الانتقالية.
- تهدف الآن أيضًا إلى حماية الأقليات، دعم جهود السلام، ومحاسبة الجهات التي تعرقل الاستقرار السياسي والاجتماعي لتعزيز المساءلة عن الجرائم والانتهاكات
- دعم الاستقرار الإقليمي، بما في ذلك حماية الأقليات ومنع عرقلة الحل السياسي وفق القرار 2254 الذي يعد اعادة احياء له كخريطة سياسية .
2 . تنفيذ أمرين تنفيذيين جديدين:
-
-
الأمر التنفيذي 14142: يوسع نطاق العقوبات ليشمل شبكات الدعم السياسي والاقتصادي للنظام السوري، بما في ذلك الأفراد والكيانات التي توفر موارد أو تأثيرًا للنظام.
-
الأمر التنفيذي 14312: يركّز على أدوات التمويل الحديثة مثل العملات الرقمية ويعزز الرقابة على التحويلات المالية العابرة للحدود، لمنع استخدام وسائل مالية جديدة للتهرب من العقوبات التقليدية.
-
3. العصا والجزرة” أدوات ضغط مرنة” :
هذه اللوائح تعتبر أداة تنفيذية مرنة، يمكن تعديلها أو توسيعها بسرعة، وتُستخدم كـ”عصا وجزرة” في السياسة الأمريكية:
- العصا: عقوبات صارمة على الأفراد والكيانات التي تدعم النظام أو تعرقل السلام.
- الجزرة: إمكانية رفع العقوبات أو تعليقها مؤقتًا لمن يلتزم بمسارات العدالة أو يساهم في الاستقرار.
العقوبات الأمريكية لم تعد مجرد أداة ضغط اقتصادي تقليدية، بل تحولت إلى أداة سياسية واستراتيجية أوسع نطاقًا، تستهدف الاستقرار الداخلي وفرض المساءلة على مختلف الجهات الداعمة للنظام السوري.
مقارنة بين قانون قيصر واللوائح التنفيذية(لوائح عقوبات تعزيز المساءلة عن الأسد والاستقرار الإقليمي):
النوع | الجهة | طريقة الإلغاء | الهدف | التأثير المباشر |
---|---|---|---|---|
قانون قيصر | الكونغرس الأمريكي | تعديل تشريعي يستغرق عادة 4 سنوات أو أكثر | محاسبة النظام السوري على جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان | ثابت على المدى الطويل، يفرض قيودًا صارمة على التجارة والاستثمار مع سوريا |
لوائح تنفيذية (OFAC) | وزارة الخزانة الأمريكية تحت إشراف وزارة الخارجية | يمكن تعديلها أو تعليقها بسرعة | دعم السلم الأهلي والعدالة الانتقالية، ومحاسبة من يعرقل الاستقرار | مرنة وسريعة التعديل، تسمح بضغوط أو تخفيف عقوبات جزئية حسب الالتزام السياسي |
لماذا لم يظهر أثر مباشر على الاقتصاد السوري؟
رغم إعادة هيكلة العقوبات الأمريكية في 2025، لا تزال عدة عوامل رئيسية تعيق أي انفتاح مالي حقيقي داخل سوريا. هذا ما يشكل الحلقة المفقودة في المشهد الاقتصادي والاجتماعي، إذ يشعر الشارع السوري بالضغوط الشديدة الناتجة عن تراجع القوة الشرائية وارتفاع الأسعار، في وقت تحاول السلطات الانتقالية والطبقات المرتبطة بها نشر صورة أن الأمور تحت السيطرة لمنع أي انفجار اجتماعي أو سياسي.
في الواقع، يجري إعادة هيكلة الاقتصاد والمجتمع السوري بشكل تدريجي، لكن السبب الحقيقي لعدم التحسن الاقتصادي – المتمثل بـ:
-
قوائم الأفراد والكيانات: لا تزال المصارف والشركات الكبرى السورية مدرجة على القوائم السوداء، ما يمنعها من الوصول إلى أي تمويل دولي أو شراكات تجارية حقيقية.
-
التزام البنوك بالامتثال الدولي: حتى مع تعديل أسماء العقوبات أو توسيع أهدافها، تخشى البنوك العالمية المخاطرة بالعمل مع سوريا، خشية الوقوع في مخالفات مالية دولية قد تُكلفها غرامات ضخمة أو خسائر في سمعتها.
-
التصنيف كدولة راعية للإرهاب: يظل العقبة الأكبر، إذ يجعل أي تعامل مالي مع الدولة السورية محفوفًا بالمخاطر القانونية والسياسية.
-
غياب قنوات تحويل آمنة: عدم وجود بنوك مراسلة أو شركات تأمين على استعداد للعمل مع سوريا يجعل أي عملية تجارية أو مالية معقدة للغاية، ويزيد من تكلفة وتأخير المعاملات.
بالتالي، حتى مع التعديلات الأخيرة على العقوبات، فإن الاقتصاد السوري يظل محاصرًا بنظام عقوبات متشابك ومعقد. هذه التعديلات لم تُزل العقبات الأساسية، بل أعادت صياغتها تحت أهداف سياسية جديدة، لكنها لم تفتح الباب أمام إعادة الانخراط الاقتصادي الدولي بشكل فعلي.
سوريا والتصنيف كدولة راعية للإرهاب
في 2025، خففت الولايات المتحدة جزءًا من عقوباتها على سوريا، بما في ذلك رفع الحظر على تصدير معظم السلع والخدمات، مع استمرار العقوبات على بعض الأفراد والكيانات المرتبطة بالحكومة السورية والجماعات الإرهابية. كما أصدرت وزارة التجارة الأمريكية قاعدة جديدة تسمح بتصدير السلع المصنفة EAR99، بما في ذلك المعدات الطبية وأجهزة استهلاكية مثل منتجات Apple، شرط عدم استخدامها من قبل كيانات محظورة أو لأغراض عسكرية. رغم ذلك، تظل سوريا مدرجة على قائمة الدول الراعية للإرهاب منذ 1979، وهو تصنيف يُبقي على مجموعة من القيود الصارمة، أبرزها:
- الحد من المساعدات الأمريكية المباشرة.
- فرض رقابة مشددة على الصادرات ذات الاستخدام المزدوج.
- ضغط مستمر على المؤسسات المالية العالمية لتقليص تعاملاتها مع السوق السورية.
هذا التصنيف يُعد من أبرز العوائق أمام انفتاح اقتصادي شامل، ويُبقي سوريا تحت رقابة قانونية وسياسية أمريكية دقيقة، حتى في ظل التغيرات السياسية التي شهدتها البلاد بعد سقوط النظام السابق وتشكيل الحكومة الانتقالية ، ويحجب فعليًا أي أثر إيجابي محتمل من التعديلات الأخيرة على العقوبات، ويجعل الاقتصاد السوري محاصرًا حتى مع تغيير أسماء اللوائح أو توسيع أهدافها.
لفرق بين رفع العقوبات وإلغاء التصنيف لسوريا
النوع | المعنى | الأثر | السرعة |
---|---|---|---|
رفع العقوبات | تعديل العقوبات عبر التعليق، الإلغاء الجزئي، شطب أسماء من القوائم، أو تجميدها مؤقتًا | يتيح تعاملات محدودة في قطاعات معينة مثل التجارة أو الاستثمارات الإنسانية | يمكن أن يحدث بسرعة نسبية |
إلغاء التصنيف كدولة راعية للإرهاب | قرار سياسي شامل من وزارة الخارجية والبيت الأبيض مع إخطار الكونغرس | يفتح الباب أمام التعاملات المصرفية والتجارية الواسعة ويزيل القيود الجوهرية | يستغرق عادة وقتًا أطول ويتطلب تغييرات سياسية وأمنية كبيرة |
رفع العقوبات يشبه تخفيف القيود على لاعب رياضي ليشارك في مباريات ودية، بينما إلغاء التصنيف يشبه محو سجله الجنائي بالكامل، مما يغيّر نظرة الجميع إليه ويفتح له المجال للعب في البطولات الكبرى.
ماذا تحتاج سوريا لاستعادة الثقة المالية؟
لإعادة الثقة المالية إلى سوريا، تحتاج البلاد أولاً إلى إزالة تصنيفها كدولة راعية للإرهاب، الذي يحد حتى الآن من التعاملات المصرفية والتجارية الدولية. كما يجب تعديل القوائم السوداء للبنوك والشركات الرئيسية وتقديم ضمانات قانونية للبنوك الأجنبية، لتطمئن أن تعاملها مع السوق السورية آمن وقانوني. تحسين الشفافية المالية ومكافحة الفساد داخليًا يخلق بيئة موثوقة للاستثمار، بينما يمكن للانفتاح التدريجي على المساعدات الإنسانية والتجارة الأساسية أن يكون خطوة أولى عملية لكسب ثقة المجتمع الدولي. التعديلات الأخيرة على العقوبات، إلى جانب لوائح تعزيز مساءلة الأسد، تربط أي تقدم اقتصادي بالالتزام بحقوق الإنسان والاستقرار الإقليمي. بهذه الخطوات، يمكن أن يتحرك الاقتصاد السوري نحو استقرار تدريجي ويجذب استثمارات حقيقية بطريقة آمنة ومراقبة.
ما حدث في 2025 لم يكن رفعًا للعقوبات عن سوريا، بل إعادة هيكلة وتشديد لها تحت عنوان جديد يربطها بالمساءلة والاستقرار الإقليمي. ومع بقاء قانون قيصر ساريًا واستمرار تصنيف سوريا كدولة راعية للإرهاب، فإن أي أثر اقتصادي إيجابي على الداخل السوري يظل محدودًا أو يكاد يكون معدومًا، مما يعكس استمرار سياسة العصا والجزرة التي توازن بين الضغوط والمكاسب المحدودة.