الرئيسية » العملة السورية الجديدة: بين وعود الإصلاح وهندسة مجتمعية مشوّهة

العملة السورية الجديدة: بين وعود الإصلاح وهندسة مجتمعية مشوّهة

بواسطة Younes

في خطوة مثيرة للجدل تحمل بعدًا اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا معًا، أعلن حاكم مصرف سوريا المركزي، عبد القادر الحصرية، عن نية إصدار العملة السورية الجديدة بست فئات فقط، تحتوي على أرقام وربما زخارف هندسية لكنه لم يذكر ذلك بتصريحه  ، من دون أي صور أو رموز وطنية أو آثار تاريخية اشبه بصك الدينار الاسلامي. تأتي هذه الخطوة في إطار ما وصفه الحصرية بأنه “بداية مرحلة جديدة” في السياسة النقدية، تهدف إلى ضبط الأسواق، تحفيز النشاط الاقتصادي، وإعادة هيكلة السيولة، مع تطوير نظام المدفوعات الرقمية بالتعاون مع شركات التكنولوجيا المالية. كما أشار إلى مرحلة التعايش مع العملة القديمة لمدة خمس سنوات قبل الاعتماد الكامل للعملة الجديدة.

ورغم اللغة التقنية الرسمية، فإن هذا الإعلان يحمل رسائل غير مباشرة عن علاقة الدولة بالمواطنين، ويمسّ هويتهم الوطنية والرمزية للغة المال في الحياة اليومية. فالعملة الوطنية ليست مجرد وسيلة للتبادل التجاري، بل هي مرآة لهوية الدولة وسرديتها الوطنية الجامعة، وحلّ الرموز والصور من العملة قد يُفسّر على أنه محاولة لإعادة تعريف الانتماء الوطني وفرض سردية معينة على المجتمع.

في الوقت نفسه، تطرح هذه الخطوة تساؤلات حول أثرها الاقتصادي الفعلي، خاصة أن رفض المواطنين التعامل بالعملة الجديدة قد يؤدي إلى تفاقم التضخم، نمو الاقتصاد الموازي، وفقدان الثقة بالمصرف المركزي، مع انعكاسات محتملة على العلاقة مع البنوك والمستثمرين الدوليين. وبالمقابل، فإن اعتماد العملة بشكل كامل لاحقًا قد يسهم في تنشيط الربط المركزي بقنواته وتحسين انتظام السيولة المصرفية، ما يدعم استقرار السوق والسياسة النقدية.

رمزية العملة الوطنية وفقدانها

العملة الوطنية ليست مجرد وسيلة للتبادل التجاري، بل تمثل مرآة لهوية الدولة وتجسيدًا لسرديتها الوطنية الجامعة. هي أداة تربط المواطنين بتاريخهم وثقافتهم وموروثهم الرمزي، وتعكس قيمهم المشتركة. إصدار عملة خالية من الصور والرموز التاريخية والشخصيات الوطنية يعكس محاولة لإعادة تعريف الانتماء الوطني وتفريغ الرموز الجامعة من محتواها السياسي والثقافي، بعد فترة شهدت تشويهاً للشعبية التي كانت تتمتع بها هذه الرموز الوطنية على مدار أشهر عدة. الأبطال والشخصيات التاريخية الذين شكلوا جزءًا من ذاكرة المجتمع أصبحوا بذلك صورًا جاهزة لإعادة تفسيرها أو محوها، وهي جزء من الهوية البصرية الوطنية التي تربط الناس بتاريخهم المشترك كما انها تأكيد على سردية الايدلوجية السلطة من ان  الصورة و الرسم والفن حرام وهو ما ظهر من تحطيم التماثيل الفنية وادوات الموسيقىلمعهد ومؤسسات تعليمية و مطاعم كانت تقدم الفن كجزء من برنامجها . بدأت تختفي بصمت نتيجة المضايقات .

هذا الاختفاء يخلق فراغًا رمزيًا، ما يضعف الرابط بين المواطنين ودولة الهوية الجامعة، ويقل ارتباط الناس بها وتضعف الثقة في الدولة بشكل المتعارف عليها، ليتم إعادة بناء الدولة وفق منطق أيديولوجية الحكومة الحالية وأهدافها وتوجهاتها حيث الصورة و الرسم والفن حرام وهو ما ظهر من تحطيم التماثيل الفنية وادوات الموسيق، بحيث تتحول الرموز التاريخية التي كانت تمثل بطولات وطنية ومناسبات جامعة إلى أدوات لإعادة صياغة سردية الدولة بما يتوافق مع رؤية السلطة.

البعد الاقتصادي وأثر رفض العملة

إن احتمالية رفض المواطنين التعامل بالعملة السورية الجديدة قد تُحدث آثارًا مباشرة وعميقة على الاقتصاد الوطني، خصوصًا أن البنك المركزي يعتمد على قبولها لضخ السيولة وتنفيذ سياسات التحكم النقديعلى  سياسة تجفيف السيولة الحالية التي يعتمدها ، وبالتالي في حال فشل في  اعتماد العملة الجديدة قد يؤدي إلى ارتفاع معدلات التضخم، ضعف السيولة في النظام المصرفي، وتراجع الثقة بالمؤسسات المالية. هذه التأثيرات يمكن تلخيصها كما يلي:

1. زيادة التضخم: يشعر المواطنون أن العملة الجديدة ليست سوى أداة لصالح بعض الشخصيات مثل  “شام كاش” و”المجلس الاقتصادي الأعلى”، وخلفهم جماعات إسلامية راديكالية تتحكم بالسلطة تحت مسمىسلطة المشايخ . هذا الشعور قد يدفع المواطنين للبحث عن ملاذات آمنة مثل الدولار أو الذهب، ما يزيد الطلب عليها ويؤدي إلى ارتفاع الأسعار، ويضع ضغوطًا على الأسواق الرسمية، ووهو ما قد يفتح الطريق مجددًا لتجريم التعامل بالعملات الأجنبية أو الذهب.

2. انكماش السيولة الرسمية: خلال استمرار مرحلة التعايش بين العملة السورية الجديدة وبعض الفئات من العملة القديمة لسنوات كما هو معلن ، من المتوقع أن يقل استخدام العملة الجديدة كوسيلة للتعامل اليومي للتعاملات الكبيرة  أو للاكتناز. يشبه هذا ما حدث مع الدينار العراقي أثناء حصار العراق بعد غزو الكويت، حيث احتفظ الناس بالفئات القديمة المطبوعة بسويسرا واتقصر  التعامل بالفئات الجديدة على السلع اليومية ، بل ان الادراة الذاتي لاقليم كردستان العراق وقتها تعاملت فقط بالدينار العراقي مطبوع خارجياٍ بسويسرا . هذا الانكماش في استخدام العملة الجديدة سيضعف أدوات السياسة النقدية ويحد من قدرة الدولة على تنظيم السوق وضبط الدورة النقدية، ما قد يؤدي إلى ارتفاع الأسعار مرة أخرى ويستدعي إصدار فئات نقدية جديدة لتلبية الطلب على السيولة

3. نمو الاقتصاد الموازٍ: اللجوء إلى العملات الأجنبية أو العقارات كوسائل للتبادل يزيد من قوة الاقتصاد غير الرسمي، ويحد من قدرة الدولة على ضبط الأسواق ومراقبة النشاط الاقتصادي الحقيقي.

4. فقدان الثقة بالمصرف المركزي: شعور المواطنين بأن العملة الجديدة “تسلب أموالهم” يقلل من مصداقية المصرف المركزي، ويضعف أي جهود لتحفيز الثقة بالسياسة النقدية.

5. عزوف البنوك الدولية: العملات الخالية من الرموز والصور، وربطها بتقارير فساد لصالح السلطة الحاكمة، إضافة إلى المرجعية الأيديولوجية الراديكالية والانقسام المجتمعي، تجعل البنوك الدولية مترددة في التعامل مع المصرف المركزي أو فتح قنوات تواصل جديدة، خاصة مع تصاعد التقارير التي تشير إلى ضعف الشفافية بعد إصدار العملة.

6. العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا:  تزيد من تردد المواطنين في التعامل بالليرة الجديدة، إذ يرون في العملات الأجنبية أو الذهب وسيلة أكثر أمانًا لحماية أموالهم. هذا الانكماش في استخدام العملة الجديدة يضعف أدوات السياسة النقدية ويحد من قدرة الدولة على تنظيم السوق وضبط الدورة النقدية، ما قد يؤدي إلى ارتفاع الأسعار مرة أخرى ويستدعي إصدار فئات نقدية جديدة لتلبية الطلب على السيولة.

دروس من التجارب الدولية وتجربة داعش

تُظهر التجارب الدولية والمحلية أن الرموز والصور على العملة تلعب دورًا حاسمًا في بناء الثقة وتعزيز الهوية الوطنية، بينما غيابها قد يؤدي إلى فقدان الثقة وانتقال الناس إلى ملاذات نقدية بديلة مثل الذهب والعملات الأجنبية.

سنغافورة:

اعتمدت سنغافورة عملات تحمل صور شخصيات وطنية بارزة، مثل مؤسسي الدولة ورموز تاريخية، لتعزيز الهوية الوطنية وترسيخ الثقة بالعملة. النتائج أظهرت أن المواطنين والمستثمرين كانوا أكثر استعدادًا للتعامل بالعملة الوطنية، مما ساعد البنك المركزي على التحكم بالسيولة وتنفيذ السياسة النقدية بفاعلية، وتقليل الاعتماد على العملات الأجنبية.

نيبال:

ركّزت نيبال على مناظر طبيعية ومعالم ثقافية بدلاً من الشخصيات التاريخية، بهدف الحفاظ على ثقة الجمهور بالعملة وسط تغييرات رمزية وسياسية. على الرغم من غياب الشخصيات الوطنية، إلا أن الحفاظ على تمثيلات ثقافية واضحة وجذابة ساعد على استمرار قبول العملة وعدم اللجوء إلى ملاذات نقدية بديلة، مع إبقاء أدوات السياسة النقدية فعّالة.

تجربة داعش:

خلال سيطرة تنظيم داعش على أجزاء واسعة من العراق وسوريا بين 2014 و2017، حاول التنظيم إصدار عملة محلية لتعزيز سيطرته الاقتصادية والرمزية، لكنها كانت خالية من أي رموز وطنية أو ثقافية مقبولة. هذا أدى إلى انهيار الثقة بالعملة الرسمية بسرعة، حيث رفض السكان التعامل بها وتحولوا إلى الذهب والدولار والعملات الأجنبية لتخزين أموالهم وحماية قيمتها. النتيجة كانت تقوية الاقتصاد غير الرسمي، وضعف قدرة التنظيم على ضبط السوق وتمويل مشاريعه. تظهر هذه التجربة أن غياب الهوية الرمزية على العملة يجعلها معرضة للرفض الشعبي ويعطل السياسة النقدية، مهما كانت الإجراءات الرسمية المصاحبة لها.

تظهر هذه التجارب، بما فيها تقرير البنك الدولي حول أهمية الرموز على العملة، أن الرموز الوطنية والثقافية ليست مجرد زخرفة، بل عنصر أساسي لبناء الثقة والهوية الوطنية. غيابها يجعل العملة معرضة للرفض الشعبي ويزيد الميل إلى الملاذات النقدية البديلة مثل الذهب والدولار، ويضعف أدوات السياسة النقدية، مهما كانت الإجراءات الرسمية المصاحبة لها. هذه الدروس تؤكد أن أي خطة لإصدار عملة جديدة في سوريا لا يمكن أن تنجح اقتصاديًا دون مراعاة البعد الرمزي والثقافي للهوية الوطنية، لأنه جزء لا يتجزأ من قبول المواطنين وثقتهم بالدولة ومؤسساتها المالية.

التحدي بين الإصلاح والهندسة الرمزية

المفارقة الأساسية تكمن في أن الدولة تسعى إلى اقتصاد منضبط وجاذب للاستثمار، بينما تصدر عملة خالية من الرمزية الوطنية أو التاريخية الواضحة. هذا التناقض يخلق توترًا بين الأهداف الاقتصادية والسياسات الرمزية للدولة، ويضعف الثقة الداخلية لدى المواطنين، كما يرسل رسائل سلبية إلى الخارج بشأن استقرار الاقتصاد ومصداقية مؤسساته المالية.

الاقتصاد الحر والناجح لا يزدهر في فراغ رمزي؛ فهو يحتاج إلى:

  • مؤسسات مستقلة وفعّالة: قادرة على إدارة السياسة النقدية وضبط السوق بدون تدخلات أيديولوجية، مع القدرة على تلبية احتياجات السيولة وتحقيق الاستقرار المالي.
  • سردية وطنية جامعة: تعترف بالتاريخ، تحترم الضحايا، وتكرّم الرموز الوطنية، لتعزيز الثقة بالعملة الوطنية وجعلها مرآة للهوية الجمعية للشعب.
  • الاستقرار الاجتماعي والسياسي: عندما يشعر المواطنون بأن العملة تمثلهم ثقافيًا وتاريخيًا، يزداد التزامهم بها،مما يعزز فعالية السياسات النقدية ويقلل الاعتماد على العملات الأجنبية أو الملاذات البديلة مثل الذهب.

غياب هذه العناصر يؤدي إلى ضعف قبول العملة، تقوية الاقتصاد غير الرسمي، وزيادة المخاطر على التضخم والسيولة، ويحول أي إصلاح نقدي محتمل إلى تجربة ناقصة، لأن النجاح الاقتصادي مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالبعد الرمزي والثقافي للهوية الوطنية.

فرصة للتصحيح

الفرصة لا تزال متاحة لوقف هذا المسار قبل أن تتحوّل العملة الوطنية من أداة إصلاح نقدي إلى أداة هندسة اجتماعية وفشل اقتصادي. الصمت عن هذه التحديات يعني المشاركة غير المباشرة في نتائجها السلبية. لذلك، يجب على صانعي القرار والمجتمع المدني رفع الصوت والمطالبة بأن تعكس العملة الوطنية الهوية الوطنية، تحمي السيولة، وتعزز الثقة بالسياسة النقدية.

وعند اعتماد العملة الجديدة بشكل كامل، يمكن أن تنشط الرفط المركزي وتعيد انتظام الدورة النقدية في النظام المصرفي، ما يحد من التضخم، يعزز ثقة المواطنين بالمؤسسات المالية، ويحسن فعالية أدوات السياسة النقدية على المدى المتوسط. هذه الخطوة لا تتعلق فقط بالإصلاح الاقتصادي، بل أيضًا بإعادة بناء رابط الثقة بين الدولة والمواطنين، وضمان أن تصبح العملة أداة فعّالة لتحقيق الاستقرار المالي والاجتماعي معًا.

مقالات ذات صلة