تواجه السياسة النقدية في سوريا حالة غير مسبوقة من الارتباك البنيوي، تعكس تداخل مصالح مالية ودينية ومناطقية في صلب عمل مصرف سورية المركزي، في واحدة من أكثر مراحلها اضطرابًا منذ تأسيس مؤسسة البنك المركزي . ويبدو أن غياب التنسيق والشفافية في إدارة السياسات النقدية جعل القرارات متناقضة في كثير من الأحيان: فبينما يحاول المركزي السيطرة على السوق عبر تجفيف السيولة وفرض قيود على الإقراض والتحويلات المالية، تظهر ممارسات متناقضة مثل ترخيص شركات الحوالات التي غالبًا ما تواجه تساؤلات حول مصداقية عملياتها المالية، والإعلانات المبالغ فيها عن الاتصال الجزئي بنظام SWIFT، الذي لم يتجاوز كونه تجربة تقنية محدودة. إلى جانب ذلك، التخبط في سياسات طباعة العملة، سقوف السحب والإيداع وتنظيم عمل المصارف بشكل متكرر، ما يزيد من الارتباك على المؤسسات الاقتصادية المحلية.
تشير التحليلات الاقتصادية إلى أن جزءًا من هذا التخبط مرتبط بـ شبكات نفوذ مالية متداخلة في عمل البنك المركزي ، أبرزها:
-
المجلس الاقتصادي الأعلى في إدلب، الذي نقل نشاطاته إلى القصر الجمهوري، ويشرف على أموال هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا) وما يتفرع عنها من شركات صرافة مثل “شام كاش”، والتي باتت تؤثر على قرارات المركزي عبر قنوات التحويل الداخلية والخارجية، بما يشبه آليات إعادة توزيع الموارد المالية.
-
عائلة الشرع، التي أعادت ترتيب سيطرتها على بعض الأصول المالية المرتبطة بنظام الأسد عبر شبكات متفرعة، في محاولة لملء الفراغ الناتج عن تراجع النفوذ المباشر لعائلة الأسد في بعض القطاعات الاقتصادية.
هذا التداخل بين النفوذ الديني، الشبكات الاقتصادية، والمصالح العائلية يجعل قرارات المركزي أحيانًا نتيجة لتوازنات نفوذ أكثر منها سياسة نقدية استراتيجية، مما يعقد أي جهود إصلاحية أو تحسين للحوكمة المؤسسية.
في هذا السياق، يكتسب اتفاق التعاون مع مدرسة فرانكفورت للتمويل والإدارة طابعًا رمزيًا أكثر منه تطبيقيًا، حيث يمثل محاولة للخروج من العزلة الفنية والتقنية، لكنه يظل محدود التأثير ما لم تتغير المعادلات الداخلية وتُستعاد القدرة على اتخاذ قرارات نقدية مستقلة وشفافة.
التعاون الفني لبناء قدرات البنك المركزي
تتميز الاتفاقية بتركيزها على التدريب الفني ونقل المعرفة بدلاً من أي تعاملات مالية مباشرة، وهو ما يمنحها هامشًا قانونيًا أوسع للتنفيذ دون الاصطدام بالعقوبات الامريكية وغياب SWIFT. ويمكن تنفيذ بنودها عبر أدوات مرنة مثل:
-
برامج التدريب عن بُعد عبر المنصات الإلكترونية.
-
ورش عمل تقام خارج الأراضي السورية.
-
إنشاء مكاتب ارتباط في دول وسيطة مثل بيروت وتركيا والدوحة والرياض.
-
التعاون عبر مؤسسات تعليمية أوروبية شريكة.
أما مجالات التعاون المتوقعة حسب خبرة مدرسة فرانكفورت:
-
تدريب الكوادر المصرفية السورية على أحدث المعايير الدولية.
-
تطوير الكفاءات المالية والإدارية داخل المصرف المركزي والمؤسسات التابعة له.
-
تبادل الخبرات التقنية والتنظيمية بين الطرفين.
-
تصميم برامج استشارية وتدريبية مخصصة للواقع السوري، تشمل:
-
إدارة المخاطر
-
الشمول المالي
-
الرقابة المصرفية
-
الابتكار المالي
-
كما أن صياغة الاتفاق ضمن إطار “بناء القدرات المؤسسية” و“الحوكمة الرشيدة” و“دعم المؤسسات العامة” يجعله متوافقًا مع المعايير الأوروبية والأمم المتحدة فيما يخص المنح المحتمل تمويلها للبرنامج، ويضعه خارج نطاق العقوبات الأمريكية المباشرة، ما يمنح الطرفين مساحة قانونية للتنفيذ الواقعي.
ويشكل هذا الإطار أيضًا الأساس الذي تُقدّم من خلاله المنح المالية الأوروبية لدعم الشعب السوري عبر مؤسسات المجتمع المدني، والتي تهدف إلى تعزيز قدرات القطاع العام والخدمات الأساسية. ورغم ذلك، وهذه تندرج ضمن خطوات الحكومة الى استبعاد المجتمع المدني من المشاركة ببناء سوريا عبر تجفيف المنح المالية عنه .
آليات التمويل البديلة تحت سقف العقوبات
نظرًا لعجز المصرف المركزي عن إجراء تحويلات مالية مباشرة، يمكن تمويل البرامج التدريبية عبر جهات وسيطة تضمن الشفافية والامتثال للقوانين الدولية:
-
الوكالة الألمانية للتعاون الدولي (GIZ): تنفذ برامج غير مباشرة داخل سوريا، مما يتيح تنفيذ التدريب دون خرق العقوبات.
-
المؤسسات الأممية: مثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، التي تدير مشاريع تهدف إلى بناء القدرات المؤسسية في القطاع العام.
-
الجهات المانحة الأوروبية: مثل الاتحاد الأوروبي، الذي يقدم منحًا لدعم إصلاحات القطاع المالي في سوريا.
تم تطبيق هذا النموذج سابقًا في دول خاضعة لعقوبات، حيث تُدار البرامج عبر مؤسسات وسيطة تضمن الشفافية والامتثال للقوانين الدولية.
ولابد من ايضاح كلف البرنامج بشيء من التفصيل
قدير تكاليف التدريب والإقامة للمتدرب الواحد
الموقع | تكلفة البرنامج التدريبي (يورو) | الإقامة اليومية (يورو) | الإقامة الشهرية (يورو) | التكلفة الإجمالية (يورو) |
---|---|---|---|---|
بيروت | 3,000 – 25,000 | 100 – 140 | 3,000 – 4,200 | 6,000 – 29,200 |
تركيا | 3,000 – 25,000 | 80 – 120 | 2,400 – 3,600 | 5,400 – 28,600 |
الدوحة | 3,000 – 25,000 | 170 – 250 | 5,100 – 7,500 | 8,100 – 32,500 |
الرياض | 3,000 – 25,000 | 140 – 210 | 4,200 – 6,300 | 7,200 – 31,300 |
ملاحظات:
-
تستمر البرامج التدريبية عادة من 5 أيام إلى 3 أسابيع، مما يعني أن التكلفة الإجمالية تتراوح بين 6,000 و29,200 يورو، حسب الموقع ونوع الدورة.
-
تختلف التكاليف اليومية للإقامة بناءً على المدينة ونوع السكن والخدمات المقدمة.
-
التكاليف الشهرية تم حسابها بناءً على إقامة لمدة 30 يومًا.
وهذه الكلف تعتبر كلف مرتفعة جدا ، ونظرًا لعجز المصرف المركزي عن التحويل المباشر، يمكن أن تتولى التمويل جهات وسيطة مثل:
-
الوكالة الألمانية للتعاون الدولي (GIZ)، التي تنفذ برامج غير مباشرة داخل سوريا.
-
المؤسسات الأممية المعنية بإعادة بناء القدرات العامة.
-
الجهات المانحة الأوروبية التي ترى في إصلاح القطاع المالي السوري جزءًا من البنية المدنية القابلة للدعم.
وقد تم تطبيق هذا النموذج سابقًا في دول خاضعة لعقوبات، حيث تُدار البرامج عبر مؤسسات وسيطة تضمن الشفافية والامتثال للقوانين الدولية.
مبادرة إصلاحية جادة أم ترتيب بيروقراطي لامتصاص المنح الأوروبية؟
تطرح تجربة برامج بناء قدرات البنك المركزي السوري تساؤلات جدية حول مدى حقيقة هذه المبادرات الإصلاحية. ففي ظل التخبط البنيوي في سياسات المصرف المركزي، وضعف الكوادر البشرية والقدرات اللوجستية، تتضح محدودية القدرة على تنفيذ برامج تدريبية فعّالة والاستفادة منها، وحتى ترشيح الكوادر المناسبة بعيدًا عن المحسوبيات.
كل ذلك يجعل هذه البرامج تسير ضمن سياق محاولات سابقة للحكومة للسيطرة على المنح الدولية، سواء عبر صندوق التنمية الوطني، وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، بما في ذلك تقييد عمل المنظمات غير الحكومية ، أو عبر جهات أخرى تابعة للحكومة الشرع.
وبالتالي، يصبح أي برنامج تدريبي يسعى إلى تطوير قدرات المصرف المركزي محاطًا بتحديات مزدوجة:
-
محاولة حرمان مؤسسات المجتمع المدني من مصادر التمويل المباشر، ما يقلل استقلاليتها وقدرتها على تنفيذ برامج داعمة فعّالة ومراقبة الحكومة.
-
استنزاف المنح الأوروبية واستهداف الجهات المانحة، إذ تُجبر على التعامل مع مؤسسات حكومية وسيطة، ما يرهقها ويحد من حرية اتخاذ القرارات التمويلية.
وفي هذا الإطار، تبقى مسألة جدية هذه المبادرات الإصلاحية محل شك، إذ يمكن أن يحوّل الترتيب البيروقراطي والسيطرة الداخلية على التمويل أي برنامج تدريبي محتمل إلى أداة لإدارة المنح بشكل مركزي أكثر من كونه مشروعًا إصلاحيًا حقيقيًا يرتقي بالقدرات المؤسسية.
البرنامج بين الانفراج الرمزي ومخاطر استغلال التمويل وخلاصة اقتصادية
رغم الطابع الرمزي للتعاون بين مصرف سورية المركزي ومدرسة فرانكفورت، إلا أن ضعف المؤسسة المركزي ومحدودية قدراتها يثير مخاوف من أن يُستغل البرنامج كأداة لتركيز التمويل والسيطرة على المنح الأوروبية، ما يجعل من الضروري ضمان شفافية كاملة في مصادر التمويل، متابعة النتائج، والرقابة على الأشخاص المرشحين وآليات الترشيح.
مع أن الأموال تأتي أساسًا من برامج دعم المجتمع المدني، فإن غياب إشراك هذه الجهات في التنفيذ يحوّل البرنامج أحيانًا إلى أداة بيروقراطية لاستنزاف المنح، بدل أن يكون مشروعًا إصلاحيًا حقيقيًا يعزز القدرات المؤسسية والكوادر الوطنية.
وبالتالي، يظل الاتفاق خطوة رمزية نحو الانفتاح الفني، لكنه محدود الفاعلية ما لم تُدار المبادرة بشفافية، ويُستثنى التحويل المالي المباشر، ويُحترم حضور المجتمع المدني. إذا أُدير البرنامج بشكل صحيح، يمكن أن يكون نواة لإصلاح مؤسسي حقيقي يعزز ثقة الشركاء الدوليين ويساهم تدريجيًا في ترميم القطاع المالي السوري.