في مقابلة مع برنامج “60 دقيقة” على قناة CBS News الأمريكية، قدّر الرئيس السوري أحمد الشرع كلفة إعادة إعمار سوريا بما يتراوح بين 600 و900 مليار دولار، في تصريح أثار اهتمامًا واسعًا لدى الأوساط الاقتصادية والسياسية، المحلية والدولية.
ورغم أن الرقم يبدو تعبيرًا عن حجم الدمار الذي لحق بالبلاد، إلا أنه يحمل في طياته رسائل متعددة المستويات، بعضها موجه إلى المجتمع الدولي، وبعضها الآخر يعكس التصور الرسمي للمرحلة المقبلة.
لكن هل يعكس هذا الرقم تقديرًا اقتصاديًا دقيقًا؟ وهل يتوافق مع المفاهيم الدولية المعتمدة لإعادة الإعمار؟ وهل يُقرأ من قبل المستثمرين والمانحين كـ فرصة اقتصادية أم كـ مؤشر على المخاطر؟
هذه الأسئلة تشكّل محور هذا المقال، الذي يسعى إلى تفكيك الرقم المطروح وتحليله في ضوء التجارب الدولية، استنادًا إلى المفاهيم المعتمدة لدى الأمم المتحدة، خاصةً في العراق، حيث جرى التمييز بوضوح بين “إعادة الإعمار” كمرحلة إنسانية، و”الإعمار” كمشروع تنموي طويل الأمد. ويمكن الاستنتاج حول اعادة الاعمار من مقابل الشرع ما يلي:
أولًا: إعادة الإعمار أم الإعمار؟ قراءة في المفاهيم الدولية
في أدبيات الأمم المتحدة، يُميز بوضوح بين مرحلتين متعاقبتين في سياق ما بعد النزاع:
-
إعادة الإعمار (Reconstruction):
تعني توفير الحد الأدنى من الخدمات الإنسانية الأساسية – الماء، الكهرباء، الرعاية الصحية، التعليم الطارئ – لضمان كرامة الإنسان واستمرار الحياة. تُدار هذه المرحلة عادة في بيئة غير مستقرة أمنيًا، بإشراف وكالات الإغاثة والمنظمات الدولية، ولا يُقصد بها البناء بقدر ما يُقصد بها الاستجابة الطارئة.
-
الإعمار (Developmental Construction):
تبدأ مرحلة الإعمار بعد تحقيق حدٍّ أدنى من الاستقرار الأمني والسياسي، وتشمل إعادة بناء ما تهدّم وفق معايير أكثر استدامة، بما في ذلك إصلاح البنية التحتية، وإعادة تصميم المدن، وبناء مؤسسات الدولة، وتنمية الاقتصاد الوطني. وهي عملية طويلة الأمد تتطلب تخطيطًا مؤسسيًا وتمويلًا مستقرًا وشراكات محلية ودولية.
في التجربة العراقية بعد عام 2003، ميّزت الأمم المتحدة بين التدخل الإنساني العاجل، الذي ركّز على إعادة تشغيل الخدمات الأساسية مثل الماء والكهرباء، وبين المشروعات التنموية اللاحقة التي استهدفت إنشاء بنى تحتية جديدة بالكامل. فعلى سبيل المثال، قدّر البنك الدوليكلفة إعادة تأهيل شبكة الكهرباء العراقية بنحو 10 إلى 12 مليار دولار، وهي كلفة محدودة مقارنة بالمبالغ الضخمة التي أنفقت لاحقًا على بناء شبكة كهرباء جديدة تجاوزت قيمتها 80 إلى 100 مليار دولار، نتيجة التضخم وارتفاع كلف العقود وضعف الإدارة.
هذا التفريق بين الإغاثة الطارئة والإعمار التنموي ليس تفصيلًا أكاديميًا فحسب، بل هو عامل حاسم في احتساب الكلفة وتوزيع الموارد؛ فدمج المرحلتين في خطاب واحد يؤدي إلى تشويش الرؤية الاقتصادية وإرباك المانحين والمستثمرين، ويضعف القدرة على وضع خطط تمويل واقعية تتناسب مع تسلسل المراحل ومتطلباتها.
ثانيًا: الكلفة البديلة – الاقتصاد الخفي وراء رقم 600 -900 مليار دولار
إن تقدير كلفة إعادة الإعمار بما بين 600 و900 مليار دولار لا يمكن النظر إليه كرقم اقتصادي دقيق، بل كقيمة تقديرية شاملة تتضمن عناصر ليست جزءًا من كلفة الإعمار الفعلية.
فالرقم المطروح يبدو أنه يخلط بين الإنفاق المادي المباشر على الإعمار والكلفة البديلة (Opportunity Cost)، أي كلفة الفرص الاقتصادية الضائعة خلال الحرب، مثل توقف الإنتاج، وهجرة الكفاءات، وتراجع الاستثمارات، وتفكك رأس المال الاجتماعي.
تُعدّ هذه الكلفة البديلة عنصرًا مهمًا في التحليل الاقتصادي، لكنها لا تدخل في الحسابات المحاسبية للإعمار المادي، لأنها غير قابلة للقياس الميداني بدقة. وتُستخدم فقط استئناسيًا في التخطيط الاستراتيجي لتقدير حجم الفاقد الاقتصادي ومسار التعافي الممكن، لا لتحديد حجم التمويل المطلوب للبناء.
من هنا، فإن التعامل مع الرقم المعلن كقيمة مالية حقيقية يعكس خلطًا مزدوجًا:
-
أولاً، بين الإعمار وإعادة الإعمار كمفهومين مختلفين في أدبيات الأمم المتحدة.
-
ثانيًا، بين الكلفة الواقعية للبناء والكلفة التقديرية الشاملة التي تتضمن خسائر غير مالية أو غير قابلة للتمويل.
وبالتالي، لا يمكن اعتبار هذا الرقم مرجعًا موثوقًا لتقدير كلفة إعمار سوريا، بل هو مؤشر سياسي واقتصادي عام يُستخدم لتوصيف حجم الدمار وتأطير النقاش الدولي، لا لتحديد الاحتياجات الفعلية على الأرض.
ثالثًا: الزمن والتقنية يغيران معادلة الكلفة
تتغير كلفة الإعمار بشكل ملحوظ وفق عدة عوامل، أبرزها: نوع المواد المستخدمة، مستوى التقنية، أساليب التخطيط، والعنصر الزمني، حيث يُعد الأخير من العوامل الأساسية التي تحدد حجم الإنفاق.
فكلما اعتمدت المشاريع على تقنيات أكثر كفاءة وتم التخطيط لها بشكل استراتيجي ومتسلسل، انخفضت الكلفة الإجمالية بشكل ملموس.
أما الأرقام الفضفاضة، مثل الرقم المعلن بين 600 و900 مليار دولار، فغالبًا ما تُقرأ على أنها رسائل سياسية تعكس حجم الدمار أو طموح إعادة الإعمار، وهو أمر مفهوم في سياق تصريح الرئيس.
لكن التحذير يكمن في تبني هذه الأرقام من قبل المحللين الاقتصاديين داخل السلطة كمؤشرات دقيقة للكلفة، لأن هذا الاستخدام يحوّل الرقم من رسالة سياسية رمزية إلى مؤشر اقتصادي متوقع، ما قد يولّد انطباعات عن سوء الإدارة أو الفساد المحتمل، ويُخفي الفروق الجوهرية بين الكلفة الواقعية والمستويات النظرية للتقدير.
رابعًا: الرسائل الضمنية للمستثمرين والمانحين
يمكن قراءة الرقم المقدر بين 600 و900 مليار دولار في اتجاهين متناقضين:
-
فرصة استثمارية كبرى تعكس حجم المشاريع الممكنة في قطاعات البنية التحتية، الإسكان، والطاقة، ما قد يجذب المستثمرين الراغبين في المشاركة في إعادة الإعمار.
-
مؤشر خطر محتمل يثير القلق بشأن تعقيدات الوضع الأمني والاقتصادي، أو غياب خطة تنفيذية واضحة، وهو ما قد يحد من قدرة المستثمرين على تقييم المخاطر بشكل دقيق.
كما يمكن تفسير الرقم كأداة تفاوضية مع الجهات المانحة، لكنه يفتقر إلى الجدولة المرحلية التي تعتمدها المؤسسات الدولية عند تخصيص التمويل، وهو عنصر أساسي لتقليل المخاطر وتعزيز الشفافية.
وبغياب التخطيط التفصيلي والمرجعيات الاقتصادية الدقيقة، قد يشعر المستثمرون والمانحون بوجود مخاطر محتملة تتعلق بالحوكمة أو إدارة الموارد المالية، خصوصًا في سياق العقوبات المفروضة على أفراد أو نشاطات أو مؤسسات الحكومة السورية ، مما يزيد من تعقيد تقييم الجدوى الاقتصادية لمشاريع الإعمار
خامسًا: غياب المرجعية الاقتصادية يضعف المصداقية ويبرز أبعاد الأزمة
يبقى السؤال الأساسي: على أي منهجية علمية أو تقييم اقتصادي استند الرئيس في تقديره لكلفة إعادة الإعمار؟
-
هل اعتمد على تقييم ميداني واقعي أم على تقديرات تقريبية؟
-
هل تمت مقارنة الرقم بنماذج دولية مشابهة في العراق أو البوسنة أو لبنان؟
-
هل هناك تفصيل قطاعي للكلف يشمل الصحة، التعليم، الطاقة، والبنية التحتية؟
غياب الشفافية في مصادر هذا الرقم يحوّله من أداة تخطيط اقتصادي إلى رقم رمزي، يفقد مصداقيته كمرجع يعتمد عليه في صنع القرار، خصوصًا في مرحلة حرجة ينتظر فيها الشعب انطلاقة إعادة الإعمار، وينتظر المجتمع الدولي بداية الاستقرار والتنمية بعد سنوات من النزاع.
إن تصريح الرئيس أحمد الشرع بهذا الرقم يعكس دخول الملف السوري مرحلة النقاش الاقتصادي الدولي، لكنه يوضح أيضًا أن الدقة المالية ليست الهدف الأساسي، بل هو مؤشر على طريقة التفكير الاستراتيجية والسياسية للمستقبل.
فكل رقم في هذا السياق ليس مجرد إحصاء، بل رسالة مزدوجة: تُقرأ بعين المستثمر لتقدير المخاطر والفرص، وبعين الخبير الاقتصادي لفهم حجم التحديات أمام إعادة الإعمار. وفي الوقت نفسه، يعكس الرقم ما بدا من تصريح الرئيس أن الوضع الراهن في سوريا لا يتيح مجالًا كبيرًا للتفاؤل بإعادة الإعمار أو استقرار شامل، وأن الحرب والتنافس يظل عنوان المرحلة الحالية.

