الرئيسية » تصعيد استخباراتي روسي في الساحل السوري بعد سقوط الأسد: حرب ظلّ بين موسكو وكييف في سوريا الجديدة

تصعيد استخباراتي روسي في الساحل السوري بعد سقوط الأسد: حرب ظلّ بين موسكو وكييف في سوريا الجديدة

بواسطة Younes

في أعقاب سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024، دخلت الساحة السورية مرحلة جديدة من التوازنات السياسية والاستخباراتية المعقّدة، إذ وجدت روسيا نفسها أمام واقع سياسي متغيّر تقوده حكومة أحمد الشرع — التشكيل الذي انبثق من تكتّل “القيادة عسكرية ” المدعوم جزئيًا من أنقرة وكييف.

خلال الأسابيع الأولى من عام 2025، ساد اعتقاد واسع داخل الأوساط السياسية والإعلامية الروسية بأن نفوذ موسكو في سوريا يتراجع، بعد تداول تقارير غربية تشير إلى دور أوكراني – غربي غير معلن في سقوط الأسد، سواء عبر دعم لوجستي للمعارضة أو من خلال تفاهم سياسي محدود بين موسكو وواشنطن لتسهيل الانتقال دون صدام عسكري مباشر.

في يناير/كانون الثاني 2025، أعلن وزير الخارجية الأوكراني أندريي سيبيها من كييف عن “دعم بلاده للحكومة السورية الجديدة في مسارها نحو الديمقراطية والاستقرار”، بينما رحّبت واشنطن وبروكسل بتلك الخطوة، وبدأت بريطانيا وفرنسا بإرسال وفود فنية إلى دمشق لبحث “برامج إعادة الإعمار والمساعدات الإنسانية”، في ما بدا أنه اصطفاف دبلوماسي غربي خلف حكومة الشرع.

وفي مارس/آذار 2025، أطلقت أوكرانيا رسميًا مكتب تمثيل سياسي مؤقت في دمشق، وهو أول وجود دبلوماسي لها منذ عام 2012، كما أرسلت دفعة مساعدات غذائية ضمن مبادرة Grain from Ukraine، شملت أكثر من 500 طن من القمح والدقيق لدعم المناطق الشمالية المحررة.

تزامن ذلك مع دعم تقني غير مسبوق في مجالات الاتصالات والحوكمة الإلكترونية، حيث أعلنت حكومة الشرع عن توقيع مذكرة تفاهم مع شركة أوكرانية – بولندية متخصصة بالأنظمة الأمنية الرقمية لتحديث شبكات المراقبة المدنية والإدارية في دمشق وحلب.

الساحل السوري: من عمود النفوذ الروسي إلى محور الصراع الاستخباراتي

وسط هذه التحولات، عاد الساحل السوري إلى صدارة المشهد بوصفه العمود الفقري للوجود الروسي في البلاد طوال العقد الماضي، إذ تحتضن المنطقة القاعدتين الأساسيتين لموسكو: قاعدة حميميم الجوية وميناء طرطوس البحري.
لكن ما كان يُنظر إليه سابقًا باعتباره “نقطة الثبات الروسية” في سوريا، تحوّل مع نهاية عام 2024 إلى بؤرة اضطراب أمني وإنساني غير مسبوق.

ففي الأسابيع التي سبقت إعلان الحكومة الانتقالية برئاسة أحمد الشرع، واجهت القاعدتان الروسيتان موجة مضايقات عسكرية وأمنيةتمثّلت في حصار جزئي لقاعدة حميميم من قبل فصائل متشددة، وتراجع نشاط الميناء الروسي في طرطوس بفعل قطع طرق الإمداد البرية والبحرية.
تزامن ذلك مع نزوح واسع لآلاف المدنيين من بلدات جبلة وبانياس وريف اللاذقية، نتيجة أعمال عنف ومجازر دامية نُسبت إلى ميليشيات محلية خارجة عن السيطرة، ما خلق حالة من الفوضى الميدانية وانعدام الأمن حتى داخل المناطق التي كانت تُعتبر “آمنة روسيًا”.

في هذا المناخ المضطرب، بدا الوجود الروسي ظاهريًا ثابتًا، لكنه في الواقع كان يعيش مرحلة إعادة تموضع استخباراتي، مع تصاعد المواجهة الخفية بين موسكو وكييف على النفوذ في الساحل.
العنوان الأبرز لتلك المرحلة كان واضحًا:

“من يملك القدرة على البقاء في سوريا، ومن يستطيع تحقيق النصر خارج الحدود؟”

فبينما كانت حكومة الشرع تفتح أبوابها أمام الشراكة الغربية والأوكرانية، كانت موسكو تحشد أدواتها الاستخباراتية والعسكرية لإعادة رسم خطوط نفوذها، وتكثّف طلعاتها الجوية بطائرات Tupolev Tu-214R المتخصّصة بالاستطلاع الإلكتروني وجمع الإشارات (SIGINT/ELINT).
وتركّزت مهام تلك الطائرات على رصد النشاط الاستخباراتي الأوكراني المحتمل، بما في ذلك محاولات بناء شبكات نفوذ مدنية واقتصادية في الساحل تحت غطاء المساعدات والتعاون التقني.

من الدفاع إلى الهجوم: موسكو تعيد تشكيل مشهد الاستخبارات في الساحل

ردًا على التطورات الميدانية، أصدر الجنرال أوليغ إيغوروف، قائد القوات الروسية في سوريا، أوامر برفع الجاهزية القصوى في قاعدة حميميم في 20 سبتمبر/أيلول 2025.
شملت الإجراءات تعزيز التحصينات الأمنية حول القاعدتين الروسيتين، ونشر وحدات من الشرطة العسكرية على الطرق المؤدية إلى طرطوسواللاذقية، إضافة إلى تفعيل منظومات دفاع جوي قصيرة المدى لحماية الطائرات الروسية من أي هجمات بطائرات مسيّرة.

توازى ذلك مع إنشاء غرفة عمليات استخباراتية مشتركة في الساحل بإشراف مباشر من إدارة التجسس المضاد (DKRO) التابعة لجهاز الأمن الفيدرالي الروسي (FSB)، بقيادة المقدم ليونيد نيجورودوف.
هدفت الغرفة إلى رصد النشاط الأوكراني في سوريا عبر شبكات الاتصالات، وتحديد مواقع الوحدات المشغّلة للطائرات المسيّرة، باستخدام بيانات تم جمعها بواسطة طائرات الاستطلاع Tupolev Tu-214R المزودة برادارات SAR وأنظمة تصوير حرارية متقدمة.

وحدة المهام الخاصة: دمج الخبرة السورية في المشروع الروسي

في مايو/أيار 2025، شُكّلت وحدة مهام خاصة بدعم مباشر من جهاز الأمن الفيدرالي الروسي (FSB)، في إطار مساعٍ لإعادة بناء شبكة استخبارات ميدانية موثوقة في الساحل السوري بعد انهيار المنظومة الأمنية السابقة.
تكوّنت الوحدة من ضباط سابقين في شعبة المخابرات العسكرية السورية ممن حافظوا على صلات وثيقة مع موسكو، خاصة أن رئيس الشعبة الأسبق اللواء كمال حسن والمستشار الأمني د. سامر درويش كانا يقيمان في روسيا منذ مطلع عام 2024، ويؤديان دورًا استشاريًا في رسم هيكل التعاون الأمني بين البلدين.

خضع عناصر الوحدة لتدريب مكثّف ضمن برنامج متخصص في التجسس المضاد (Counterintelligence)، بإشراف ضباط من إدارة التجسس المضاد التابعة للـFSB (DKRO)، مع التركيز على الرصد الإلكتروني، وأساليب مكافحة الاختراق، وتحليل الاتصالات الميدانية.

من أبرز أعضاء الوحدة الميدانيين: العميد طاهر سليمان، العميد تامر الدخيل، العقيد محسن شدود، العقيد عامر خير بيك، العقيد إبراهيم عباس، المقدم إسماعيل محمد، الرائد حمزة بركات والنقيب وسام دواي، جميعهم من الطائفة العلوية وينحدرون من الساحل السوري، ما يعكس توظيفًا سياسيًا وطائفيًا مقصودًا من جانب موسكو لضمان الولاء المحلي والقدرة على التحرك الميداني ضمن بيئة اجتماعية مألوفة.
ووفق مصادر عسكرية روسية غير رسمية، فقد أُدرجت هذه الوحدة ضمن مشروع موسع يُعرف باسم “برنامج الدمج العملياتي السوري – الروسي”، الذي يهدف إلى توحيد شبكات الرصد البشري (HUMINT) والإشارات (SIGINT) تحت قيادة روسية مباشرة، مع احتفاظ العناصر السوريين بمهام ميدانية تكتيكية.

الحرب الإلكترونية: السيطرة على الاتصالات في الساحل

أطلقت وحدة الحرب الإلكترونية الروسية عمليات تشويش واستهداف اتصالات مكثفة في الساحل السوري، بهدف تعطيل قدرات التنسيق لدى الفصائل المسلحة وشبكات الاستخبارات الأجنبية، وتهيئة بيئة عملياتية أكثر أمانًا للقوات الروسية والعناصر الموالية. مثل هذه الأنظمة تُستخدم في مسارح عمليات معقّدة للحدّ من قدرة الخصم على التحكم والمراقبة.

وقد اعتمدت العمليات بشكل ملحوظ على منظومات تشويش واستطلاع إلكتروني معروفة من طراز Krasukha‑4 وMurmansk‑BN، واللتان تُصنّفان بين قدرات التشويش والرصد طويلة المدى التي تستعملها روسيا في ساحات صراع متعددة.

تزامنَت جولات التشويش هذه مع نشاط جوي استخباراتي روسي مكثّف بطائرات الاستطلاع Tu‑214R، التي تُستخدم لجمع إشارات الاتصالات وتحليل بيئات الرادار (SIGINT/ELINT)، ما منح منظومة الاستخبارات الروسية قدرة أكبر على تحديد أهداف يُشتبه بأنها مرتبطة بشبكات نفوذ أوكرانية أو خلايا مدعومة خارجيًا.

أفادت تقارير ميدانية ومحلّية أن أنشطة التشويش تسبّبت في انقطاع اتصالات ميدانية لمدد امتدت لساعات في منتصف سبتمبر/أيلول 2025، تزامنًا مع ضربات جوية ومدفعية استهدفت مواقع بريف اللاذقية يُعتقد أنها تابعة لأطراف معارضة مدعومة خارجيًا. هذه الحملة الإلكترونية جاءت ضمن استراتيجية روسية أوسع لحرمان الخصم من عناصر القيادة والتحكّم (C2) قبل تنفيذ عمليات هجومية انتقائية.

تجدر الإشارة أيضًا إلى أن تدخلات دولية وإنسانية ( مساعدات الحبوب التي أرسلتها أوكرانيا إلى سورية في أواخر 2024) شكّلت بُعدًا موازياً للدبلوماسية التي استُخدمت لبناء نفوذ مدني واقتصادي، وهو ما تزامن مع التحركات الأمنية والاستخباراتية على الأرض.

العلاقات بين حكومة الشرع وكييف: من الدعم العسكري إلى الشراكة السياسية

العلاقات بين حكومة الشرع وكييف: من الدعم العسكري إلى الشراكة السياسية

بعد سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024، سارعت أوكرانيا بقيادة الرئيس فولوديمير زيلينسكي إلى إعلان دعم حكومتها للقيادة الجديدة في دمشق، برئاسة أحمد الشرع.
لاحقًا، ظهر الشرع في صور رسمية مستلهمة من أسلوب صور زيلينسكي التقليدي، في محاولةٍ واضحةٍ لإرسال رسائلٍ مفادها وحدة الحال ووجود عدوٍّ مشترك، وأن الحرب أصبحت حملاً جماعياً—رسالة تهدف إلى بناء صورة شرعية ودبلوماسية متوازنة تعزّز من مصداقية القيادة الجديدة داخليًا وخارجيًا. في 30 ديسمبر 2024، استقبل الشرع وزير الخارجية الأوكراني أندريي سيبيها في دمشق، في أول لقاء رسمي بين الطرفين ، مؤكدًا بداية فصل جديد من العلاقات الثنائية.

أبرز ملامح الشراكة الجديدة تضمنت:

  • إعادة فتح القنصلية الأوكرانية في دمشق .

  • إرسال مساعدات غذائية عبر برنامج “Grain from Ukraine”، شملت آلاف الأطنان من القمح والدقيق.

  • توقيع اتفاقات للتعاون الزراعي ونقل التكنولوجيا بين شركات أوكرانية وسورية.

  • بحث تأسيس ممر لوجستي عبر تركيا لنقل الحبوب والمعدات الأوكرانية إلى الأسواق السورية.

ورغم تأكيد الشرع على استمرار العلاقات مع روسيا ضمن المصالح المشتركة، رأت كييف في سقوط الأسد فرصة لإعادة التوازن الإقليمي وتقليص النفوذ الروسي في سوريا، عبر أدوات سياسية واقتصادية أكثر من الاعتماد على القوة العسكرية.

سوريا كساحة صراع استخباراتي متحوّل

تعكس التحركات الروسية الأخيرة في الساحل السوري تحوّلًا واضحًا في العقيدة العملياتية لموسكو من الدفاع إلى الهجوم، في مواجهة النشاط الاستخباراتي الأوكراني المتزايد.
وفي الوقت نفسه، تعمل روسيا على إعادة تموضع سياسي مع حكومة أحمد الشرع، سعيًا للحفاظ على مصالحها الاستراتيجية ونفوذها التقليدي في سوريا، وهو ما يمنحها قدرة على المناورة وورقة ضغط على جبهة كييف، من خلال محاولة إجبار خصومها على الدخول في مسار تفاوضي جديد عبر البوابة السورية.

في المقابل، تسعى كييف إلى تحويل سوريا من ساحة نفوذ روسي إلى منصة دبلوماسية واقتصادية تخدم مصالحها الإقليمية، عبر الضغط السياسي والاقتصادي واستنزاف موسكو على مستوى النفوذ والموارد.

إن ما يجري اليوم في الساحل السوري لم يعد صراع نفوذٍ تقليديًا، بل حرب استخبارات متعددة الأبعاد — سياسية، تقنية، وإعلامية — تعكس سباقًا محمومًا بين موسكو وكييف على رسم ملامح الشرق الأوسط ما بعد الأسد.

مقالات ذات صلة