في تطور لافت يعكس تبدّل موازين القوى والنفوذ التقني داخل سوريا، شهد مطار الضبعة العسكري في ريف حمص الغربيبتاريخ 14 أيلول/سبتمبر 2025 وصول فريق تركي متخصص في صناعة وتطوير الطائرات المسيّرة، وذلك في إطار التعهدات التركية بتحديث وتسليح الجيش السوري الجديد. تمثل هذه الخطوة تحولًا نوعيًا في المشهد العسكري السوري، إذ إن المطار كان في السابق خاضعًا لسيطرة الحرس الثوري الإيراني ويُستخدم كمركز لتجهيز وصيانة المسيرات الإيرانية.
اللافت أن المهمة الأساسية للمطار لم تتغير — أي تصنيع وتشغيل الطائرات المسيّرة — بل اقتصر التغيير على هوية الجهة المشرفة والإدارة التقنية، مما يشير بوضوح إلى رغبة الأطراف الجديدة، وخصوصًا تركيا، في الاستفادة من البنية التحتية والمعدات التي خلّفها الإيرانيون، وإعادة توظيفها في مشروعها الخاص لبناء قدرات جوية غير مأهولة داخل سوريا.
وفد تركي رفيع لإدارة التحوّل
لم يكن التعهد التركي بتسليح وتطوير الجيش السوري الجديد مجرّد وعود دبلوماسية أو تصريحات سياسية، بل تحرك ميداني فعلي سعت تركيا من خلاله إلى ترسيخ نفوذها داخل أحد أهم التشكيلات العسكرية السورية — تلك الفرقة التي يُنسب إليها الدور الأبرز في نجاح عملية “ردع العدوان”.
ومن خلال هذا المسار، تمكنت تركيا من فتح بوابة استراتيجية جديدة عبر برنامج الطائرات المسيّرة، الذي لم يُستخدم فقط لتعزيز القدرات القتالية السورية، بل أيضًا كأداة لاختراق مجال الاستخبارات العسكرية، ما منح أنقرة موطئ قدم غير مسبوق في الملف الأمني السوري.
ولم يقتصر الدعم التركي على التدريب في الأراضي التركية، بل اتخذ طابعًا عمليًا مباشرًا عبر إرسال فريق هندسي وعسكري متخصص إلى مطار الضبعة نفسه، بهدف تأسيس بنية تشغيلية وتقنية جديدة تحت إشراف تركي كامل.
هذا الفريق ضمّ خمسة من أبرز خبراء صناعة الطيران المسيّر في تركيا:
-
إرْهان أوزتورك (Erhan Ozturk)
-
رسلان يلدز (Ruslan Yildiz)
-
دوغان أولكر (Dogan Ulker)
-
سيركان أكغون (Serkan Akgun)
-
أراس أكتور كو غلو (Aras Actor Co Glow)
وجميعهم من ذوي الخبرة الرفيعة في تطوير الأنظمة الجوية غير المأهولة ضمن كبرى شركات الصناعات الدفاعية التركية. وجودهم في الضبعة لا يمكن قراءته إلا كـ تفويض رسمي من أنقرة للانخراط المباشر في إعادة تشكيل البنية العسكرية السورية، عبر مزيج من التكنولوجيا، التدريب، والسيطرة الميدانية الهادئة.
من أنقرة إلى الضبعة: اتفاق يتجاوز التعاون التقني نحو إعادة هندسة النفوذ
لم تكن إعادة تأهيل مطار الضبعة العسكري مجرد خطوة تقنية أو مبادرة معزولة، بل جاءت ثمرة لاتفاقيات عسكرية وأمنية حساسة تم التوصل إليها خلال زيارة العميد عاصم هواري، قائد القوى الجوية السورية، إلى العاصمة التركية أنقرة بتاريخ 9 أيلول/سبتمبر 2025.
خلال الزيارة، التقى هواري كلًّا من:
-
الجنرال ضياء قاضي أوغلو (Zia Qazioglu) – قائد القوات الجوية التركية.
-
الجنرال سلجوق بيرقدار أوغلو (Selcuk Bayraktaroglu) – رئيس أركان الجيش التركي.
وقد شكّلت هذه اللقاءات نقطة تحوّل مفصلية في مسار العلاقات العسكرية السورية–التركية، إذ انتقلت من حالة العداء التقليدي إلى مرحلة تعاون تقني منظم وموجّه سياسيًا، ممهّدة الطريق لوجود تركي مباشر داخل البنية الجوية السورية.
التحليل الأعمق لهذه الخطوة يُظهر أن أنقرة اختارت استراتيجية الاختراق التقني بديلًا عن التوغّل العسكري. فبدلًا من استخدام القوة الميدانية، اتجهت إلى السيطرة على مفاصل التطوير الجوي والمعلوماتي داخل سوريا، وهو ما يتيح لها رصد النشاط العسكري السوري وتوجيهه بشكل غير مباشر وفق أولوياتها الإقليمية.
هذه المقاربة الذكية تمثل جوهر النفوذ التركي الجديد: نفوذ غير مرئي، لكنه فعّال، يدمج بين التقنية، التدريب، والمعلومات، ويمتد أثره من الضبعة إلى عمق المؤسسات العسكرية السورية.
وفي المقابل، رأت دمشق في هذا التعاون فرصة لإعادة إحياء سلاح الجو السوري المتهالك، ضمن معادلة جديدة تحفظ لها هامش توازن بين النفوذ الروسي التاريخي والدور التركي الصاعد.
أما موسكو فبدت متقبلة لهذا الانفتاح، بل ومشجّعة له ضمنيًا، إذ اعتبرته وسيلة فعالة لـلاعادة نفوذها الى دمشق عبر التغلغل في البنية العسكرية السورية دون الدخول في مواجهة مباشرة مع الغرب وامريكا.
لكن الأهم في هذا التحول هو ما يمكن وصفه بـ انعكاس الأدوار الإقليمية:
فبعد أن كانت روسيا هي من تسعى لتقريب أنقرة من دمشق في السنوات الماضية، نرى اليوم تركيا تؤدي الدور المعاكس — فهي من تفتح بوابة جديدة لتقارب من نوع آخر بين دمشق وموسكو، ولكن من مدخل عسكري–تقني يعكس تصاعد مكانتها كقوة مؤثرة لا كوسيط.
فبعد أن كانت روسيا هي من تسعى لتقريب أنقرة من دمشق في السنوات الماضية، نرى اليوم تركيا تؤدي الدور المعاكس
بهذا المعنى، لم يعد الاتفاق السوري–التركي مجرد تفاهم ثنائي، بل أداة لإعادة هندسة توازن القوى في سوريا:
-
تركيا تمسك بخط التطوير التقني والمعلوماتي.
-
روسيا تحتفظ بالإشراف السياسي والعملياتي.
-
سوريا تحاول استثمار التوازن لاستعادة استقلال قرارها العسكري.
إنها بداية مرحلة جديدة من إعادة توزيع الأدوار الإقليمية داخل سوريا، سيكون مطار الضبعة أحد أبرز رموزها، ومختبرها العملي الأول.
الدور الأوكراني: الهندسة التقنية بين النفوذين التركي والروسي
بالتوازي مع التحركات التركية، كانت إدارة القوى الجوية السورية قد بدأت منذ منتصف يوليو/تموز 2025 تنفيذ أعمال تجهيز متقدمة داخل مطار الضبعة، شملت إعادة تأهيل القسم الخاص بتصنيع المحركات التوربينية، بإشراف مباشر من فريق من المهندسين والخبراء الأوكرانيين.
هذا التعاون لم يكن صدفة، بل جاء في إطار تفاهمات أوسع تم ترتيبها بتنسيق غير مباشر بين أنقرة وكييف، حيث تتمتع تركيا بعلاقات وثيقة مع الصناعات الدفاعية الأوكرانية، خاصة في مجال المحركات الجوية والطائرات المسيّرة، مثل محركات AI-450T وMS-500 التي تم اعتمادها في بعض طرازات المسيرات التركية.
وبذلك، لعبت أوكرانيا دور “المورّد الصامت” للتقنية الحيوية داخل المشروع السوري، مانحة تركيا غطاءً تقنيًا يمكنها من تنفيذ التزاماتها تجاه دمشق دون الاصطدام بالعقوبات أو الحساسيات الإقليمية.
كما أن إدخال الخبرات الأوكرانية أتاح لسوريا فرصة نادرة للحصول على تقنيات غربية المنشأ كانت محظورة عليها سابقًا، مما يعزز قدراتها على تطوير مسيرات هجومية أكثر كفاءة واستقلالية عن السلاسل الإيرانية التقليدية.
ورغم العداء الروسي–الأوكراني العميق، فإن موسكو وافقت ضمنيًا على هذا الترتيب، مدفوعةً برغبة مزدوجة: فمن جهةٍ، أرادت رصد خفايا الصناعة الأوكرانية في مجال الطائرات المسيّرة عبر مراقبة عمل الخبراء داخل الأراضي السورية، ومن جهةٍ أخرى، استغلال وجودهم كهدف استخباراتي مستقبلي ضمن بيئة تُعدّها “معادية” في الأصل.
هذا السلوك ينسجم مع النهج الروسي في إدارة الملف السوري، حيث تُستخدم ساحات النفوذ المشتركة كمختبرات لتقاطع المصالح والمراقبة المتبادلة — وهي ذات المقاربة التي اتبعتها موسكو سابقًا في دعمها لدمشق، عندما كانت تستثمر التعاون العسكري السوري لتتبّع النشاطات الإيرانية والتشكيلات الحليفة.
تحليل هذا التداخل الثلاثي يكشف عن هندسة دقيقة في توزيع الأدوار والمصالح:
-
أوكرانيا توفّر المعرفة التقنية والمحرّكات الحيوية.
-
تركيا تتولى الإشراف والإدارة والتدريب.
-
روسيا تراقب المشهد بدقة، طمعًا في تفكيك أسرار التقنية الأوكرانية واستهدافها عند الحاجة.
-
سوريا تستفيد من الدمج بين هذه القوى لتطوير قاعدة صناعية محلية للمسيرات تخدم طموحها في استعادة التوازن العسكري.
بهذا، يصبح وجود الخبراء الأوكرانيين داخل مطار الضبعة تحت المظلّة التركية أكثر من مجرد تعاون هندسي؛ إنه ساحة استخباراتية مفتوحة تُمارَس فيها لعبة الأمم بأدوات تقنية هذه المرة، لا بالمدافع أو الجيوش.
انسحاب الوحدات الإيرانية واللبنانية: تمهيد لمرحلة النفوذ التركي واستلام الإرث العسكري
قبل دخول تركيا إلى مطار الضبعة، كان الموقع تحت إدارة مشتركة من:
-
الوحدة 340 التابعة للواء القدس الإيراني.
-
الوحدة 127 التابعة لحزب الله اللبناني.
وقد أُشرف على تجهيز المطار بكامل التجهيزات التكنولوجية المتقدمة خبراء إيرانيون وكوريون شماليون، حيث تم إعداد المنشأة لتكون مركزًا لصيانة وتجهيز الطائرات المسيّرة، بما في ذلك أنظمة الملاحة المتطورة، أجهزة الاستشعار، وأنظمة البث المباشر المرتبطة بالأقمار الصناعية.
لكن في 14 كانون الأول/ديسمبر 2024، شهد المطار انسحابًا مفاجئًا لهذه الوحدات، لتتولى قوات “ردع العدوان” تأمين الموقع وحماية المستودعات.
الانسحاب لم يكن مجرد حركة تكتيكية، بل يمكن تفسيره كخطوة مدروسة من قبل طهران وحزب الله لتفادي التصادم مع التحركات التركية القادمة، وفتح المجال أمام مرحلة إعادة ترتيب النفوذ في الضبعة.
من زاوية استخباراتية، يشير هذا الانسحاب إلى أن الإيرانيين أدركوا محدودية قدرتهم على حماية النفوذ العسكري والتقني في ظل التفاهمات التركية–السورية–الروسية المتنامية. كما يعكس تراجع الحضور الإيراني المباشر مقابل ظهور نفوذ تركي جديد قائم على الإشراف الفني والتقني، وهو أسلوب أقل مواجهة وأكثر استدامة.
بعد انسحاب الوحدات الإيرانية واللبنانية، كشف الرصد داخل مستودعات مطار الضبعة عن تجهيزات عسكرية متقدمة تمثل قاعدة متكاملة لإعادة بناء برنامج الطائرات المسيّرة تحت إشراف تركي، من أبرزها:
-
طائرات مسيّرة قتالية غير مجهزة من طراز أبابيل 4 (Ababil 4)
-
طائرات مسيّرة انتحارية غير مجهزة من طراز عرش 2 (Arsha 2)
-
طائرات مسيّرة من طراز شاهد 136 (Shahid 136)
-
محركات خاصة بالطائرات المسيّرة من طراز شاهد 136 و129
-
أجهزة استشعار متطورة وأنظمة ملاحة GPS محسّنة
-
أنظمة بث مباشر عالية التقنية مرتبطة بالأقمار الصناعية
-
كاميرات دقيقة للبث المباشر
-
أجهزة اتصال رقمية للطائرات من طراز شاهد 136 و129
-
صواريخ من طراز حيدر 1 (Haider 1)
-
صواريخ من طراز سديد 345 (Sadid 345) القابلة للإطلاق من الطائرات المسيّرة
تحليل هذه المعدات يكشف أن تركيا لم تستلم مجرد مطار، بل ورثت قاعدة صناعية متطورة:
-
يمكن إعادة استخدام المنصات الإيرانية القائمة لتطوير مسيرات هجومية وانتحارية جديدة، مع تحديث أنظمة الملاحة والاتصالات.
-
توفر المحركات والأجهزة الحساسة فرصة دمجها مع التقنيات الأوكرانية الحديثة، مما يمنح المسيرات السورية استقلالية تشغيلية أكبر عن إيران.
-
تمثل الأنظمة الاستخباراتية والأجهزة الرقمية بوابة مراقبة استراتيجية، تتيح للأتراك متابعة النشاط العسكري السوري والتحكم جزئيًا في خطوط الإنتاج والاستخدام.
بهذا، أصبح مطار الضبعة مركزًا متقدمًا لتطوير المسيرات الهجومية والاستطلاعية تحت إشراف تركي مباشر، مستفيدًا من:
-
الإرث الإيراني واللبناني الذي يشمل البنية التحتية والمعدات.
-
الخبرة الأوكرانية في المحركات والتقنيات المتقدمة.
-
القدرة التركية على إدارة وتوجيه العمليات الفنية والاستخباراتية.
إن دلالة هذا المخزون العسكري لا تقتصر على الجوانب التقنية، بل تمتد إلى البعد الاستراتيجي الأوسع، حيث يسمح لتركيا بـ:
-
ترسيخ نفوذها العسكري داخل سوريا بطريقة غير مواجهية.
-
السيطرة على خطوط تطوير الطائرات المسيّرة وملفات الاستخبارات المرتبطة بها.
-
تعزيز موقعها السياسي أمام دمشق وموسكو من خلال تقديم الدعم الفني العميق الذي يصعب تجاهله.
باختصار، الوراثة الإيرانية–اللبنانية لم تُلغَ، بل أُعيد توظيفها لصالح استراتيجية تركية طويلة المدى، ما يجعل مطار الضبعة رمزًا للتحول في هندسة القوة الجوية السورية، ويمثل نقطة انطلاق لإعادة توزيع النفوذ العسكري والتقني في المنطقة.
مطار الضبعة رمز التحولات الاستراتيجية في سوريا
مطار الضبعة اليوم ليس مجرد قاعدة عسكرية أو مركزًا لصناعة المسيرات؛ إنه مرآة التحولات الإقليمية داخل سوريا.
فالانسحاب المفاجئ للوحدات الإيرانية واللبنانية لم يكن علامة ضعف، بل تحوّل استراتيجي مهد الطريق للنفوذ التركي، الذي جاء تحت غطاء تقني وتعاون استخباراتي دقيق، مستفيدًا من الخبرة الأوكرانية المتقدمة في المحركات والتقنيات الجوية.
بهذا الشكل، أصبح المطار مختبرًا لإعادة هندسة النفوذ الثلاثي:
-
تركيا تتحكم في الإشراف الفني، التدريب، وتوجيه الإنتاج.
-
أوكرانيا توفر الخبرة التقنية والمكونات الحيوية التي تحاول مراقبة وخلق صراع مع روسيا.
-
سوريا تستعيد جزءًا من قدرتها على تطوير مسيرات هجومية واستطلاعية، مع الحفاظ على هامش من القرار العسكري.
-
روسيا تراقب عن كثب، مستفيدة من التواجد التركي والأوكراني لجمع المعلومات الاستخباراتية عنهم ومعرفة التقنيات الايرانية بشكل غير مباشرة ودون كلف اضافية.
من خلال هذا الترتيب، أصبح مطار الضبعة مركزًا متقدمًا لتطوير مسيرات هجومية واستطلاعية، وبوابة للاختراق الاستخباراتي، ما يمنح تركيا قدرة على النفوذ السياسي والعسكري داخل سوريا بطريقة غير مواجهة، ويعيد تعريف التوازنات الإقليمية في شرق المتوسط والشرق الأوسط.
باختصار، إن التحوّل في مطار الضبعة يعكس استراتيجية متكاملة لإعادة توزيع القوى والموارد التقنية والعسكرية، حيث تتحول سوريا تدريجيًا إلى محور إقليمي لصناعة المسيرات، مع تأثير مباشر على مستقبل الحروب الجوية غير المأهولة في المنطقة، وتأكيد أن القرار العسكري السوري أصبح مبتكرًا ومحميًا بتقنيات متعددة الأطراف، لا تحت سيطرة طرف واحد فقط.