يُقدّم تقرير البنك الدولي الأخير حول تكاليف إعادة الإعمار في سوريا تقديرات مالية ضخمة، انتشرت على نطاق واسع في المنصات الاقتصادية والإعلامية، باعتبارها مؤشرًا جديدًا على حجم الدمار الذي خلّفته الحرب. إلا أن انتشار التقرير لم يكن مجرد حدث اقتصادي، بل انعكاس لأهمية الملف السوري الذي بات يُنظر إليه كأحد الملفات الدولية العالقة بين الحرب والسلام.
ورغم أهمية الأرقام الواردة كمؤشر على حجم الكارثة، فإن منهجية التقرير تُثير تساؤلات جوهرية حول مدى حياديته ودقته الجغرافية والسياسية في تقييم الأضرار وتحديد الأولويات. وهنا يبرز السؤال الأعمق:
هل يُعبّر التقرير فعلًا عن تقييم موضوعي لواقع الدمار في سوريا، أم أنه انعكاس لرغبات بعض القوى الفاعلة في الملف السوري على حساب مصالح السوريين واللاعبين الآخرين؟
حجم الكارثة الاقتصادية وتحديات إعادة الإعمار في سوريا
يشير تقرير البنك الدولي إلى أن الحرب في سوريا خلّفت أضراراً مادية هائلة تقدر بحوالي 108 مليارات دولار، موزعة على:
أضرار المادية المباشرة: حوالي 108 مليار دولار، موزعة على:
البنية التحتية: 52 مليار دولار (48%)
المباني السكنية: 33 مليار دولار (30%)
المباني غير السكنية: 23 مليار دولار (22%)
تكاليف إعادة الإعمار المتوقعة:
تتراوح بين 140 و345 مليار دولار والتقدير المتحفظ: 216 مليار دولار، موزعة على:
المباني السكنية: 75 مليار دولار
المنشآت غير السكنية: 59 مليار دولار
البنية التحتية: 82 مليار دولار
المحافظات الأكثر تضررًا: حلب، ريف دمشق، حمصوتبرز هذه الأرقام حجم الانهيار في القدرة الإنتاجية والخدمية، حيث يشير التقرير إلى تدمير ثلث رأس المال الإجمالي، مع تركيز الأضرار في المحافظات الحيوية مثل حلب وريف دمشق وحمص، ما يجعل إعادة إعمارها أولوية استراتيجية.
ويقدّر التقرير تكلفة إعادة الإعمار المتحفظة بـ216 مليار دولار، مع نطاق محتمل يصل إلى 140–345 مليار دولار بحسب السيناريوهات المختلفة، ما يعكس أن عملية التعافي ستكون أغلى من الخسائر الأولية بسبب الحاجة إلى إعادة بناء البنية التحتية، وإصلاح المباني السكنية وغير السكنية، وتغطية تكاليف الإشراف والإدارة.
ويشير التقرير إلى أن هذه الأرقام لا تشمل الأضرار غير المادية مثل فقدان رأس المال البشري والآثار النفسية والاجتماعية طويلة الأمد، كما يسلط الضوء على غياب آليات تمويل واضحة وفراغ مؤسسي قد يعيق تنفيذ خطة إعمار شاملة وفعّالة.
خلف الأرقام: أين تبدأ التقنية وأين تتدخل السياسة؟
رغم أن التقرير يستند إلى نماذج حسابية وتقنيات تحليل تعتمد على صور الأقمار الصناعية والبيانات الحكومية، ما يُضفي عليه طابعًا تقنيًا صارمًا، إلا أنه يهمل في طياته العديد من التفاصيل الجوهرية المرتبطة بطبيعة الاقتصاد السوري كبلد خارج من صراع طويل وعلى حافة الإفلاس.
يتعامل البنك الدولي مع سوريا كما لو كانت صفحة بيضاء صالحة لإعادة البناء من الصفر، في مقاربة تُذكّر بالمدرسة النيوليبرالية الأمريكية التي ترى في الأزمات الكبرى فرصًا لإعادة هيكلة الاقتصاد بما يخدم الشركات العابرة للحدود.
هذه المقاربة قد تبدو محايدة ظاهريًا، لكنها عمليًا تُقصي القوى الاقتصادية المحلية، وتُضعف فرص مشاركتها في إعادة الإعمار، خصوصًا في القطاع السكني الذي يُعد الأكثر التصاقًا بالواقع الاجتماعي والمعيشي للسكان.
كما يُلاحظ أن التقرير يتجاهل الفروق بين أنواع الأصول المدمّرة — فلا يُميّز بين المناطق الصناعية والتجارية والزراعية، ولا بين الأبنية العشوائية وتلك التي تنتمي لمناطق ذات تصنيف عمراني وتنظيمي عالٍ. هذا التجاهل يجعل التقييم العام أقرب إلى تقدير حسابي مجرّد لا يعكس التعقيدات الواقعية في توزيع الدمار، ولا يأخذ في الحسبان التفاوت في قيم العقارات وديناميات النمو السكاني المتوقعة خلال العقد القادم، والتي يجب أن تكون عنصرًا أساسيًا في أي عملية تخطيط أو إعادة بناء مستدامة.
الفجوة بين الأرقام والسياسات: اختلاف تقديرات البنك الدولي
اللافت أن تقديرات البنك الدولي حول كلفة إعادة الإعمار في سوريا تختلف بشكل ملحوظ عن أرقام مؤسسات أخرى تُعد قريبة منه من حيث المرجعية والمنهج، مثل لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا – ESCWA) اللجنة الاقتصادية الأوروبية (UNECE).
فبينما قدّرت الإسكوا حجم الخسائر الإجمالية بين 250 و450 مليار دولار، يصل البنك الدولي في بعض سيناريوهاته إلى أرقام تتجاوز 500 مليار دولار، وهو ما يتناقض مع أرقامه الأحدث (≈216 مليار دولار)، ما يعكس غياب الاتساق المنهجي حتى داخل المؤسسة نفسها.
هذا التباين لا يمكن فصله عن المنظور السياسي والاقتصادي لكل جهة دولية؛ فالإسكوا تميل إلى إبراز أثر العقوبات الاقتصادية والعزل المالي على الاقتصاد السوري، مع محاولة التأكيد على ضرورة إعادة النظر في السياسات المتبعة للحد من الحرب وإعادة إعمار البلاد بشكل متوازن.
في المقابل، يركّز البنك الدولي على الدمار الناتج عن الصراع الداخلي، متجاهلًا إلى حد كبير أثر العقوبات، ويتيح بذلك للشركات العابرة للحدود فرصًا لتوجه استثماراتها إلى سوريا كمسرح محتمل لنشاطات اقتصادية.
وبينما يركّز البنك الدولي على الجوانب القابلة للتمويل والتدخل عبر القروض والمساعدات الدولية، تسعى الإسكوا — بصفتها ذراعًا للأمم المتحدة — إلى تسليط الضوء على الكلفة الإنسانية والاجتماعية للعقوبات والانهيار الاقتصادي.
ومن هنا يظهر أن الأرقام ليست محايدة تمامًا؛ فهي تعكس منظور كل مؤسسة لأسباب الأزمة ومسؤوليات المجتمع الدولي تجاهها، أكثر من كونها مجرد تقديرات موضوعية لحجم الدمار الفعلي.
التحيّز الجغرافي-السياسي في منهجية التقييم
يُلاحظ أن التقرير يركز بشكل غير متوازن على المحافظات التي كانت مسرحًا للعمليات العسكرية الروسية والإيرانية، مثل حلب وريف دمشق وحمص، بينما يتجاهل بشكل لافت المناطق التي شهدت عمليات التحالف الدولي ضد تنظيم داعش، مثل:
الرقة: التي تعرضت لتدمير شبه كامل خلال عمليات التحالف، شمل المراكز السكنية والبنية التحتية.
دير الزور: خصوصًا مناطق الميادين والبوكمال، نتيجة القصف الجوي المكثف.
الحسكة: التي شهدت مواجهات طويلة بين قوات سوريا الديمقراطية وتنظيم داعش بدعم التحالف الدولي.
هذا الإغفال لا يمكن تفسيره بالتركيز على الأضرار المادية فقط، بل يعكس تحيزًا سياسيًا في اختيار المناطق المدرجة ضمن أولويات الإعمار، إذ يبدو وكأنه يُحمّل روسيا وحدها مسؤولية الدمار، ويعطي رسالة ضمنية بعدم الترحيب بالعلاقة معها.
كما أن التقرير قد يتضمن سردًا لحقائق بعيدة نوعًا ما، لكنه يعترف ضمنيًا بالفدرالية في تلك المناطق، بينما يهمل المناطق الجنوبية التي تقع تحت النفوذ الإسرائيلي، مما يشير إلى أن التقرير يقتصر على المناطق تحت سيطرة الحكومة في دمشق. هذا يطرح تساؤلات حول ما إذا كان الأمر مرتبطًا بتقسيم محتمل أو بفكر الفدرالية، أو إن كان مجرد توافر المعلومات عن المدن الكبرى واعتمادها في بناء النماذج الإدارية المختلفة.
إضافة إلى ذلك، يغفل التقرير نوعية الدمار، ففي ريف دمشق ودير الزور توجد آثار مواد كيماوية على الركام والأنفاق تحت الأرض، وهو ما يزيد من تكلفة إزالة تلك المخلفات وردمها مقارنة ببقية المدن.
حتى وإن كانت الدراسة مجرد صيغة عامة لإعادة الإعمار، فإنه من الضروري أن تبدأ الحكومة برسم سياساتها بوضوح لكل مدينة، كي تتمكن التقارير الدولية من تقدير الكلفة الحقيقية للإعمار ووضعها كمعيار لجذب التمويل الدولي.
الطابع التجريدي للتقديرات: تجاهل وفورات الحجم وتدرج الدمار
اعتمد التقرير على أرقام تجريدية صلبة دون مراعاة ديناميكيات الإنتاج المحلي أو التفاوت في مستويات الدمار بين المناطق، مما يثير عدة إشكاليات:
تجاهل وفورات الحجم: لم يشير التقرير إلى أن الإنتاج المحلي أو الإقليمي عند تنفيذه على نطاق واسع يمكن أن يخفض التكاليف بنسبة تصل إلى 30%، خاصة في قطاعات مثل الإسمنت، الحديد، الطاقة، والخدمات اللوجستية. هذا الإغفال يجعل التقديرات تبدو أعلى من الواقع ويضعف جدوى التخطيط الاقتصادي.
غياب التدرج في تقييم الدمار: لم يميز التقرير بين المناطق التي تعرضت لتدمير شامل وتلك التي تضررت جزئيًا أو وظيفيًا، بل تعامل مع الأرض السورية وكأنها “صفحة بيضاء”. هذا يعكس تبنيًا ضمنيًا لمنطق إعادة الإعمار النيوليبرالي، حيث يُعاد بناء كل شيء من الصفر دون اعتبار للهوية العمرانية أو البنية الاجتماعية القائمة.
إقصاء المنهج المحلي: هذا المنطق يتجاهل إمكانيات إعادة التأهيل التدريجي أو ترميم البنى القائمة، ويعزز الاعتماد على شركات دولية ضخمة، ما يهدد بتهميش الكفاءات المحلية ويعيد إنتاج التبعية الاقتصادية.
بالتالي، الطابع التجريدي للتقرير لا يخدم التخطيط الواقعي، بل يفتح الباب لتسييس التمويل، وتوجيهه نحو مشاريع رمزية بدلًا من أولويات مجتمعية حقيقية.

