لم تعد الكهرباء في سوريا جزءًا من منظومة الدعم الحكومي كما كانت تُقدَّم في الخطاب الرسمي طوال سنوات الحرب وما قبلها. كان السوريون، سواء في الداخل أو المهجر، يعلقون آمالهم على اللحظة التي تتحسن فيها الخدمات بعد “تحرير” المناطق وعودة سيطرة الدولة، ويستقبلون وعود الحكومة بمشاريع بمليارات الدولارات، كان آخرها سبعة مليارات، وهو أعلى من احتياج الكهرباء حسب تقديرات الوزارة، ومعظمها مخصص لقطاع الطاقة وإعادة تأهيل الشبكة الكهربائية، كنافذة أمل نحو حياة شبه طبيعية.
لكن الواقع اتخذ مسارًا مختلفًا تمامًا. فبدلًا من أن تتحول تلك الوعود إلى استقرار في التغذية الكهربائية وتحسن في الخدمة، تغيّر الخطاب الرسمي فجأة ليحمّل المواطن مسؤولية الانهيار تحت ذريعة “آثار الحرب” و”ارتفاع كلف الصيانة”، بينما مضت الحكومة في تنفيذ خطط رفع الدعم تحت شعارات “تحسين الخدمة” و”سد العجز”، من دون تقديم بدائل أو حلول انتقالية تقلل من أثر الصدمة على المجتمع.
ومع إعلان وزارة الكهرباء التسعيرة الجديدة في 30 تشرين الأول 2025، تحوّل حلم الحصول على إنارة منزلية منتظمة إلى عبء مالي خانق. الفواتير أصبحت أعلى من الرواتب نفسها، خصوصًا بعد أن تلقى المواطنون قرارًا آخر برفع سعر الخبز قبل يومين فقط، ما جعل الدخل المتآكل أمام خيار قاسٍ: إما الخبز، أو الكهرباء — ولم يعد بمقدورهم الجمع بينهما.
ويستعيد المواطنون في ذاكرتهم ما حدث في 18 شباط 2024، عندما رفع نظام الأسد الساقط الدعم عن الخبز وبعد يومين رفع تعرفة فواتير الكهرباء، ثم أطلق إشاعات عن انخفاض أسعار المحروقات وزيادة الرواتب. لكن الحقيقة الوحيدة التي بقيت كانت تراجع الدخل وانهيار القدرة الشرائية. قفزت أسعار الشرائح من مستويات رمزية إلى أرقام فلكية، لتتحول الكهرباء من خدمة عامة وحق أساسي إلى سلعة تجارية تُسعَّر بمنطق الجباية.
ما يحدث اليوم لم يعد مجرد “رفع دعم”، بل رفع يد الدولة عن مسؤوليتها الاجتماعية بالكامل، ودفع المواطن نحو خيارين أحلاهما مرّ: العتمة… أو الديون.
دعم نظري… وأعباء واقعية: الكهرباء في سوريا بين وعود الماضي وفرضيات اليوم
حتى نهاية عام 2024، كانت الحكومة السورية لنظام الأسد الساقط تروّج لاستمرار دعم الكهرباء عبر إبقاء الشريحة الأولى عند 10 ليرات سورية لكل كيلو واط، وهو دعم شكلي شكل نقطة ارتكاز في سياسات الطاقة الرسمية للحكومة الانتقالية برئاسة أحمد الشرع. وقد أدى هذا الدعم الظاهري إلى توقيع عقود بمليارات الدولارات مع شركات أجنبية، تروّج لها الحكومة كمشاريع لإعادة تأهيل الشبكة، رغم الشبهات التي تحوم حول مالكي هذه الشركات بشأن الفساد. وكان المواطنون يحلمون بإنهاء عصر الليدات ومعاناة البطاريات، والعودة إلى الكهرباء المنتظمة والحياة شبه الطبيعية، مع إمكانية تشغيل الأجهزة الكهربائية الأساسية لساعات أطول يوميًا.
لكن الفارق بين واقع 2024 و2025 صار واضحًا ومؤلمًا: الشريحة الأولى، التي كانت تشمل 600 كيلو واط في الشهر حتى نهاية 2024 بسعر 10 ليرات لكل كيلو واط، انخفضت في تسعيرة 2025 الجديدة لتشمل فقط 150 كيلو واط شهريًا أو 300 كيلو واط لشهرين متتاليين، بينما ارتفع سعر الكيلو واط الواحد بشكل صادم من 10 ليرات في 2024 إلى 600 ليرة في 2025.
معظم الأسر كانت تتجاوز هذه الشريحة تلقائيًا بسبب استخدام الأجهزة الأساسية مثل الثلاجة والغسالة والإنارة، ما دفعهم مباشرة إلى الشريحة الثانية والثالثة. عمليًا، الشريحة الثانية لعام 2025 تمثل الشريحة الخامسة لعام 2024 الخارجة من الدعم، أي أن الدعم أصبح محدودًا بشكل كبير، وتحولت الكهرباء من خدمة عامة وحق أساسي إلى سلعة تُسعَّر بمنطق تجاري بحت.
بالإضافة إلى ذلك، لم تميز الوزارة بين ساعات الليل والنهار، مما يدل على أن الهدف ليس تنظيم الاستهلاك أو تخفيف الضغط عن الشبكة خلال ساعات الذروة، بل رفع الإيرادات وتحويل الخدمة إلى أداة مالية على حساب المواطن.

تسعيرة الكهرباء 2025: ارتفاع غير مسبوق يثقل كاهل السوريين
في عام 2025، شهدت سوريا تحوّلاً جذرياً في تسعيرة الكهرباء، إذ أعلنت وزارة الطاقة تعرفة جديدة رفعت سعر الكيلوواط‑ساعة إلى مستويات غير مسبوقة، ما حول الكهرباء إلى سلعة تفوق قدرة المواطن الشرائية.
وفق تقرير للأمم المتحدة، يعيش نحو 90٪ من السوريين تحت خط الفقر بدخل أقل من 2.15 دولار يومياً، أي ما يعادل دخلًا شهريًا يتراوح بين 842,670 و 1,009,044 ليرة سورية (≈ 75–91 دولارًا وفق سعر الدولار 11200 ليرة للدولار )، وهو دخل لا يكفي لتغطية الحد الأدنى من الإنفاق على السلع الأساسية.
فعلى سبيل المثال، تحتاج العائلة إلى ربطة خبز بسعر 6,000 ليرة مرتين يومياً، ما يجعل تكلفة الخبز الشهرية:
6,000×2×30=360,000 ليرة سورية
وبخصم كلفة الخبز من الدخل الشهري، يبقى للمواطن ما بين:
1,009,044−360,000=649,044
إذا افترضنا استهلاكًا منزلياً متواضعاً للكهرباء مقداره 200 ك.و.س شهرياً (إنارة + ثلاجة + شحن أجهزة)، تصبح تكلفة الكهرباء وفق التعرفة الجديدة كالتالي:
- 
الشريحة الأولى: 150 ك.و.س × 600 ل.س/ك.و.س = 90,000 ليرة 
- 
الشريحة الثانية: 50 ك.و.س × 1,400 ل.س/ك.و.س = 70,000 ليرة 
 → إجمالي تكلفة الكهرباء الشهرية = 160,000 ليرة سورية.
الصيغة الأساسية هي:
القدرة بالواط÷1000×سعر الكيلو واط×عدد ساعات التشغيل
وباستخدام التعرفة 1,400 ل.س / ك.و.س (لأن أغلب الاستهلاك المنزلي يصل للشريحة الثانية بسرعة)، تكون النتائج:
وقد نشر المهندسون السوريون هذا الجدول بعد التصحيح
| الجهاز | الاستطاعة (Watt) | التكلفة لكل ساعة تشغيل تقريبية | 
|---|---|---|
| الفرن الكهربائي | 2000–2500 واط | ≈ 3,400 ليرة/ساعة | 
| سخان المياه الكهربائي | 1500–3000 واط | ≈ 2,550 – 5,100 ليرة/ساعة | 
| المكيّف | 1500–2000 واط | ≈ 2,550 ليرة/ساعة | 
| البراد (الثلاجة) | يعمل 10–15 دقيقة في الساعة (متوسط 250 واط فعليًا) | ≈ 340 ليرة/ساعة | 
| الغسالة | 1200–1500 واط | ≈ 1,700 ليرة/ساعة | 
| الإنارة LED | 5–15 واط | ≈ 17 ليرة/ساعة | 
| التلفاز | 100–150 واط | ≈ 170 ليرة/ساعة | 
| الكمبيوتر المكتبي | 300–400 واط | ≈ 510 ليرة/ساعة | 
| المدفأة الكهربائية | 2000 واط | ≈ 3,400 ليرة/ساعة | 
| المكنسة الكهربائية | 1200–1400 واط | ≈ 1,700 ليرة/ساعة | 
| الميكروويف | 1200 واط | ≈ 1,700 ليرة/ساعة | 
| غلاية الماء الكهربائية | 1200–1400 واط | ≈ 1,700 ليرة/ساعة (غليان الماء 5 دقائق ≈ 140 ليرة) | 
وبذلك تصبح الكلفة الشهرية للخبز والكهرباء معاً:
360,000+160,000=520,000 ليرة سورية
أي أن نحو 61٪ من دخل الأسرة يُنفق على بندين فقط (خبز + كهرباء)، قبل حساب الغذاء، النقل، الدواء، الغاز، التعليم… هذا المؤشر يعكس ما يُعرف بـ «عبء الإنفاق على السلع الأساسية» (Cost of Basic Needs)، ويُشير إلى فقدان القدرة على تغطية باقي الاحتياجات.
تشير دراسات اقتصادية إلى أن الحد الأدنى لتغطية نفقات أسرة سورية متوسطة قبل رفع الأسعار كان 6,000,000 ليرة شهرياً، ما يعني أن الفجوة بين الدخل والإنفاق (Income Gap) تتسع بشكل خطير، وهو ما يُعرف اقتصادياً بـ «الانكشاف المعيشي» (Living Exposure).
الأخطر أن الزيادة طالت الشريحة الرابعة (المؤسسات الخدمية والحكومية)، ما يعني انتقال الكلفة إلى المواطن من خلال ارتفاع أسعار السلع والخدمات (Cost Pass‑Through)، لتصبح الأسرة هي الممول النهائي لعجز الدولة.
وباختصار، المواطن السوري لم يعد تحت خط الفقر فحسب، بل انتقل إلى حالة الفقر المدقع وفقد القدرة على البقاء الاقتصادي، وهي مرحلة يُطلق عليها اقتصادياً «انهيار القدرة الشرائية» (Purchase Power Collapse)، مما يدفع نحو توسّع اقتصاد الظل، وانتشار السرقة، وارتفاع الهجرة، والعسكرة كآليات قسرية للبقاء.
جدول التعرفة الكهربائية الجديدة لعام 2025
| الشريحة | استهلاك تقريباً | السعر عام 2024 (ل.س/ك.و.س) | السعر عام 2025 (ل.س/ك.و.س) | نسبة الزيادة تقريباً | 
|---|---|---|---|---|
| الأولى – المنازل منخفضة الاستهلاك | حتى ~300 ك.و.س | 10 | 600 | ≈ 5 900 % | 
| الثانية – المنازل/مشتركو الدخل المتوسط | أعلى من ~300 ك.و.س | 135 | 1,400 | ≈ 937 % | 
| الثالثة – مؤسسات حكومية/شركات تحتاج كهرباء على مدار الساعة | نطاق أعلى | – | 1,700 | – | 
| الرابعة – معامل وصناعات كثيفة الاستهلاك | نطاق صناعي كثيف | – | 1,800 | – | 
الكهرباء تتحول إلى امتياز وليس حقًا
تشير التسعيرات الجديدة للكهرباء لعام 2025 إلى أن فاتورة الكهرباء المنزلية قد تتضاعف بشكل كبير في بعض الحالات. فمثلاً، إذا كان استهلاك الأسرة في السابق 200 ك.و.س بسعر 10–135 ليرة/ك.و.س (وفق التسعيرة القديمة)، كانت تكلفة الكهرباء الشهرية تتراوح تقريبًا بين:
200×10=2,000 ليرة (أدنى حد)200×135=27,000 ليرة (الحد الأعلى السابق)
مع التسعيرة الجديدة لعام 2025 (600 ليرة للشريحة الأولى و1,400 ليرة للشريحة الثانية)، تصبح تكلفة نفس الاستهلاك:
- 
الشريحة الأولى: 150 × 600 = 90,000 ليرة 
- 
الشريحة الثانية: 50 × 1,400 = 70,000 ليرة 
- 
الإجمالي = 160,000 ليرة سورية 
وبالمقارنة مع الحد الأعلى السابق (27,000 ليرة)، يكون التضخم في فاتورة الكهرباء حوالي 6 مرات تقريبًا، بينما قد تصل الزيادة إلى أكثر من 20 مرة بالنسبة للأسر التي كانت ضمن أقل الشرائح ودُفعت لها فواتير قليلة جدًا سابقًا.
وفي بلد يبلغ فيه متوسط الراتب الشهري أقل من 1,100,000 ليرة سورية، يصبح تشغيل الأجهزة الأساسية مثل الثلاجة، سخان الماء، أو الإنارة ليلاً عبئًا ماليًا هائلًا، وقد يؤدي تراكم الفواتير إلى قطع الخدمة أو تراكم الديون.
الأسر التي كانت عاجزة عن دفع الفواتير سابقًا، تجد نفسها اليوم مضطرة إلى التقليل من استهلاك الكهرباء إلى الحد الأدنى، أو الاعتماد على بدائل مكلفة مثل البطاريات، الإنفيرترات، والألواح الشمسية، وكلها تتطلب استثمارات مالية تفوق قدرة معظم العائلات السورية.
هذه المعادلة توضح أن قضية الكهرباء لم تُحل، بل تم رفع التعرفة لجعل الاستثمار فيها مغريًا للشركات المليارية وشركائها، مما يفتح الباب أمام الاستحواذ على الخرائط الإنتاجية والتجارية، بينما تصبح الكهرباء نفسها غير مجدية اقتصاديًا للمواطن العادي، وتبقى الحلول البديلة مكلفة وغير مستدامة.
هل ما زال الدعم موجودًا؟
الإجابة الاقتصادية المباشرة هي لا.
فالرواية الرسمية تقول إن الأسعار الجديدة “منطقية” وتهدف إلى “إيصال الدعم لمستحقيه”، لكن على أرض الواقع تتحمل الأسر معظم التكاليف بنفسها، بينما تتراجع جودة الخدمة ويزداد التقنين، لتصبح الكهرباء خدمة مكلفة وليست حقًا مضمونًا. مع التسعيرات الجديدة لعام 2025، لم يعد الدعم موجودًا على مستوى المواطن العادي، وما كان يُعتبر خدمة أساسية أصبح اليوم امتيازًا يتطلب قدرة مالية خاصة، في ظل دخول شهرية لا تكفي لتغطية الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية.
من منظور اقتصادي، يؤدي ارتفاع التعرفة بشكل حاد إلى:
- انهيار القدرة الشرائية للأسر، إذ تصبح غير قادرة على تشغيل الأجهزة الأساسية مثل الثلاجات أو سخانات المياه، ما يزيد من العبء المالي ويؤدي إلى تراكم الديون.
- غياب العدالة الطاقية يظهر جليًا، حيث لا يصل الدعم فعليًا إلى المواطن الفقير، بل يركز على شركات الاستثمار والطاقة الخاصة، ما يزيد الفجوة بين القدرة الاقتصادية للأسر وتكاليف الاستهلاك. إلى ذلك، تعاني الشبكة الكهربائية العامة من أعطال وتقنين مستمر، بينما تعتبر بدائل الطاقة المستدامة مثل الألواح الشمسية والإنفيرترات مكلفة جدًا للأسر المتوسطة والفقيرة، مما يحد من اعتمادها ويزيد من الاعتماد على حلول غير رسمية.
- التضخم يخرج عن السيطرة ، حيث مؤسسات الدولة نفسها التي تقود قاطرة تسعيرة يستهدفها قرار الرفع ، فنحن امام صدمة خطيره على المجتمع.
أخيرًا، تتحول الكهرباء إلى سلعة استثمارية وليست حقًا أساسيًا، وهو ما قد يؤدي إلى توترات اجتماعية، توسع اقتصاد الظل، وزيادة الاعتماد على المولدات الخاصة المكلفة. ونتيجة لذلك، يبدو أن السنوات المقبلة ستكون أكثر صعوبة على الأسر السورية، ما يفتح نقاشًا أوسع حول العدالة الطاقية وحق المواطن في الوصول إلى الخدمات الأساسية، ويبرز الحاجة إلى سياسات طاقة أكثر إنصافًا وفعالية لضمان بقاء الكهرباء متاحة لجميع المواطنين كخدمة عامة وليست مجرد فرصة استثمارية.


