محمد كساح
ملفات كثيرة وتفاصيل مثيرة يطرحها الباحث الاقتصادي يونس الكريم خلال حواره مع موقع “الترا سوريا”، متحدثًا عن مخاوفه من العودة إلى سوريا، مشيرًا إلى جملة من الأخطاء الاقتصادية التي وقع بها المعنيون بهذا الملف. في المقابل، يؤكد أن السلطة الجديدة مستمعة جيدة وصدرها مفتوح على كافة الآراء.
-
سأبدأ بهذا السؤال الشخصي والمباشر، متى ستعود إلى سوريا؟ وكخبير في الاقتصاد، هل عُرض عليك أي منصب حكومي أو استشاري؟
الحقيقة، العودة إلى سوريا هو أمر مطروح وأدرسه حاليًا، لكن الأمر بحاجة إلى ترتيب كبير من حيث معرفة نقاط عديدة، مثل كيف سيكون عملي ونشاطي في مجال الاقتصاد، وما هو وضعي مع الحكومة الجديدة الذي أعتبره حتى الآن غير واضح.
طبعًا هناك طرف في الحكومة عرض علي منصبًا في وزارة الخارجية والمغتربين لكن بشكل غير رسمي، وطالما أنه لم يتم بشكل رسمي فلا أعتبره عرضًا حكوميًا.
الحكومة غالبًا توظف أشخاصًا يدافعون عن توجهاتها وقراراتها وهذا حقها الطبيعي. بالنسبة لي أرفض هذه الفكرة.
خلال الفترة الماضية تواصلت مع شخصيات هامة في الحياة الاقتصادية الحكومية ووجهت لي انتقادات بسبب كتاباتي على السوشيال ميديا. فهمت أنها رسالة بأن أصمت.
-
بما أنك تعتبر أحد أبرز المنتقدين للسياسات والقرارات الاقتصادية للحكومة.. هل هذا توجه سياسي أم مجرد نقد علمي وتقني بحت؟
الانتقادات التي أكتبها ليست نابعة من أي توجه سياسي، بل أُقدّم نقدًا علميًا وتقنيًا يستند إلى دراسات موثقة وتحليلات اقتصادية معمّقة حول الواقع السوري. الهدف من هذا النقد ليس المعارضة، بل تسليط الضوء على أخطاء بنيوية لمحاولة منع تتكرر منذ سنوات، وبالإمكان تلافيها لو توفرت الإرادة والشفافية.
بصفتي خبيرًا اقتصاديًا، أحرص على تقديم رأيي بحيادية تامة، دون انحياز لأي طرف. لست مع أو ضد، بل أمارس دوري المهني في تصويب السياسات الاقتصادية بما يخدم الصالح العام. المؤسف أن يُصنّف أي رأي مستقل في هذه المرحلة الحرجة على أنه انحياز سياسي، في حين أن البلاد تحتاج إلى خطاب عقلاني بعيد عن الاستقطاب.
ما يُثير القلق هو أن الشفافية باتت تُهدد من يتحدث علنًا، وأن التعبير عن الرأي المهني قد يُعرّض صاحبه للتهميش أو الاستهداف. وهذا ما أواجهه شخصيًا من خلال الاتصالات من مسؤولين حكوميين بشكل مباشر أو عبر المقربين منهم، أو من خلال التبليغات المتكررة على صفحتي في “فيسبوك”، رغم أنني لا أمارس سوى دوري في التحليل والتقييم.
سوريا اليوم بحاجة إلى أصوات مستقلة، لا تُصنّف، بل تُستمع إليها. فالنقد البنّاء ليس تهديدًا، بل فرصة للإصلاح. وبالتالي، هذا الأمر يثير في نفسي هواجس متناقضة. هل أنا مرحب بي في حال عدت إلى البلد؟ هل عودتي آمنة؟ بل وأزيدك من الشعر بيتًا: تم وضع حظر على اسمي في عدد من القنوات التلفزيونية.
-
عطفًا على السؤال السابق.. ما أهم الملاحظات التي لمستها حول ذلك؟
يمكن ملاحظة حالة من التخبط واليأس حتى لدى المسؤولين السوريين بالتوازي مع الخوف من الآخر. هذا ما يذكرني بالفترة التي سبقت الثورة بأشهر عديدة، فقد توجهتُ بحكم عملي الاقتصادي إلى المسؤولين لتحذيرهم من أن البلد مقبلة على انهيار اقتصادي. وللأسف كان الرد وقتها مشابهًا.
أستطيع أن أؤكد من خلال رصدي للواقع الحكومي أن مسؤولين كثيرين لا يعتبرون أصحاب قرار بالمعنى المتعارف عليه، بل هناك شخصيات أقوى تقف في الظل تمسك بفاصل الملفات الهامة.
حتى الآن تطلعات السوريين حول مكافحة الفساد وحول السير باتجاه نمط اقتصادي واضح وتحريك عجلة الاقتصادي، كلها تطلعات تم نسفها لا تأجيلها. ونحن اليوم أمام صراعات داخلية قد تنشأ وتؤدي إلى نفور المستثمرين وابتعادهم عن السوق السورية. وأهم الأسباب التي قد تصلنا إلى هذه النتيجة تتمثل بتمييع مسار العدالة الانتقالية وإعادة إنتاج الفساد وانغلاق السلطة على ذاتها.
-
انتقاداتك الكثيرة والشديدة أحيانًا.. هل تسبب لك مشاكل أو تحديات؟
في الواقع، لا أعتبر أنني أمارس انتقادًا مفرطًا، بل أعبّر عن مواقف علمية مدروسة تجاه تصرفات حكومية متناقضة ومتسلسلة يصعب تفسيرها اقتصاديًا. هذه التناقضات تدفعني إلى إيصال رسائل عبر مختلف الوسائط، سواء عبر منشورات على “فيسبوك” أو “واتساب”، أو من خلال مقالات تحليلية أو أبحاث، بهدف تنبيه المعنيين إلى خطورة المسار الحالي.
الاقتصاد السوري يمر اليوم بمرحلة شديدة التعقيد، تتطلب من المسؤولين الاقتصاديين تقديم توصيات واضحة ومباشرة لصنّاع القرار السياسي. لكن ما ألاحظه هو حالة من التأييد غير النقدي للسياسيين ومحاباة، ما يؤدي إلى صدور قرارات غير مهنية، أو تُطرح خارج سياقها الاقتصادي الصحيح.
أنا وغيري من المتخصصين نعتقد أن السياسيين مستمعون جيدون، لكن المشكلة تكمن في غياب الجرأة المهنية لدى المسؤولين الاقتصاديين وبعض الخبراء الاقتصاديين الذين يفضلون الصمت أو المجاملة على حساب الحقيقة. وهذا الصمت، حين يصدر عن أصحاب الخبرة، يُعد شكلًا من أشكال الفساد غير المباشر.
السياسي، والعسكري، والمواطن العادي، ليس من مهامه التفكير في الاقتصاد أو التخطيط له. هذه مسؤولية تقع على عاتق الخبراء والموظفين الاقتصاديين، لأن الاقتصاد علم مركّب يرتبط بمجالات متعددة، ويتطلب فهمًا دقيقًا وتخصصًا عميقًا.
لذلك، فإن أي محاولة لتصنيف أو استهداف أي صوت اقتصادي بسبب النقد تُعد إشكالية خطيرة، لأنها تُضعف من فرص الإصلاح وتُهدد حق التعبير المهني، في وقت تحتاج فيه سوريا إلى كل صوت صادق يسعى لتصويب المسار.
-
هل فعلًا تخلصنا من اقتصاد السوق الاجتماعي ودخلنا مرحلة اقتصاد السوق الحر؟
في الواقع، لا يمكن القول إن سوريا انتقلت فعليًا إلى اقتصاد السوق الحر. نحن لا نزال نحاول الخروج من اقتصاد الحرب، بكل ما يحمله من عقوبات دولية وعلاقات استغلالية تُضعف البنية الإنتاجية وتستنزف موارد الدولة.
ومن المهم الإشارة إلى أن نظام الأسد أنهى فعليًا نموذج اقتصاد السوق الاجتماعي منذ عام 2008، عندما تبنّى ما يُعرف بوصفة عبد الله الدردري ومحمد الحسين، والتي أخرجت الاقتصاد السوري من مساره التوازني.
اقتصاد السوق الاجتماعي، الذي يمكن وصفه بـ”الرأسمالية العقلانية”، يقوم على مبدأ التوازن بين آليات السوق ودور الدولة في حماية الفئات المتوسطة والفقيرة وتعزيز القوة الشرائية. هذا النموذج كان من شأنه أن يشكّل قاعدة صلبة لجذب الاستثمارات، لأن المستثمر يبحث عن بيئة مستقرة، وعدالة في توزيع الفرص، وقوة شرائية حقيقية لدى المواطنين.
أما ما يحدث اليوم، فهو محاولة لتطبيق نموذج اقتصاد السوق الحر، لكن عبر “الصدمة” لا عبر بناء تدريجي يستند إلى شروطه الأساسية: منافسة حقيقية، محاربة فعالة للفساد، شفافية، وبنية قانونية واضحة تحمي المستثمر والمستهلك على حد سواء. هذه الشروط غائبة تمامًا، ما يجعل النموذج المطبّق أقرب إلى فوضى اقتصادية منه إلى سوق حر.
نعيش اليوم في اقتصاد قائم على الشعارات والقرارات المزاجية، تغيب عنه الحوكمة، وتُهيمن عليه شبكات مصالح غير رسمية. بالتالي، دخلنا فعليًا في مرحلة “اللا نموذج”، أو ما يمكن تسميته بـ”اقتصاد الظل”، وهو في الحقيقة الاسم المُلطّف للفساد. وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 70% من النشاط الاقتصادي يتم خارج الأطر الرسمية، دون رقابة أو مساءلة، وهو ما يُعد الأخطر على الإطلاق.
لذلك، فإن التعويل على اقتصاد السوق الحر لتغيير الواقع الاقتصادي نحو الأفضل يبقى وهمًا ما لم تُنفذ إصلاحات حقيقية. وكل يوم يمر دون معالجة هذا التوجه، ترتفع فيه فاتورة الإصلاح، وتزداد فيه صعوبة استعادة التوازن الاقتصادي، ما يُهدد مستقبل البلاد ويُعمّق أزمتها البنيوية.
-
دائما تكتب عن تداخل المهام في الحكومة الحالية.. لماذا يحدث ذلك؟ وكيف يمكن تطبيق محددات تجنب الوزارات والمؤسسات الحكومية هذا التداخل؟
تداخل المهام الحكومية ليس خللًا إداريًا فحسب، بل هو نتيجة غياب رؤية اقتصادية واضحة، ما يعني غياب هدف محدد. كما أن رؤية الآخر باعتباره غير جديد في منصبه ومهامه تُفضي إلى غياب التناغم الحكومي اللازم لتحقيق هذا الهدف.
نلاحظ غيابًا في وضوح الصلاحيات الممنوحة لكل وظيفة حكومية، وضعفًا في الخبرات، وتزايدًا في المسؤوليات، إلى جانب السعي لتحقيق نجاحات شخصية ضمن نمط “الوصاية”، وهي سمة منتشرة حاليًا.
تسود حالة من الضبابية، وحدود متشابكة بالصلاحيات حتى على مستوى الوزارات، وأنماط مزاجية ووصائية في طريقة اتخاذ القرارات الحكومية، ما يؤدي إلى تداخل واضح في المهام بين الجهات المختلفة.
ولتفادي هذه الفوضى الإدارية والاقتصادية، يجب تطبيق مفهوم العدالة الانتقالية، الذي من شأنه أن يخلق استقرارًا مجتمعيًا، ويُجنّب الاقتصاد التذبذبات الحادة التي باتت سمة واضحة فيه.
البلد بحاجة إلى سلطة قانونية مستقلة وحقيقية تمنح السوريين الاستقرار، وتعزز ثقتهم بمؤسسات الدولة، وتضبط حالات التمادي في استخدام السلطة.
كما أن تبسيط الإجراءات الحكومية يُعد خطوة ضرورية لضبط الفوضى الإدارية. فعلى سبيل المثال، كانت خطة دمج الوزارات مربكة، وأسهمت في تعقيد المهام وعدم وضوحها، بدلًا من توحيدها وتسهيلها.
- ماذا عن الملفات التي تهم المواطن السوري حاليًا مثل الكهرباء والمياه والرواتب ومكافحة البطالة؟ هل برأيك سنشهد انفراجة في هذه الملفات؟
لا أعتقد أن هناك انفراجة قريبة في هذه الملفات. حتى الزيادات الأخيرة على الرواتب جاءت مشابهة للزيادات السابقة التي كانت تحدث زمن بشار الأسد الساقط على سبيل المثال، مثل رفع أسعار الخبز ثم الكهرباء في 2024، ما يعكس نمطًا متكررًا في السلوك الحكومي. وهذا النمط هو أحد الأسباب التي تدفع المواطن والخبير على السواء إلى الاعتقاد بعدم وجود تغيير حقيقي في السياسات، وأن التضخم مستمر في التهام الاقتصاد لصالح طبقة اقتصادية جديدة تتشكل على أنقاض سابقتها.
فيما يتعلق بملف المياه، فهو يواجه أزمة حقيقية يمكن تصنيفها ضمن الإطار الجيوسياسي، حيث يُعد التأثير التركي العامل الأكبر في هذه الأزمة. كما أن القرار الإداري الذي اتخذه وزير الطاقة بالسماح بتجارة المياه وفتح المجال لحفر الآبار يُعد تجاوزًا للصلاحيات، وقرارًا غير مدروس بما يكفي من الناحية الفنية والبيئية.
أما البطالة، فهي للأسف لا تزال عند مستويات مرتفعة جدًا، خاصة بعد تحرير أسعار حوامل الطاقة، ما أدى إلى إغلاق العديد من المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وزاد من تعقيد المشهد الاقتصادي.
وفي المقابل، تشهد الكهرباء تحسنًا نسبيًا بعدد ساعات التغذية، لكن ليس كبيرًا. وسيكون مرتبطًا بتحول القطاع إلى الملكية الخاصة، وهو ما يترافق مع استمرار ارتفاع فواتير الأسعار. وهنا تكمن الإشكالية، إذ إن الخصخصة في بلد يعاني من عدم الاستقرار الأمني والاقتصادي تُعد شكلًا من أشكال النهب المنظم، وتُبقي الاقتصاد محاصرًا في دائرة العنف السياسي، الذي يتمحور حول الصراع على الثروات.
- ما ملاحظاتك على مذكرات التفاهم والاتفاقيات التي وقعتها سوريا الجديدة؟
معظم هذه التفاهمات تمت بالتراضي ما يعني أنها لم تحظ بشفافية كبيرة. لا توجد آليات ومحددات واضحة للتنفيذ ولا نعرف المدة الممنوحة لهذه الاستثمارات ولا شروط العمل أو الدراسات المقدمة. وغياب الشفافية والمعطيات المعلنة الواضحة يفتح بوابة لاقتصاد الظل والتلاعب.
- في ظل ما كشفته أكثر من مرة حول وجود فريق يتحكم بالاقتصاد والسياسة النقدية خلف الكواليس.. هل سوريا إذن تسير نحو أوليغارشية جديدة؟
هناك مستفيدون سيحوزون على مكاسب ضخمة من توجه الحكومة نحو الخصخصة ما سيوجد لدينا طبقة من القطط السمان. نحن نسير طبعًا نحو الأوليغارشية جديدة تتقاطع في بعض ملامحها مع الماضي.
-
ما توصياتك لتجاوز البلاد هذه الأزمات الاقتصادية التي تمر بها؟
أهم ما يحتاج الاقتصاد لتجاوز الأزمة خلق بيئة قانونية حقيقية، بالإضافة إلى إصلاح السياسات النقدية والمالية، وتشجيع الاستثمار المحلي قبل العمل على جذب الاستثمارات الخارجية لأنه سوف يدعم الاستقرار والسلم الأهلي ويبعد المجتمع عن التشبث بالسلاح.
أما أهم التوصيات، فهي المحافظة على مؤسسات الدولة التي يعني حلها وتفكيكها دخول البلد في مرحلة الفوضى والفساد.
المصدر: الترا سوريا.

