الرئيسية » صندوق النقد الدولي بين لغة المديح ورسائل الوصاية على الاقتصاد السوري

صندوق النقد الدولي بين لغة المديح ورسائل الوصاية على الاقتصاد السوري

بواسطة Younes

يشكّل تقرير صندوق النقد الدولي الأخير حول سوريا محطة لافتة، ليس فقط لأنه يأتي بعد قطيعة طويلة مع المؤسسات المالية الدولية، بل لأنه يعكس ازدواجية لافتة في الخطاب: لغة مديح دبلوماسي في الشكل، ورسائل وصاية وتحذير في المضمون. وهذه الازدواجية ليست جديدة في خطاب المؤسسات المالية الدولية، لكنها في الحالة السورية تحمل دلالات مضاعفة تتجاوز الاقتصاد إلى السياسة، وإلى مستقبل علاقة دمشق مع النظام المالي العالمي.

لقد أدّت سياسة الإغراق الحكومي داخل سوريا — عبر سيل متواصل من البيانات الرسمية، والتصريحات التفاؤلية، والحملة الدعائية المستندة إلى “الذباب الإلكتروني” — إلى خلق وهم بأن كل مواطن يملك تفسيراً كاملاً للواقع الاقتصادي. والحقيقة أن ما يمتلكه أي فرد هو جزء مجتزأ، محدود، وموجّه وفق ما تسمح به السلطات. ومن هذا السيل تتولد موجة مديح لا تنقطع، تمتد من وزارة المالية، إلى بعض الاقتصاديين والسياسيين، وصولاً إلى من يبحثون عن راتب ضئيل يكفي للبقاء على قيد الحياة.

في هذا السياق، أثار التقرير الأخير لصندوق النقد الدولي استغرابي، لأن الطريقة التي روّجت فيها الجهات الرسمية لمضمونه بدت منفصلة تماماً عن الرسائل الحقيقية التي يحملها. فبينما استثمرت الحكومة لغة الافتتاح في التقرير بوصفها “إشادة دولية بالأداء الاقتصادي”، جاءت القراءة المتعمقة لتكشف شيئاً مختلفاً تماماً.

يبدأ التقرير بعبارات دبلوماسية:“يظهر الاقتصاد السوري بوادر تعافٍ… الاستقرار الاقتصادي والمالي

هذه الجملة ليست سوى صيغة بروتوكولية تُستخدم عادة لفتح باب التواصل، لكنها تحمل جانباً من الحقيقة من حيث استمرار المؤسسات الحكومية والخاصة في تقديم خدماتها بعد تفكك بنية الدولة وسقوط فعالية النظام، وذلك بغضّ النظر عن السياسات المتّبعة التي بدأت تُثقل كاهل المواطن. وهذا ما يفسّر استخدام توصيف “الاستقرار” رغم هشاشته.

لكن التقرير لم يكتفِ بهذا المديح الافتتاحي، بل انتقل مباشرة إلى توجيه رسائل جادة وتنبيهية للحكومة السورية، في محاولة لمنع مؤسسات الدولة من الانزلاق نحو مزيد من الضعف أو التحوّل إلى هياكل شكلية بالكامل. فالمؤسسات السورية ما تزال قائمة بالحد الأدنى، وتقوم ببعض وظائفها، على الرغم من الانهيار العميق الذي يعيشه الاقتصاد، وهو ما دفع الصندوق إلى إطلاق تحذيرات واضحة بشأن ضرورة إنقاذ ما تبقى من البنية المؤسسية.

لكن بعد هذه المجاملة، ينتقل الصندوق مباشرة إلى الرسائل الجوهرية:

1. الدعوة إلى تنفيذ موازنة 2026 عبر حكومة فاعلة وبرلمان فعلي في اشارة الى تعطلهما:

وهذه إشارة واضحة إلى أن المؤسسات التشريعية والتنفيذية في سوريا معطّلة عملياً، وإلا لما دعا الصندوق إلى “تفعيل دورها”.

2. مطلب تلبية الاحتياجات الأساسية للسكان:

ويمثّل هذا المطلب تحذيراً صريحاً من احتمال اندلاع انفجار اجتماعي في حال استمرار الحكومة في اتباع سياساتها الاقتصادية المتوحشة. ففي هذا الإطار، يدعو الصندوق إلى توسيع الحيّز المالي بما يسمح بتلبية الاحتياجات الأساسية، وتقديم دعم فعّال للقطاعات الاجتماعية، وحماية الشرائح الأكثر هشاشة.
ويشير التقرير ضمناً إلى أن السياسات الحالية تقترب بشكل خطير من تطبيق نسخ قاسية من “مدرسة شيكاغو” في اقتصاد هشّ ومُدمَّر، وهو نموذج أثبتت التجارب في روسيا وأمريكا اللاتينية وعدد كبير من الدول أنه يؤدي إلى اضطرابات اجتماعية واسعة عندما يُفرض في بيئات منهارة وغير مستقرة

 3. رفض الإعفاءات الضريبية غير المدروسة :

التي تتوسع بها الوزارة المالية بحجة جذب الاستثمارات  وقد ربطه بالتذكير  حجم ديون ، مما يرسل رسائل للخبراء ان حجم الديون  أكبر بكثير مما تعلنه الحكومة، بما في ذلك الديون لروسيا وإيران. هذه النقطة وحدها كافية لإخافة أي مستثمر  سواء شركة او مؤسسة او دولة يفكر في دخول السوق السورية.

 4. الدعوة إلى الحوكمة الرشيدة:

وهذه العبارة تُعدّ صيغة مخففة تخفي وراءها حكماً واضحاً بفشل الإجراءات التي اتبعتها الحكومة الحالية، إذ تعني عملياً الدعوة إلى إعادة هيكلة شاملة للمؤسسات الحكومية، وضبط شبكات الفساد التي باتت تتحكم بأنشطتها، وربما إعادة ترتيب مراكز النفوذ الاقتصادي أو الإطاحة ببعضها.

ثم يعرض الصندوق ما يمكن تسميته خطة وصاية مالية غير معلنة، تشمل:

  • تعديل القوانين المالية حيث ذكر صراحة الى رفض سياسة الاعفاءات المالية التي تفتخر ها الوزارة المالية و القوانين التي تصدرها  .

  • إعادة تأهيل القطاع المصرفي مما يعني ان السياسات النقدية تعاني الاخرى من فشل .

  • تمكين المصرف المركزي من إدارة السياسة النقدية وهذا الدعوة الى استقلالية .

  • تطوير نظام المدفوعات.

  • تحسين الإشراف المالي.

وينتقد الصندوق غياب البيانات الاقتصادية الموثوقة بشكل حاد، معتبراً أن التخطيط الراهن لا يستند إلى أي قاعدة علمية صلبة. ويؤكد التقرير أن توفر البيانات الدقيقة شرط أساسي لوضع السياسات ومتابعتها، رابطاً ذلك مباشرة بـ مشاورات المادة الرابعة التي تُعد المعيار الدولي لشفافية الدول وقدرتها على إدارة اقتصادها. ويشير استئناف هذه المشاورات إلى محاولة لإعادة دمج سوريا — تدريجياً — في النظام المالي الدولي، ولكن وفق شروط صارمة يضعها الصندوق.

وفي ختام التقرير، يعود الصندوق إلى لغته الدبلوماسية المعتادة، مشيداً بـ “النقاشات البنّاءة وحفاوة الاستقبال”، وهي صياغة بروتوكولية تُستخدم عادة للحفاظ على قنوات التواصل مفتوحة.

كما لم يفت التقرير أن يوجّه رسالة مزدوجة تجمع بين المديح والتنبيه، مفادها أن إعادة اندماج سوريا تدريجياً في الاقتصادين الإقليمي والدولي، ورفع العقوبات، وعودة أكثر من مليون لاجئ، كلها مشروطة بقدرة الحكومة السورية على الالتزام الحرفي بتوصيات الصندوق لضمان تحقيق الاستقرار الاقتصادي والمالي الكلي.

مقالات ذات صلة