الرئيسية » واشنطن في دمشق: مكافحة الإرهاب أم لعبة النفوذ الكبرى؟
واشنطن في دمشق

واشنطن في دمشق: مكافحة الإرهاب أم لعبة النفوذ الكبرى؟

بواسطة Younes

على الرغم من أن الضربات العسكرية الأميركية ضد تنظيم داعش داخل الأراضي السورية لم تتوقف خلال السنوات الماضية، فإن العملية الأخيرة تحمل طابعًا استثنائيًا لما تمثّله من تغيير في قواعد الاشتباك. فهذه المرة، تجري الضربات في محيط العاصمة دمشق ضمن هندسة سياسية جديدة، وليست مجرد عملية أمنية منفصلة أو ضربة جوية معتادة.

فالعمليات في دمشق وريفها ترافقت مع تصريحات رسمية لوزارة الداخلية السورية حول مداهمات موسعة في عدة محافظات سورية. هذا التزامن لم يكن مصادفة، بل جاء في لحظة إقليمية تعيد رسم التوازنات، وفي سياق سياسي حساس، وسط مؤشرات على محاولة واشنطن ودمشق اختبار نمط جديد من التنسيق الأمني، ولو كان محدودًا وظرفيًا.

ومنذ عام 2018 اعتمدت الولايات المتحدة استراتيجية تقوم على الضربات الدقيقة والوحدات الخاصة ضد داعش، دون الدخول في ترتيبات مباشرة مع مؤسسات الدولة في دمشق. أما اليوم، فتبدو المعادلة مختلفة:

هل تغيّرت قواعد اللعبة؟ أم أن الضرورة الأمنية فرضت صيغة تعاون مؤقتة؟

ما قبل العملية: تحولات عميقة أعادت تشكيل المشهد الإقليمي

لم يأت هذا التحرك الأمني في فراغ، بل في بيئة شهدت تحولات مركزية في السنوات الأخيرة منها:

  •  تراجع الدور الروسي المباشر في سوريا بفعل الحرب في أوكرانيا وانشغال موسكو بأولويات أخرى.
  •  إعادة إحياء التدخل الأميركي المرن عبر ضربات نوعية ودعم الشركاء المحليين.
  • اتساع التفاهمات الأمنية بين دول عربية وتركيا وإيران حول ملفات التهريب والمخدرات وضبط الحدود.

هذا السياق خلق فراغًا أمنيًا في اماكن كثيرة في  جغرافيا السورية، ففتح الباب لظهور شبكات تهريب ومجموعات مسلحة محلية تمددت على حساب التنظيمات المركزية التي حكمت تلك المناطق سابقًا: من داعش وجبهة النصرة، ثم قسد، وصولًا إلى المليشيات المدعومة من إيران.

لماذا تحضر المخدرات في كل مشهد أمني في سوريا؟

ظهور المخدرات والأسلحة في المواقع المستهدفة ليس تفصيلاً ثانويًا. فسوريا اليوم تحوّلت إلى نموذج معقد لاقتصاد الحرب، حيث تراجعت سلطة الدولة في الأطراف، وتفككت الفصائل التقليدية، وصعدت شبكات تهريب عابرة للحدود ، ولم تعد تجارة المخدرات مجرد نشاط غير قانوني، فلم تعد تحتاج الى تمويل خارجي، بل أصبحت منظومة تمويل كاملة  مغلقة  تشترك فيها:

    •  مجموعات مسلحة محلية.
    • شبكات تهريب ميدانية ولوجستية.
    • فلول داعش تحوّلت من تنظيم أيديولوجي إلى لاعب اقتصادي، عبر تكتيكات جديدة تتيح لها التعاون مع متشددين إسلاميين وجماعات غير راضية عن التحولات السياسية الحالية، مستفيدة من الفراغ الأمني والانقسامات المحلية.
    • شبكات تعمل بالتوازي مع أجهزة أمنية أو بتسهيلات منها.

ومن هنا، لم تعد أي حملة أمنية تُقرأ على أنها مجرد استهداف لداعش لمكافحة الارهاب في اطار التقليدي، بل على أنها جزء من صراع على مصادر التمويل والسلطة والنفوذ.

تفاصيل العملية: ما الذي حدث فعليًا؟

أعلنت القيادة المركزية الأميركية (سنتكوم) مساء الأحد عن تدمير أكثر من 15 موقعًا لتنظيم داعش بالتعاون مع وزارة الداخلية السورية في جنوب البلاد. امتدت العملية بين 24 و27 نوفمبر/تشرين الثاني، وشارك فيها عناصر من قوة المهام المشتركة مع وحدات سورية لتحديد مخازن التنظيم في مناطق ريف دمشق، قبل تنفيذ ضربات جوية وتفجيرات ميدانية استهدفت هذه المواقع.

ووفقًا للبيان الرسمي، أسفرت العملية عن تدمير:

  •  130 قذيفة هاون وصاروخ.
  •  ألغام مضادة للدروع ومواد متفجرة.
  •  أسلحة خفيفة ومتوسطة.
  •  بالإضافة إلى إتلاف كميات من المخدرات.

وقال قائد القيادة المركزية الأميركية الأدميرال “براد كوبر”  إن العملية “تضمن استمرار المكاسب ضد داعش ومنع التنظيم من إعادة تجميع صفوفه أو تصدير الهجمات الإرهابية إلى الولايات المتحدة أو بقية العالم”. وأكد أن القيادة المركزية منذ عام 2014 تعمل على تمكين القوات الشريكة ضد التنظيم.

خطوات الحكومة كشريك رسمي ضد داعش

نفذت الحكومة السورية في 8 نوفمبر/تشرين الثاني حملة وقائية واسعة ضد شبكات مرتبطة بما يُعرف بداعش. وأوضح المتحدث باسم وزارة الداخلية، نور الدين البابا، أن الهدف كان “تحييد الخطر قبل أن يبدأ”، مستندًا إلى معلومات استخباراتية تفيد بنية التنظيم تنفيذ عمليات جديدة. وشملت الحملة:

  • 61 مداهمة أمنية في ثماني محافظات: حلب، إدلب، حماة، حمص، دير الزور، الرقة، دمشق وريفها، والبادية السورية.

  • 71 عملية اعتقال، شملت قيادات ميدانية وعناصر متورطة في هجمات سابقة.

ومع ذلك، تشير المعلومات الواردة من مصادر خاصة مقربة من وزارة الداخلية إلى أن طبيعة هذا التحرك لم تقتصر على مواجهة داعش بشكل رئيسي ، بل استهدفت   فلول معارضة للنظام الاسد الساقط، وأجزاء من شبكات التمويل والتهريب المخدارت ، ما يجعل العملية جزءًا من إعادة ضبط النفوذ الداخلي أكثر منها مجرد حملة ضد الإرهاب.

التصعيد ضد داعش: ما الذي تغير ولماذا يحدث الآن؟

دأ التصعيد ضد داعش يتزايد بوتيرة متسارعة، متجاوزًا في بعض الأحيان ملفات داخلية أخرى ذات أهمية مماثلة بالنسبة للحكومة السورية، وهو ما يفتح الباب أمام سيناريوهين رئيسيين لفهم دوافع هذا التصعيد:

 1.تعاون اضطراري فرضته الحسابات الأمنية

باتت مكافحة الشبكات المسلحة وعمليات التهريب أولوية مشتركة تتجاوز الخلاف السياسي بين دمشق وواشنطن، لا سيما بعد تصاعد الانتقادات الشعبية والدولية التي رأت في هذه الشبكات مقدمة لحرب أهلية قد تهدد استقرار سوريا واستقرار السلطة. وتعتبر الحكومة السورية أن إعادة ضبط هذه الشبكات ضرورة لإعادة ترتيب ولاءاتها لصالح الدولة، في إطار خطة بديلة لتعويض محدودية الانفتاح الدولي الاقتصادي، بما يمكنها من تأمين السيولة. كما أن شبكات التهريب أصبحت جزءًا من أدوات التفاوض في الملفات الدولية، ما يجعل السيطرة عليها مسألة استراتيجية تتقاطع فيها الأمن بالاقتصاد والسياسة الخارجية.

 2.بداية ترتيبات أكبر لإعادة التموضع في الشرق الأوسط

بعد تراجع النفوذ الروسي في سوريا نتيجة تداعيات الحرب الداخلية والصدامات الإقليمية المستمرة، وانحسار النفوذ الإيراني جزئيًا، رأت واشنطن فرصة لإعادة ترتيب المنطقة لصالحها. تهدف هذه الخطوة الاستباقية إلى منع أي تمدد محتمل للنفوذ الصيني، إعادة ضبط النفوذ الروسي، والسيطرة على ما تبقى من تنظيم داعش. في هذا السياق، يبدو أن التعاون بين دمشق وواشنطن لم يعد يقتصر على مكافحة داعش فقط، بل أصبح جزءًا من استراتيجية أوسع لإعادة رسم خريطة النفوذ في الشرق الأوسط.

 التعاون بين دمشق و واشنطن يبدو انه يتجاوز داعش .

ما وراء داعش: صراع على السوق السوداء

التنظيم لم يكن تاريخيًا يصنّع المخدرات، بل كان يسهل عبورها مقابل رسوم أو كجزء من استراتيجيته في إنهاك الخصوم. تصنيع المخدرات يحتاج إلى مختبرات ومعامل ومصادر مواد، وهو ما يبدو مستبعدًا في فترة زمنية قصيرة داخل محيط العاصمة دمشق التي شهدت سيطرة أمنية كثيفة.

الأرجح أن ما يجري هو استهداف لمنظومة تهريب أكبر وأكثر تعقيدًا، وربما عملية “تنظيف” لمحيط العاصمة من لاعبين لم يعد وجودهم مرغوبًا فيه، خاصة مع اتهامات سابقة بتورط شخصيات مقربة من النظام في شبكات المخدرات.

لا يمكن قراءة هذه العملية على أنها مجرد ضربة أمنية، فهي تمثل نموذجًا جديدًا للحرب على الإرهاب واختبارًا لصياغة تفاهمات استراتيجية في سوريا. فهي تعكس تلاقي مصالح مزدوجة: الولايات المتحدة تسعى لتثبيت نفوذ مستدام دون تورط بري، بينما تعمل دمشق على إعادة رسم الخريطة الأمنية والاقتصادية داخل الأسواق غير الشرعية. في الوقت نفسه، تحولت خلايا داعش إلى لاعبين يجمعون بين النشاط الإجرامي والتمويل الموازي، وأصبحت شبكات التهريب أدوات رئيسية للنفوذ والسيطرة. وعندما تتقاطع هذه العوامل، تتحول الحرب على الإرهاب من مجرد حملة أمنية محدودة إلى منصة لإعادة ترتيب النفوذ في الشرق الأوسط، مع ما يترتب على ذلك من آثار سياسية واقتصادية طويلة المدى.

مقالات ذات صلة