الرئيسية » اللاجئون كورقة ضغط: كيف تعيد سوريا تشكيل العلاقة مع أوروبا؟
لقاء وزير الخارجية السوري مع نظيره الدنماركي

اللاجئون كورقة ضغط: كيف تعيد سوريا تشكيل العلاقة مع أوروبا؟

مفاوضات في الظل: ماذا يجري بين الشيباني وراسموسن

بواسطة Younes

منذ انهيار منظومة حكم الأسد ودخول سوريا مرحلة إعادة تشكيل مؤسساتها السياسية، أضحت دمشق محطة متكررة للوفود الأوروبية التي لا تحمل معها سوى ملف اللاجئين السوريين. هذا الملف، الذي وُلد من كارثة إنسانية ممتدة، لم يعد يُقارب من منظور حقوقي أو إنساني صرف، بل تحوّل تدريجياً إلى ورقة انتخابية تستثمرها الحكومات الأوروبية في مواجهة صعود اليمين المتطرف وتزايد الضغوط الاجتماعية والاقتصادية. وبدلاً من التوجّه نحو معالجة الأسباب العميقة للأزمة السورية، بات التركيز الأوروبي ينصبّ على إعادة اللاجئين بأي وسيلة، حتى وإن كانت الحلول المقترحة مؤقتة أو قاصرة عن توفير شروط عودة آمنة ومستدامة.

وفي خضم التحولات الدولية المتسارعة، شهد الملف السوري ارتباكًا واضحًا في المقاربة الأمريكية التي تذبذبت أولوياتها وتضاربت سياستها تجاه سوريا، ما أوجد فراغًا سياسيًا استغلّته الحكومة السورية الانتقالية لإعادة توظيف معادلة اللجوء لصالحها. فقد أدركت دمشق أن العواصم الأوروبية تبحث عن مخارج سريعة تخفّف أعباءها الداخلية، لا سيما مع تنامي الخطاب الشعبوي المعادي لوجود اللاجئين، الأمر الذي منحها هامشًا تفاوضيًا متقدمًا.

وانطلاقًا من ذلك، اعتمدت السياسة السورية مقاربة تقوم على تدويل ورقة اللاجئين وتحويلها إلى أصل تفاوضي ذي قيمة سياسية واقتصادية، وربط أي عملية لإعادة اللاجئين بتنازلات أوروبية واضحة، تشمل رفع العقوبات، والإفراج عن الأموال المجمدة، والانخراط في مشاريع إعادة الإعمار. وهكذا لم تعد العلاقة بين الطرفين قائمة على الاستجابة الإنسانية، بل انتقلت إلى معادلة تبادل مصالح ومساومة سياسية، ضمن مسعى أوسع لاستعادة الحضور السوري إقليميًا وتثبيت شرعية الدولة على الساحة الدولية.

اعتمدت السياسة السورية مقاربة تقوم على تدويل ورقة اللاجئين وتحويلها إلى أصل تفاوضي ذي قيمة سياسية واقتصادية، وربط أي عملية لإعادة اللاجئين بتنازلات أوروبية واضحة

اللاجئون في ميزان البراغماتية الانتخابية الأوروبية

تجد الدول الأوروبية نفسها اليوم مقيدة بإطار قانوني وأخلاقي يرتكز على مبادئ حقوق الإنسان وحماية اللاجئين، في وقت تتزايد فيه الضغوط الاقتصادية والأمنية داخل مجتمعاتها. وبين هذه الالتزامات وتحديات الواقع السياسي، تحاول الحكومات الأوروبية الالتفاف على تلك المنظومة القانونية لإيجاد حلول سريعة تخفف الاحتقان الشعبي وتصاعد الخطابات اليمينية المناهضة للاجئين. ورغم إدراكها العميق بأن الظروف السورية لا تزال بعيدة عن توفير بيئة آمنة للعودة، إلا أنها مضطرة — بفعل تلك الضغوط — إلى التعامل مع تدفقات جديدة من الفارين من الصراع.

في المقابل، أحسنت الحكومة السورية الانتقالية قراءة هذا التحول في المزاج الأوروبي، فعملت على توظيفه دبلوماسيًا وإعلاميًا عبر فتح قنوات تواصل مع وفود أوروبية وتقديم مشهد محسّن عن الواقع الداخلي. وقد سعت من خلال ذلك إلى إرسال رسائل واضحة مفادها أن سوريا باتت جاهزة لاستقبال أبنائها، الأمر الذي دفع عدة عواصم أوروبية إلى الدخول في مسار من الاتصالات والمفاوضات السياسية.

وقد ظهرت انعكاسات هذه المقاربة في التحوّل الملحوظ في الخطاب الأوروبي؛ إذ تراجعت الانتقادات الصارمة للانتهاكات والمجازر داخل سوريا، لتحل مكانها لغة أكثر ليونة وبراغماتية، تُغَلِّبُ منطق المصالح الانتخابية والسياسية على المبادئ التي طالما رُفعت كشعارات للدفاع عن حقوق الإنسان.

الدنمارك في قلب المشهد السوري–الأوروبي

تستضيف الدنمارك نحو 35 ألف لاجئ سوري، تمثل نسبتهم نحو 90% من إجمالي اللاجئين السوريين على أراضيها. ورغم أن هذا الرقم ليس ضخماً مقارنة بدول أوروبية أخرى، ولا حتى بالنظر إلى عدد سكان الدنمارك ومساحتها، فإن زيارة وزير خارجيتها إلى دمشق جاءت في إطار سياسة أوروبية أوسع، حيث يمكن لأي خطوة تتخذها دولة عضو أن تتحوّل إلى نموذج يُحتذى ويُطبق لاحقًا على جميع الدول الأعضاء وعلى مختلف ملفات اللاجئين.

وقد انعقد اللقاء في دمشق بتاريخ 29 تشرين الثاني/نوفمبر 2025 بين وزير الخارجية السوري أسعد حسن الشيباني ونظيره الدنماركي لارس لوك راسموسن، ليكون أكثر من مجرد اجتماع حول قضية اللاجئين. فقد شكّل هذا اللقاء منصة لتبادل شروط سياسية واقتصادية عميقة، ما يعكس سعي الطرفين إلى توسيع نطاق المفاوضات ودمج الملف السوري ضمن دائرة أوسع من المصالح المشتركة، بعيدًا عن الطابع الإنساني البحت الذي هيمن لفترة طويلة على النقاش الأوروبي–السوري.

المطالب السورية: اللاجئون مقابل الأصول والعقوبات

وضعت الحكومة السورية الانتقالية حزمة من الشروط الواضحة قبل أي تعاون أوروبي يتعلق بملف اللاجئين، حيث ربطت العودة المحتملة للأفراد بمطالب سياسية واقتصادية محددة، أبرزها:

  • الإفراج عن الأموال السورية المجمدة في المصارف الأوروبية، بهدف توفير موارد تمويلية تعزز قدرة الدولة على إعادة الإعمار، دفع الرواتب، وتنشيط الاقتصاد المحلي.
  • تسليم أصول عائلة الأسد المقدرة بملياري يورو وسبائك ذهب، كدفعة أولى قبل الانتهاء من حصرها وكشفها عبر الوثائق الاستخباراتية المتبقية، ضمن تسوية مالية تهدف إلى إعادة جزء من الثروة الوطنية المتجمدة خارج البلاد.
  • تشكيل لجنة مشتركة لملاحقة أصول النخب السابقة،  وتسليمها لها ما يعكس رغبة دمشق في استعادة السيطرة على الموارد الاقتصادية وإعادة توزيعها وفق خططها.
  • إنشاء صندوق أوروبي لدعم إعادة الإعمار والبنية التحتية، لضمان مشاركة دولية في مشاريع إعادة البناء، ويعزز خطاب دمشق الدولي بأنها نجحت في إعادة رسم حدودها السيادية.
  • رفع العقوبات المفروضة في أيار/مايو 2025، كخطوة أساسية لإعادة سوريا إلى دائرة التعاون الاقتصادي والدبلوماسي مع الغرب، حيث ابقى لاتحاد الاوربي بعض العقوبات  بالجانب الأمني والعسكري، مثل الأسلحة، تكنولوجيا القمع، وحماية التراث الثقافي، ليضمن الحد الأدنى من الضمانات المتعلقة بحقوق الإنسان ويمنع إعادة إنتاج نظام القمع السابق.
  • ا الضغط على قوات سوريا الديمقراطية لتنفيذ اتفاق آذار/مارس 2025، مع التأكيد على رفض أي مشروع لإقامة كيان كردي في شمال شرق سوريا، ومنع دعمه إعلاميًا أو ماديًا.
  • الضغط على إسرائيل للانسحاب من الأراضي السورية المحتلة، مع تعزيز الدور الأوروبي في رعاية محادثات السلام لضمان تسوية إقليمية شاملة ومستقرة.

تظهر هذه المطالب بوضوح أن دمشق لم تعد تعتبر ملف اللاجئين قضية إنسانية فحسب، بل أصبح أداة تفاوضية متعددة الأبعاد، تربط بين الاقتصاد، السياسة الداخلية، والاستقرار الإقليمي، في محاولة لتحويل الضغط الأوروبي إلى مكاسب استراتيجية ملموسة.

البعد الاقتصادي والدبلوماسي: اللاجئون أداة تفاوضية متعددة الأبعاد

يتجاوز اللقاء الأوروبي–السوري مسألة اللاجئين لتشكيل منصة اقتصادية ودبلوماسية استراتيجية، حيث تحاول دمشق استثمار موقفها التفاوضي لتعزيز مصالحها الداخلية والخارجية. ويظهر هذا بوضوح في المبادرات التالية:

_إطلاق مجلس أعمال سوري–دنماركي، الذي يُعد خطوة أولى لإعادة تنشيط العلاقات الاقتصادية الثنائية وفتح قنوات للتعاون في الاستثمار والتجارة، ما يمنح الشركات الأوروبية فرصًا جديدة في سوريا.

_استعادة التمثيل الدبلوماسي الكامل بين البلدين، والذي يمكن أن يفتح الباب أمام مشاريع استثمارية أوروبية في مجالات البنية التحتية والطاقة والنقل، ويمنح الحكومة السورية قدرة أكبر على استقطاب التمويل الخارجي لإعادة الإعمار.

_تحويل ملف اللاجئين إلى عملة تفاوضية، حيث أصبح هذا الملف أداة تستخدمها دمشق لربط التعاون الاقتصادي والسياسي بمكاسب ملموسة، مثل الإفراج عن الأصول المجمدة ورفع العقوبات، مما يعكس تحوّل الضغط الأوروبي الداخلي إلى فرصة مالية وسياسية.
_توسيع دائرة المفاوضات لتشمل الملفات الإقليمية، بما في ذلك القضايا الكردية والإسرائيلية، ما يعكس رغبة دمشق في ضمان حلول سياسية أوسع وتأمين مصالحها الاستراتيجية داخل سوريا وخارجها.

من خلال هذه المقاربة، يتضح أن ملف اللاجئين لم يعد عبئًا إنسانيًا فحسب، بل أصبح رافعة مالية ودبلوماسية، تسمح للحكومة السورية بتحويل الضغوط الأوروبية إلى أدوات استقرار داخلي، واستعادة موقعها في الخارطة الإقليمية والدولية، وفي الوقت نفسه اختبار مدى استعداد أوروبا لتقديم تنازلات مالية وسياسية مقابل تسوية ملف اللاجئين.

 لم يكن لقاء دمشق مجرد اجتماع بروتوكولي، بل شكّل اختبارًا لقدرة الحكومة السورية على تحويل ملف اللاجئين إلى أداة تفاوضية متعددة الأبعاد. في المقابل، قد تجد أوروبا، المنشغلة بانتخاباتها الداخلية، نفسها مضطرة لتقديم تنازلات مالية وسياسية، بينما تسعى دمشق إلى تثبيت شرعيتها واستعادة مكانتها على الخريطة الإقليمية والدولية.

مقالات ذات صلة