علن الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي مؤخرًا عن إنهاء برنامج التشديد الكمي، وهو البرنامج الذي كان يقوم على سحب السيولة من الأسواق عبر تجميد الأموال في القنوات المصرفية ورفع معدلات الفائدة، بهدف كبح التضخم وضبط حركة الاقتصاد. ومع هذا القرار، يبدأ مسار معاكس يتمثل في تحرير تلك الأموال وإعادة ضخها في الأسواق، بالتوازي مع خفض أسعار الفائدة، ما يعكس تحولًا جوهريًا في اتجاه السياسة النقدية العالمية.
هذا التحول يعني أن جزءًا من السيولة التي كانت محجوزة في الأصول المالية سيجد طريقه نحو الاقتصاد الحقيقي، أي نحو الاستثمار المباشر في المشاريع والإنتاج، بدلًا من بقائه محصورًا في المضاربات المالية أو أدوات الدين مرتفعة العائد. ومن المتوقع أن يؤدي ذلك إلى تراجع جاذبية الدولار عالميًا، إذ أن انخفاض الفائدة يقلل من العائد على الأصول المقومة بالدولار، مما يدفع المستثمرين إلى البحث عن بدائل أكثر ربحية في عملات أو أسواق أخرى.
انعكاسات القرار على الدولار والسلع
- انخفاض قيمة الدولار: مع تراجع الفائدة، تقل قدرة الدولار على جذب الاستثمارات، ما يضعف قيمته أمام العملات الأخرى.
- ارتفاع أسعار السلع الأولية: معظم السلع العالمية – كالنفط والغاز والمعادن – يتم تسعيرها بالدولار. وبالتالي، فإن أي انخفاض في قيمة الدولار ينعكس مباشرة بارتفاع أسعار هذه السلع، لأن البائعين يسعون لتعويض خسارة القيمة.
- زيادة كلفة الواردات: الدول التي تعتمد بشكل كبير على الاستيراد ستواجه ارتفاعًا في فاتورة وارداتها، إذ ستضطر لدفع مبالغ أكبر للحصول على نفس الكميات من السلع، ما قد يضغط على ميزان المدفوعات ويزيد من معدلات التضخم المحلي.
البعد العالمي للقرار
إن إنهاء التشديد الكمي لا يقتصر أثره على الاقتصاد الأمريكي فحسب، بل يمتد إلى الاقتصاد العالمي بأسره. فالسياسة النقدية الأمريكية تُعتبر مرجعًا رئيسيًا لبقية البنوك المركزية، نظرًا لمكانة الدولار كعملة احتياطية عالمية. وعليه، فإن هذا التحول قد يدفع العديد من الدول إلى إعادة النظر في سياساتها النقدية والمالية، سواء عبر تعديل أسعار الفائدة أو عبر البحث عن أدوات جديدة لحماية اقتصاداتها من تقلبات الدولار وأسعار السلع.
تأثيرات محتملة على الاقتصاد السوري
يعتمد الاقتصاد السوري اليوم على الاستيراد لتأمين نحو 90% من احتياجات السوق الاستهلاكية، ما يجعل أي تغير عالمي في الأسعار ينتقل مباشرةً إلى المستهلك المحلي. ومع استمرار العقوبات، وارتفاع تكاليف النقل، وصعوبات تمويل التجارة الخارجية، فإن الدفعات التضخمية قد تكون أكثر حدة محليًا.
ومن أبرز القطاعات التي ستتأثر:
-
الغذاء والقمح: زيادة التكاليف ستنعكس على أسعار الخبز والمواد الأساسية.
-
الطاقة والمشتقات النفطية: أي ارتفاع جديد يشكل عبئًا على الصناعة والنقل.
-
الدواء والمواد الطبية: زيادة الأسعار قد تؤثر على القدرة على تأمين الاحتياجات الصحية.
هذه العوامل مجتمعة قد تزيد الضغط على القدرة الشرائية المتراجعة بالفعل لدى المواطن السوري.
فرص اقتصادية كامنة
ورغم التحديات، فإن انخفاض الدولار قد يفتح مجالًا لفرص مهمة في حال استغلتها الحكومة السورية بفاعلية، من أبرزها:
-
تحفيز الاستثمار المحلي عبر توجيه السيولة نحو قطاعات إنتاجية.
-
تعزيز الزراعة والصناعات التحويلية لتقليل استنزاف القطع الأجنبي.
-
دعم مشاريع الطاقة المحلية والمتجددة لتخفيف فاتورة الاستيراد.
-
تشجيع الشراكات الإقليمية والاستثمارات الصغيرة والمتوسطة.
إن الفرص الاقتصادية التي قد تنفتح أمام سوريا تحمل في طياتها إمكانات كبيرة لإعادة بناء الدولة وتعزيز الاستقرار، لكنها في الوقت ذاته تنطوي على مخاطر إذا لم تُدار بحكمة. فالتأخر في تبني نظام اقتصادي واضح، قائم على مؤسسات قوية وشفافة، قد يحوّل هذه الفرص إلى تحديات جديدة تعيد البلاد إلى دائرة الصراع وعدم الاستقرار. ومن هنا، فإن الإسراع في بناء مؤسسات الدولة وتفعيل دورها في إدارة الموارد يُعد شرطًا أساسيًا لتحويل هذه الفرص إلى رافعة للتنمية والسلام، بدلًا من أن تصبح وقودًا لأزمات جديدة.
التحديات التي يجب التعامل معها
هناك عدة معوقات أمام تحقيق الاستفادة القصوى من تراجع الدولار:
| التحدي | أثره المحتمل |
|---|---|
| اعتماد الاقتصاد على الاستيراد | يحد من تأثير انخفاض الدولار على الأسعار محليًا |
| العقوبات وصعوبات التحويل المالي | تقلل إمكانية جذب الاستثمارات الخارجية |
| التضخم وضعف القدرة الشرائية | يزيد الاحتقان الاقتصادي والاجتماعي |
| غياب بيئة استثمار مستقرة | يعيق دور القطاع الخاص في تعويض فجوة الاستيراد |
خلاصة تحليلية
يمثل انخفاض الدولار عالميًا سيفًا ذا حدين بالنسبة لسوريا:
-
فمن جهة، قد يدفع إلى ارتفاع أسعار السلع المستوردة، ما يزيد الضغط على السوق المحلي والمواطنين.
-
ومن جهة أخرى، يشكل فرصة لإعادة بناء أجزاء من القاعدة الإنتاجية وتقليل الاعتماد على الخارج.
تعظيم الفوائد وتخفيف المخاطر يتوقف على قدرة الحكومة على:
-
اعتماد سياسات داعمة للإنتاج المحلي
-
تنظيم سوق الصرف وتحسين تدفق السيولة
-
جذب استثمارات تتناسب مع الظروف الراهنة
-
تخفيف هيمنة الاستيراد على الاقتصاد

