وعد ديب:
بعد سنوات من التراجع المستمر خلال فترة النظام المخلوع، سجلت الليرة السورية أول تحسن في مسارها عقب التحرير، بنسبة تجاوزت 35 بالمئة وسطياً.
فبعدما ظلّ سعر صرف الدولار لفترة طويلة يتراوح بين 15 و16 ألف ليرة وسطياً، تراجع سريعاً ليستقر قرب مستويات 11 إلى 12 ألف ليرة، في وقت يرى خبراء أن عوامل محورية ستحدد اتجاه العملة خلال الفترة المقبلة.
وربط الخبير الاقتصادي يونس الكريم، التحسّن الذي شهدته الليرة بعد التحرير بأسباب عدة، بينها السياسات النقدية التي انتهجها المصرف المركزي على المدى القصير.
وأوضح الكريم ، أن انضباط الإنفاق الحكومي بصورة مؤقتة، وتجميد المخصصات المالية للبلديات وبعض المؤسسات، والاعتماد الواسع على التبرعات والمساعدات – خاصة بالدولار- لعبت أدواراً إضافية في هذا التوازن.
واعتبر أن ثبات هذه السياسات – رغم آثارها السلبية على المدى المتوسط والطويل – كان عاملاً مباشراً في إعادة قدر من التوازن إلى السوق.
وأضاف أن تجفيف السيولة كان أحد أبرز هذه العوامل، وذلك عبر تأجيل صرف الرواتب، وتقييد السحب النقدي، وإعادة هيكلة شركات الصرافة، إلى جانب غضّ النظر عن تداول بعض العملات الأجنبية، وعلى رأسها الدولار.
ورأى الكريم أن هذه الإجراءات تزامنت مع سياسات مالية على مستوى الوزارات كافة، مثل إعادة هيكلة المؤسسات الحكومية، والحدّ من التوظيف الوهمي، والتوقف عن استخدام موازنات مؤسسات الدولة، والاعتماد على المساعدات الخارجية، ما أسهم كذلك في تقليص حجم المعروض النقدي من الليرة، وتمّ السماح – وإن كان بصورة غير مقننة – باستخدام الدولار في تسديد بعض المستحقات والفواتير.
وبحسب الكريم، أدّت هذه الخطوات إلى تخفيض توافر الليرة في السوق مقابل زيادة المعروض من الدولار، ما ساعد على خلق توازن نسبي في العرض والطلب، كما لفت إلى أن إعادة هيكلة سوق الصرف كان لها دور واضح في هذا التحوّل.
النشاط الاقتصادي
قال الكريم: إن تأثير النشاط الاقتصادي على الطلب على الليرة كان محدوداً نسبياً، موضحاً أنه لم يُلحظ أي ارتفاع جوهري في الطلب المحلي على العملة السورية.
وأوضح أن من أسباب ذلك مجموعة من السياسات التي طبّقها المصرف المركزي والحكومة، من بينها قانون إعادة هيكلة شركات الصرافة، وتشديد السحوبات النقدية، والسماح بتداول الدولار واستخدامه في دفع الغرامات، إلى جانب حملات التبرع النقدي.
وأضاف أن هذه السياسات حافظت على وجود الليرة إلى جانب الدولار وبقية العملات الأجنبية، لكنّها لم تؤدِّ إلى زيادة كبيرة في الطلب على العملة المحلية رغم النشاط الاقتصادي.
وأشار الكريم إلى أن استقرار سعر الصرف خلال تلك الفترة لم يكن نتيجة توسع النشاط الاقتصادي، بل كان ثمرة استمرار السياسات المالية والنقدية التي حدّت من المعروض من الليرة، في الوقت نفسه الذي سمحت فيه بتداول الدولار في عدد واسع من التعاملات، ما ساهم في تحقيق توازن نسبي بين العرض والطلب على العملة المحلية والأجنبية.
مستوى الثقة
سياسياً، لفت الكريم إلى أن تحسّن الليرة ارتبط كذلك بارتفاع مستوى الثقة بتوجّه الاقتصاد في المرحلة المقبلة، موضحاً أن هذا التحسّن جاء نتيجة إسقاط النظام المخلوع وما تبعه من انفتاح عربي واسع، ترافق مع خطاب اقتصادي وسياسي تضمن الكثير من الوعود بالاستثمارات.
كما أشار إلى الانفتاح الغربي، صوصاً الأميركي، المتزامن مع دعوات ووعود برفع العقوبات، وبرأيه، فإن هذه التطورات مجتمعة ساهمت في عودة جزء من اللاجئين وتحسّن المزاج الاقتصادي العام.
واعتبر أن الاقتصاد السوري تمكّن من تجاوز مشكلة نقص السيولة عبر الاعتماد على الدولرة الجزئية، إذ تمّ السماح بتسديد جزء من المعاملات المالية والغرامات والفواتير بالدولار، سواء في التعاملات مع القطاع الحكومي أو الخاص، وقد أسهم ذلك في تخفيف الضغط على الليرة وامتصاص التضخم، وساعد في الحدّ من الحاجة إلى التوسع بطباعة العملة المحلية.
لكن الكريم أكد أن الحكم على استدامة التحسّن ما زال مبكراً، مشيراً إلى أن سعر الصرف مرتبط إلى حدّ بعيد بعوامل خارجية وداخلية متشابكة، تشمل الانفتاح الدولي ورفع العقوبات من جهة، وإعادة تنظيم مؤسسات الدولة واتجاهات الاقتصاد الوطني من جهة أخرى.
ورأى أن الليرة تمرّ حالياً بحالة استقرار مؤقت، قد تتجه إمّا نحو مزيد من التحسّن أو نحو انتكاسة جديدة، وذلك وفق تطورات عدد من الملفات المفتوحة المرهونة بتوازن القوى السياسية والاقتصادية في الداخل والخارج.
وشدد على أن أي تقييم لاستدامة هذا التحسّن يجب أن يأخذ في الاعتبار عناصر متشابكة تتعلق بالسياسات النقدية والمالية، وكذلك بالاستقرار المؤسسي والسياسي، وتأثير الضغوط الدولية على الاقتصاد.
عوامل محورية
طرح الخبير الاقتصادي مجموعة من التساؤلات حول العوامل المحورية التي تحدد مسار الليرة، قائلاً: هل سيُسمح بتداول الدولار على نطاق أوسع، أم سيُعاد التشدد في تنظيمه ومراقبته؟ هل ستتحول الوعود الاستثمارية إلى واقع ملموس، أم ستظل مقيدة بالعقوبات ومسارات التفاوض السياسي الدولي؟ وما إذا كانت ستُرفع كل العقوبات بشكل كامل، أم ستقتصر على الجوانب الإنسانية فقط؟ وهل ستتم إعادة تفعيل مؤسسات الدولة بالكامل، أم أننا نتجه نحو حالة من الفوضى المؤسساتية تؤثر على استقرار الاقتصاد والعملة؟
ويؤكد الكريم أنه في حال استمر الانفتاح الدولي وتحوّلت الوعود الاستثمارية إلى واقع ملموس، سيكون تحسّن الليرة حقيقياً، إلا أنه سيكون تدريجياً وبطيئاً، مرتبطاً بإعادة بناء الثقة في الاقتصاد والسياسات النقدية المستقرة.
أما إذا فشلت هذه المسارات – مثل استمرار العقوبات أو عدم انطلاق الاستثمارات – فإن التضخم سيكون السيناريو الأكثر احتمالاً، والذي قد يغزو الاقتصاد سريعاً.
وأضاف أن أثر التضخم سيكون ملموساً على حياة المواطنين، حيث قد يشعر الناس بارتفاع الأسعار بشكل سريع وكبير، ما قد يضعف القوة الشرائية ويؤثر على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
دعم الإنتاج
شدد الكريم على أن استمرار تحسّن الليرة يتطلب في المقام الأول التحوّل نحو دعم الإنتاج المحلي، سواء في القطاع الزراعي أو الصناعي، مع إعادة ضبط نزيف القطاع الأجنبي الناتج عن استيراد السلع الاستهلاكية التي تستنزف الاحتياطي.
كما تحدث عن أهمية دعم القوة الشرائية للفقراء، بما يعزز النشاط الاقتصادي من خلال تشجيع توسع أعمال الشركات الصغيرة والمتوسطة، وبالتالي زيادة المعروض السلعي محلياً.
وأضاف أن ذلك يجب أن يتم بالتوازي مع إعادة هيكلة المؤسسات العامة، ومنع العودة إلى التوظيف الوهمي أو التوسع غير المنضبط في الإنفاق العام.
وأشار الكريم إلى أن تنظيم عمل السوق المالية وسوق الصرف يمثلان عنصراً أساسياً، إلى جانب التقدّم في الملفات السياسية المتعلقة بالانفتاح الخارجي وجذب الاستثمارات ورفع العقوبات، لأن هذه العوامل تشكّل ركناً جوهرياً في بناء توقعات الثقة لدى المستثمرين والمواطنين على حدّ سواء.
وأكد أيضاً أن الاعتماد المستمر على المساعدات بالدولار وتخفيف الضغط على الليرة، مع الحدّ من طباعة العملة، يمكن أن يسهم في منع موجات تضخمية حادة.
لكنّه شدد على أن استدامة هذه الإجراءات مرهونة بشكل مباشر بالتطورات السياسية والاقتصادية المستقبلية.
المصدر : صحيفة الثورة السورية.

