مع اقتراب موعد التصويت النهائي على إلغاء قانون «قيصر» الأميركي المفروض على سوريا منذ عام 2020، تتجه الأنظار داخل البلاد وخارجها إلى ما قد يحمله هذا الاستحقاق من تحولات سياسية واقتصادية عميقة. غير أن اهتمام السوريين ينصبّ في المقام الأول على سؤال واحد يتقدم على سواه: هل يفتح رفع العقوبات الباب فعليًا أمام إعادة إعمار البلاد؟
فبعد أكثر من عقد من الحرب، وسقوط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024، تقف سوريا أمام مرحلة جديدة تتقاطع فيها آمال إعادة البناء مع تعقيدات الواقع السياسي والاقتصادي. وبالنسبة لملايين السوريين الذين فقدوا منازلهم واضطروا إلى النزوح أو اللجوء أو الاغتراب، لا تُختزل إعادة الإعمار في مشاريع إسمنتية أو خطط اقتصادية، بل تُجسّد أملًا بعودة الاستقرار، واستعادة الحياة اليومية، وإغلاق فصل طويل من المعاناة.
في هذا التقرير، نرصد تداعيات إلغاء قانون “قيصر” المحتملة على مسار إعادة الإعمار في سوريا، ونناقش فرصها وحدودها، في ظل التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية، وتساؤلات الداخل والخارج حول شكل المرحلة المقبلة، ومن يمتلك مفاتيح إعادة بناء بلد أنهكته الحرب.

إلغاء “قيصر”
في خطوة سياسية لافتة تجاه سوريا ما بعد الأسد، صوّت مجلس النواب الأميركي لصالح مشروع قانون يقضي بإنهاء عقوبات قانون قيصر التقييدية التي فُرضت على سوريا عام 2020 خلال حكم نظام بشار الأسد المخلوع.
وجرى تمرير مشروع إلغاء العقوبات في 10 ديسمبر/ كانون الأول 2025، ضمن حزمة إنفاق دفاعي أوسع تُعرف باسم قانون تفويض الدفاع الوطني لعام 2026 (NDAA)، وهو التشريع السنوي الذي يحدد سياسات وموازنات وزارة الدفاع الأميركية.
وقال النائب الجمهوري برايان ماست، عن ولاية فلوريدا، خلال جلسة التصويت:
«بموجب قانون تفويض الدفاع الوطني هذا، نلغي العقوبات المفروضة على سوريا بسبب بشار الأسد وتعذيبه لشعبه، ونمنح سوريا فرصة لرسم مستقبلها بعد الأسد».
وكان ماست من بين المعارضين سابقًا لرفع العقوبات، إلا أنه أوضح في بيان لاحق أن مشروع القانون يمنح البيت الأبيض صلاحية إعادة فرض العقوبات في حال رأى الرئيس الأميركي أن الظروف تستدعي ذلك.
ويتجه مشروع القانون الآن إلى مجلس الشيوخ؛ حيث يُتوقع التصويت عليه قبل نهاية العام، على أن يُحال بعدها إلى الرئيس الأميركي دونالد ترامب للتوقيع عليه، في المرحلة الأخيرة من المسار التشريعي.
وبحسب الآلية الدستورية، فإن إلغاء قانون «قيصر» لا يصبح نافذًا إلا بعد المرور بثلاث مراحل: تصويت مجلس النواب (وقد تم)، ثم تصويت مجلس الشيوخ، وأخيرًا توقيع الرئيس الأميركي.
وسارعت دمشق إلى الترحيب بتصويت مجلس النواب الأميركي، وعدته نتيجة مباشرة لأشهر من «المشاركة الدبلوماسية البناءة» مع واشنطن.
وقالت وزارة الخارجية السورية، في بيان: إن هذه الخطوة تمثل «لحظة محورية» لإعادة بناء الثقة وفتح مسار جديد للتعاون في ظل رؤية الرئيس أحمد الشرع. مشيرة إلى أن إلغاء العقوبات سيمهّد الطريق أمام انتعاش اقتصادي أوسع، ويعيد فرصًا «حُرم منها الشعب السوري لسنوات».
وأضاف البيان أن رفع العقوبات إلى جانب استكمال التصويت في مجلس الشيوخ، من شأنه تحسين واردات السلع الأساسية والإمدادات الطبية، والمساعدة في تهيئة الظروف اللازمة لإعادة الإعمار وإنعاش الاقتصاد الوطني، مؤكدا أن دمشق ستواصل العمل لرفع القيود المتبقية «خدمةً للشعب السوري».
ومنذ سقوط نظام بشار الأسد، شكّلت العقوبات الأميركية، وفي مقدمتها قانون «قيصر»، العقبة الأبرز أمام تعافي الاقتصاد السوري وبدء عملية إعادة الإعمار بمشاركة دولية.
وكانت الولايات المتحدة قد أقرّت قانون «قيصر» عام 2020 تحت عنوان حماية المدنيين السوريين، وفرضت بموجبه عقوبات مشددة على نظام الأسد المخلوع، وكذلك على أي دولة أو جهة أو شركة تتعامل معه، لا سيما في قطاعات النفط والغاز والبناء، مع حظر تقديم أي مساعدات لإعادة الإعمار.
ورغم انفتاح إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على القيادة السورية الجديدة، ظلّ سريان قانون «قيصر» عامل ردع رئيسا أمام الدول والشركات الراغبة في التعامل اقتصاديًا مع دمشق.
وفي هذا السياق، كان رئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأميركي، روجر ويكر، قد اقترح في 3 سبتمبر/ أيلول 2025 إدراج إلغاء قانون «قيصر» ضمن مسودة قانون موازنة الدفاع لعام 2026، في خطوة مهدت للتصويت الذي جرى لاحقًا في مجلس النواب.

أرقام ودمار
قدّرت دراسة أعدّها المركز السوري لبحوث الدراسات (غير حكومي)، ونُشرت في أواخر مايو/ أيار 2020، أن خسائر الاقتصاد السوري الناجمة عن تطبيق قانون قيصر بلغت نحو 530 مليار دولار، أي ما يعادل 9.7 أضعاف الناتج المحلي الإجمالي للبلاد عام 2010، في مؤشر على عمق الأثر التراكمي للعقوبات إلى جانب كلفة الحرب.
وعلى الأرض، لا تزال مساحات شاسعة من سوريا غير صالحة للسكن نتيجة الدمار الواسع؛ إذ ما تزال أحياء كاملة في مدن كبرى مثل حلب ودمشق وريفها وحمص ودير الزور مدمّرة، فيما سُوِّيت قرى بأكملها بالأرض. ومع انهيار البنية التحتية وشلل النشاط الاقتصادي، تحولت مدن كاملة إلى أنقاض، ما دفع خبراء إلى التحذير من أن المساعدات الإنسانية التقليدية وحدها لا تكفي لإعادة بناء البلاد.
وفي هذا السياق، قال الرئيس السوري أحمد الشرع، في كلمة ألقاها أواخر أكتوبر/ تشرين الأول 2025 خلال مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار في الرياض:
«نريد إعادة بناء سوريا من خلال الاستثمار، وليس من خلال المعونة والمساعدة».
وتدعم هذا الطرح تقديرات حديثة للبنك الدولي، تشير إلى أن احتياجات إعادة الإعمار في سوريا تتراوح بين 140 مليار دولار و345 مليار دولار، مع «أفضل تقدير» يبلغ نحو 216 مليار دولار، أي ما يقارب 10 أضعاف الناتج المحلي الإجمالي لسوريا لعام 2024، المقدّر بنحو 21.4 مليار دولار.
وبحسب التقرير، يُخصص من هذا المبلغ نحو 75 مليار دولار لإعادة بناء المباني السكنية، و59 مليار دولار للمنشآت غير السكنية، و82 مليار دولار للبنية التحتية الأساسية، بما يشمل شبكات الكهرباء والطرق والمياه، والتي تمثل وحدها قرابة نصف إجمالي حجم الدمار.
وتستحوذ المناطق الأكثر تضررًا، لا سيما حلب وريف دمشق وحمص، على الحصة الأكبر من متطلبات التمويل، نظرًا لحجم الدمار الذي أصاب وظائفها الاقتصادية الأساسية.
ويحذّر البنك الدولي من أن هذه التقديرات تبقى متحفظة، في ظل مستويات عالية من عدم اليقين المرتبطة بالتقييمات المعتمدة على صور الأقمار الصناعية في مناطق شهدت دمارًا واسعًا.
ويرى مراقبون أن إطلاق عملية إعادة الإعمار لا يقتصر أثره على السكان الذين بقوا داخل البلاد، بل يمتد إلى ملايين اللاجئين والنازحين والمغتربين، الذين يشكل غياب المساكن والبنية الحضرية الملائمة العائق الأكبر أمام عودتهم.
ولهذا، تربط الحكومة السورية ملف إعادة الإعمار بإلغاء قانون قيصر، الذي تصفه بأنه العامل الأشد تأثيرًا في خنق الاقتصاد السوري، ومنع تدفق الاستثمارات، بفعل العقوبات والقيود القانونية، وتعقيدات التحويلات المالية والتعاملات المصرفية، والصعوبات اللوجستية التي عطّلت أي انخراط اقتصادي جدي داخل البلاد.

فرصة ومؤشر
ضمن هذا السياق، يؤكد الباحث السوري ومدير موقع “اقتصادي”، يونس الكريم، في حديثه، أن تصويت مجلس النواب الأميركي يمثل «الخطوة الأولى على طريق رفع قانون قيصر عن سوريا». مشيرًا إلى أن المسار التشريعي لا يزال يتطلب موافقة مجلس الشيوخ ثم توقيع الرئيس الأميركي، وهي عملية تمتد لنحو 90 يومًا.
وأوضح الكريم أن الأشهر الثلاثة المقبلة ستكون مرحلة اختبار حاسمة للحكومة السورية الانتقالية، لقياس مدى التزامها بتنفيذ متطلبات قانون قيصر، لا سيما ما يتعلق ببند التوافق السياسي وتطبيق اتفاق 10 آذار/مارس 2025 بين دمشق و«قسد».
وأضاف أن مستوى الالتزام بهذه البنود سينعكس مباشرة على مصير المسار السياسي، سواء في مجلس الشيوخ أو عند وصوله إلى الرئاسة الأميركية، لافتًا إلى أن هذا المسار يتضمن شرطًا جوهريًا يتمثل في استبعاد القوات والعناصر الأجنبية من الجيش السوري الجديد، وهو مطلب يرتبط في جوهره بالمخاوف الأمنية الإسرائيلية.
وأشار الكريم إلى أن إلغاء قانون قيصر لن يترجم فورًا إلى انطلاقة شاملة لعملية إعادة الإعمار، لكنه سيمنح الغطاء القانوني لتنفيذ الاتفاقيات التي أُبرمت عقب سقوط نظام الأسد مع الدولة السورية الجديدة، والتي كانت الشركات الأجنبية تتردد في تفعيلها بسبب القيود التي يفرضها القانون.
غير أن تأثير هذا التطور على البنك المركزي السوري، وفق الكريم، سيبقى محدودًا، في ظل استمرار عقبات قانونية أخرى، أبرزها العقوبات المفروضة بموجب قانون محاسبة سوريا لعام 2003، إضافة إلى التشريعات المرتبطة بتمويل الإرهاب التي لا تزال سوريا مدرجة ضمن نطاقها.
وبيّن أن هذه الأطر التشريعية الأميركية تفرض شروطًا صارمة على عمل البنك المركزي، تشمل رفع مستوى الامتثال المصرفي، وتعزيز أنظمة مكافحة غسل الأموال، وإعادة هيكلة الموارد وآليات العمل، ويرى أن أقصى ما يمكن للحكومة السورية فعله في المرحلة الراهنة هو طلب تعليق مؤقت لهذه القوانين إلى حين منح البنك فترة زمنية لإعادة تنظيم نفسه.
ولفت الكريم إلى أن هشاشة البنية التحتية للقطاع المصرفي، سواء في المصارف الحكومية أو الخاصة، إلى جانب ضعف الكوادر ونقص الموارد، يزيد من تعقيد مهمة البنك المركزي، فضلًا عن الحاجة الملحة إلى إيداعات رسمية تدعم الاحتياطيات النقدية.
كما شدَّد على ضرورة العودة إلى غرف المقاصة الدولية وتفعيل نظام «سويفت». موضحًا أن هذه الخطوة تتطلب ما لا يقل عن عام كامل قبل أن تتمكن سوريا من تنفيذها بفعالية. معتبرًا أن هذا الملف يمثل فرصة واقعية يمكن لكل من السعودية وقطر لعب دور داعم فيه خلال المرحلة المقبلة.
وأشار كذلك إلى أن البنك المركزي بات مطالبًا بإجراء ترتيبات واسعة تتعلق بـطباعة العملة، تشمل تنظيم الكميات والمواصفات وآليات الطباعة بما يتوافق مع المتطلبات الفنية والرقابية المستقبلية.
وفيما يتعلق بملف إعادة الإعمار، رأى الكريم أن العملية لن تنطلق بالزخم الذي يتوقعه الشارع السوري، في ظل ضعف الموارد الحكومية وانهيار الاقتصاد، مرجحًا أن تتركز المشاريع في دمشق ومحيطها. إضافة إلى مراكز المدن الكبرى، وفق نماذج تنظيم عمراني تعتمد على استملاك الأراضي من قبل الشركات، مع منح المالكين سكنا بديلا ضمن إطار السكن الاجتماعي.
وأكد أن إعادة الإعمار لن تصبح جاذبة على المدى المتوسط إلا مع تحسن المؤشرات الاقتصادية، وارتفاع القوة الشرائية، وتحقيق حد أدنى من الاستقرار السياسي.
وبحسب الكريم، فإن تنفيذ متطلبات قانون قيصر يشكل في جوهره مؤشر قبول غربي بالحكومة السورية الجديدة، وشرطا أساسيا لأي مسار جدي لإعادة الإعمار.
وأشار إلى أنه عقب سقوط الأسد، شهدت دمشق اندفاعًا ملحوظًا من شركات ودول لإبرام اتفاقيات ومذكرات تفاهم ومشاريع استثمارية، لافتًا إلى أن الرئيس السوري أحمد الشرع أعلن في 29 أكتوبر/ تشرين الأول 2025 أن سوريا جذبت استثمارات بقيمة 28 مليار دولار خلال عشرة أشهر.
وأوضح الكريم أن هذه العقود، سواء كانت ملزمة أو غير ملزمة، تُعد تنفيذية في ظل الواقع السياسي الحالي، ويمكن للمستثمرين البدء بتنفيذها بشكل جزئي أو تدريجي ريثما تُستكمل الموافقات التشريعية.
وختم بالقول إن شركات النفط والطاقة ستكون من أبرز المستفيدين من رفع عقوبات قانون قيصر، لما يتيحه ذلك من حرية أكبر للعمل في قطاع ظل معطّلًا لسنوات، فضلا عن تسهيل استيراد قطع الغيار اللازمة لقطاع الكهرباء وترميم البنية التحتية، بما يخفف الضغط على المؤسسات العامة، ويُسهم في تحسين المزاج العام للمواطن السوري الذي أنهكته الوعود غير المحققة.
المصدر: صحيفة الاستقلال .

