الرئيسية » “إعادة إصدار العملة السورية: محاولة لضبط السيولة أم هندسة سياسية جديدة؟”

“إعادة إصدار العملة السورية: محاولة لضبط السيولة أم هندسة سياسية جديدة؟”

لليرة السورية بين يدي روسيا؟

بواسطة Younes

عد الخطاب الذي ألقاه وزير الخارجية أسعد الشيباني في موسكو بتاريخ 24-12-2024، والذي أكّد خلاله على عمق العلاقات الاستراتيجية بين سوريا وروسيا، حاولت في البداية تجاهل المعلومات القديمة لدي التي تفيد بأن الملف الاقتصادي السوري المتمثل بطباعة العملة سيُعاد تسليمه إلى موسكو، بعد ما عايشنا مأساة حقيقية بسبب التدخل العسكري الروسي، حيث تناثرت أشلاء شهدائنا بين الخيم، وتحولت جثث بعضهم إلى فريسة لأسماك البحر خلال رحلة اللجوء، فيما قضى آخرون نحبهم في صقيع غابات طرق اللجوء، وسط غياب أي دعم فعلي أو حماية.

لكن، بعد تصاعد النقاشات مؤخرًا حول ملف طباعة العملة السورية، صدر عن الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع المرسوم التشريعي رقم 293 لعام 2025، الذي يفوض بموجبه مصرف سوريا المركزي بإصدار العملة السورية الجديدة بدءًا من 3 كانون الثاني القادم. وكان من المتوقع أن يتم إصدار العملة الجديدة في 8 ديسمبر من هذا العام، بالتزامن مع اقتراب الاحتفالات بمرور عام على سقوط نظام الأسد، ما أعاد تلك المعلومات القديمة إلى واجهة الأخبار لتبدو صحيحة، بينما نحاول نحن تعامي جراحنا فقط.

ورغم أن الحكومة الانتقالية تصف خطوة تغيير العملة بأنها تقنية، يُنظر إليها في الوقت نفسه على أنها ذات بعد رمزي وسياسي، إذ تهدف إلى محو إرث المرحلة السابقة بما تحمله من صور وشعارات، والإعلان عن انطلاق مرحلة اقتصادية جديدة. غير أن البعد الرمزي يشكل جزءًا واحدًا فقط من الصورة الأكبر؛ فإعادة طباعة العملة ترتبط أيضًا بمحاولة ضبط السيولة النقدية المتداولة خارج النظام المصرفي، والتي لعبت دورًا أساسيًا في تمويل أنشطة اقتصادية غير خاضعة للرقابة، والمساهمة في دعم أعمال عنف ضد الحكومة.

وجود الروس في ملف طباعة العملة يعني أنهم عادوا ليكونوا شركاء للحكومة الانتقالية، دون أي اعتبار لدمائنا ومعاناتنا. الهدف من هذه الخطوة ليس بناء مؤسسات دولة حقيقية، بل إعادة تشكيل قاعدة اجتماعية موالية ترتبط مصالحها بشكل مباشر بالمنظومة المالية الجديدة للحكومة، ما يعكس استراتيجية واضحة لدمج الاقتصاد بالسياسة لضمان الاستمرار في الحكم وليس لتأسيس دولة مستقرة.

الطباعة النقدية السورية في روسيا: شراكة استراتيجية جديدة

في 8 آب/أغسطس 2025، انعقد اجتماع في موسكو بين وفد من مجلس النقد والتسليف السوري السابق  ” استشاريين”  ب وغيورغي كورنيلوف، نائب مدير شركة غوزناك الروسية، الذراع الرسمي للدولة الروسية في مجال طباعة العملات. ويأتي هذا الاجتماع امتدادًا لزيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، إلى موسكو، والتي أسفرت عن توقيع سلسلة من الاتفاقيات الثنائية.

تكوّن الوفد السوري من:

  • محمد أبازيد – نائب وزير المالية وعضو مجلس النقد والتسليف.

  • د. عبد الرزاق القاسم – مدير مديرية الدين العام والأوراق المالية.

  • د. محمد شادي أسعد – مدير مديرية الخزينة.

  • د. نوار هاشم – خبير في شؤون النقد والمصارف.

أسفر الاجتماع عن اتفاق رسمي يقضي باستكمال طباعة العملة السورية الجديدة في روسيا، وفق تصميمات معدّلة جذريًا، تشمل حذف صفرين من العملة القديمة، إزالة صورة الحاكم، وإدراج رموز تعكس ملامح ما تُسمى بـ”الدولة الجديدة”. كما تم التأكيد على الالتزام بالمعايير الفنية الدولية، وضمان جودة الطباعة وسلامة الإجراءات.

لجنة مشتركة للرقابة ومنع التسرب

تم الاتفاق على تشكيل لجنة مشتركة بين الجانبين السوري والروسي للإشراف المباشر على عملية طباعة العملة السورية الجديدة، مع التركيز على عدة محاور رئيسية:

  • تحديد مواصفات العملة الجديدة.

  • تحديد كميات الطباعة المطلوبة.

  • مراقبة المواد المستخدمة في الطباعة.

  • اعتماد تقنيات الأمان الحديثة.

  • ضمان عدم تسرب أي جزء من الكميات المطبوعة.

تأتي هذه الخطوة لتعزيز القدرة على إدارة السيولة وتنظيم تداول العملة والسيطرة على التضخم بسبب تسربها من القنوات المصرفية، بما يتيح للحكومة الانتقالية التحكم بالحياة الاقتصادية، وخلق طبقة تجارية موالية، وإعادة رسم حدود السيطرة الاجتماعية والسياسية في البلاد.

دول الطباعة والتوريد: أكثر من 20 شهرًا

تشير الاتفاقية إلى أن عملية طباعة العملة السورية الجديدة ستستغرق أكثر من 20 شهرًا، على أن تبدأ الشحنات بالوصول إلى مصرف سوريا المركزي اعتبارًا من تشرين الأول/أكتوبر 2025. وسيتم تسليم العملة ضمن شحنات شهرية تُقدر بمئات المليارات من الليرة، بما يتيح للحكومة الانتقالية إدارة السيولة النقدية تدريجيًا وتقليل الصدمات التضخمية المفاجئة.

ويُعزى طول مدة الطباعة إلى حجم الكمية المطلوب طباعتها، والرغبة في ضبط السوق النقدية تدريجيًا، وكذلك لإيفاء جزء من كلفة الطباعة ومنع تكدس السيولة في أيدي جهات غير خاضعة للرقابة. كما ترتبط المدة بعدد منافذ استبدال العملة، بما يعكس محاولة إعادة بناء ثقة السوق والمودعينبالعملة الجديدة وضمان استقرار التداول النقدي بشكل تدريجي.

فئات العملة الجديدة: واقع الطرح وتوقعات السوق

بحسب المعلومات المتداولة سابقًا حول خطط طباعة العملة السورية الجديدة، فقد كانت الفئات المقترحة مبنية على ما ورد في التصريحات الأولية والتسريبات، وتشمل:

  • 5 ليرات

  • 10 ليرات

  • 20 ليرة

  • 50 ليرة

  • 100 ليرة.

كان من المخطط إصدار فئة الـ500 ليرة في مرحلة لاحقة، وفقًا للمعلومات المتوفرة سابقًا، ويُقدّر أن كمية العملة السورية المطبوعة، وفقًا لتصريح عبد القادر حصرية، حاكم مصرف سوريا المركزي، تصل إلى 60 تريليون ليرة حسب حجم السيولة بالسوق قبل الطباعة ، أي 600 مليار ليرة بالعملة الجديدة، وهو ما يقارب حجم السيولة المتداولة عام 2010. ويبدو أن هذا الحجم الكبير من النقود هو أحد الأسباب الرئيسية لتأخر إصدار هذه الفئة.

في المقابل، تشير بعض التسريبات على منصات التواصل إلى احتمال استبعاد فئة الـ5 ليرات بسبب ارتفاع تكلفة طباعتها مقارنة بقيمتها الاسمية، وهو عامل أساسي في سياسة طباعة الأوراق النقدية. فتكلفة إنتاج الفئة يجب أن تكون أقل بكثير من قيمتها، وإلا فإن ذلك يشكل خسارة مباشرة لميزانية البنك المركزي. كما أن غياب الفئات الصغيرة قد يؤدي إلى نقص في السيولة اليومية، مما يجعل التضخم عرضة للارتفاع نتيجة عدم وجود أوراق نقدية صغيرة كافية للتداول اليومي.

من جهة أخرى، تشير بعض المصادر غير الرسمية إلى احتمال إدراج فئات أعلى مثل 1000 و2000 ليرة ضمن الخطة لاحقاً ، ما يعكس حالياً  التركيزًا على الفئات المتوسطة التي تشكل العمود الفقري للسيولة في الأسواق اليومية. هذا التوجه يعكس ضمنيًا استمرار الاعتماد على العملات الأجنبية، خاصة الدولار، كأداة للتسعير والتحوط ضد التضخم، وهو مؤشر على تحديات إعادة بناء ثقة الجمهور بالليرة السورية في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة.

لماذا روسيا؟ مقارنة الكلفة والامتيازات

تأتي هذه الاتفاقية ضمن حزمة تفاهمات وقعها وزير الخارجية أسعد الشيباني مع نظيره الروسي سيرغي لافروف في 31 تموز/يوليو 2025، وقد منحت سوريا بموجبها مزايا متعددة تشمل:

  • امتيازات فنية وتقنية تضمن جودة الطباعة ودقة وسائل الأمان.

  • تكلفة أقل مقارنة بالعروض المقدمة من شركة “أومولات” الإماراتية.

  • شروط أفضل من الشركتين الألمانيتين:

    • Bondsdrokry المدعومة حكومياً.

    • Giesecke & Devrient الخاصة.

هذا التفضيل لا يعكس مجرد اعتبارات مالية وتقنية، بل يشير أيضًا إلى البعد السياسي للعلاقة السورية – الروسية. إذ تسعى دمشق من خلال الشراكة مع موسكو إلى تعزيز ارتباطها بالجانب الروسي في الملفات السيادية الحساسة، ومن بينها ملف إصدار العملة الجديدة، ما يمنح موسكو نفوذًا مباشرًا على أحد أركان الاقتصاد النقدي السوري، ويؤكد دورها كشريك استراتيجي في إعادة هيكلة النظام المالي بعد سنوات الحرب والفوضى النقدية، وذلك حسب كلام المصدر.

الطباعة النقدية في روسيا: مخاطرة مزدوجة بين الاقتصاد والسيادة الوطنية

تثير التقارير عن طباعة العملة السورية في روسيا، إذا صحت، مخاوف عميقة على المستويات النقدية والمالية، وكذلك على الصعيدين الدبلوماسي والسيادي. إذ تتجاوز هذه الخطوة كونها إجراءً تقنيًا أو شكليًا لتصبح مؤشرًا واضحًا على تدخل خارجي مباشر في إدارة الاقتصاد الوطني، وانتهاكًا ضمنيًا للاتفاقات الدولية التي حاول النظام التأكيد من خلالها على استقلالية سياساته الاقتصادية، خصوصًا عن محور روسيا-إيران.

إعادة روسيا إلى الملف النقدي، بعد أن شهدت السنوات الأخيرة تدخلها المباشر في إدارة طباعة العملة السورية واستخدامها في تمويل تجنيد مرتزقة سوريين في أوكرانيا وأفريقيا، وشراء سلع ودولارات من السوق، وهو ما يعني إلى تحكم خارجي محتمل في أدوات السيادة النقدية. حتى الإجراءات المفترضة مثل حذف الأصفار أو إلغاء الرموز القديمة، والتي كان من المفترض أنها تمثل مرحلةجديدة  لإعادة إطلاق الاقتصاد السوري ومنح الأمل للمواطنين، سوف تحمل رسائل سياسية تؤكد النفوذ الروسي المستمر على مفاصل الاقتصاد الوطني.

المخاطر الاقتصادية والمالية الأساسية تشمل:

  1. فقدان السيطرة على الكتلة النقدية: أي إدارة خارجية للسيولة النقدية تزيد من احتمال تفاقم التضخم، خاصة في ظل غياب دور فاعل للمصرف المركزي، تضارب تصريحات الحاكم المركزي، وغياب فريق متخصص لإدارة العملية داخليًا. إشراف الرئاسة القصر الجمهوري مباشرة على العملية مما يعكس ضعف مؤسسات الدولة المختصة في ضبط العرض النقدي بما يتوافق مع احتياجات الاقتصاد الحقيقي.

  2. إضعاف الثقة بالليرة السورية: إصدار نقدي بعيد عن رؤية الاقتصاد الحقيقي واستبعاد الفئات الصغيرة يعزز الاعتماد على الدولار والعملات الأجنبية، ويؤدي إلى تفاقم عدم الاستقرار المالي وفوضى السوق، ما يضعف أي جهود لإعادة بناء الثقة بالعملة المحلية.

  3. تحويل العملة إلى أداة سياسية: بدل أن تدعم العملة المحلية الإنتاج المحلي والاقتصاد الحقيقي، قد تُستخدم لإعادة رسم قاعدة اجتماعية موالية مرتبطة بالنظام المالي الجديد، ما يحولها من أداة اقتصادية إلى وسيلة لإعادة توزيع النفوذ الاجتماعي والسياسي.

المخاطر الدبلوماسية والسياسية: تعكس هذه الخطوة احتمال إعادة إنتاج التجارب السابقة المرتبطة بتدهور القدرة الشرائية للمواطنين لصالح حلفاء النظام، كما تضع سوريا في مواجهة محتملة مع الغرب عبر فرض عقوبات جديدة، في ظل ربط الاستقرار المالي بالمصالح الروسية أكثر من ارتباطه باحتياجات الشعب أو استقلالية الدولة وعودو احيار لدور لامراء الحرب ، الطبقة الموالية لروسيا وربما ايران.

وبالتالي لا يمكن أن يتحقق أثر إيجابي لهذه الخطوة إلا من خلال إصلاح هيكلي شامل، شفاف، ومستقل عن أي نفوذ خارجي، يضمن إدارة نقدية مسؤولة تعيد الثقة بالعملة الوطنية، وتدعم الاقتصاد الحقيقي بعيدًا عن الاستغلال السياسي أو النفوذ الأجنبي.

مقالات ذات صلة