الكاتب :نيرودا الحسين
توماس دافنبورت يقول في كتابه اقتصاد الانتباه (The Attention Economy)، إن أكثر الموارد ندرة وأهمية في عصرنا الحالي أضحى هو “الانتباه” نفسه، فهناك الملايين من الأفكار والمعلومات والمواهب ومصادر التمويل التي تتنافس على جذب انتباه جماهير العملاء والمنافسين، فأي منهما سيشد الانتباه، ويحظى بالانتشار والولاء، وتكتب له الحياة. لا يمكننا إنكار الفوائد التي تحققت بفضل التكنولوجيا، ولا كمية المعلومات التي نحصل عليها من خلال مواقع الإنترنت، أو منصات التواصل الاجتماعية، ولكن علينا أن نعلم أن هذه الفوائد والمعلومات لم تكن مجانية. في كل ثانية، تتنافس الآلاف من المواقع والمنصات في إرسال ملايين المعلومات التي لا حصر لها، في محاولة لأسر انتباهنا بأي شكل من الأشكال، فمنصات الوسائط الاجتماعية على وجه الخصوص تحاول بشراسة جذب انتباهنا من خلال تصميم واجهات مستخدم إدمانية وتفاعلية لإبقائنا مدمنين على شاشاتنا مع جمع بيانات حول تفضيلاتنا التي يتم بيعها للمعلنين.
إذا، ما هو اقتصاد الانتباه التي تراهن عليه منصات التواصل الاجتماعي، وكيف تجني هذه المنصات أرباحها من انتباهنا، وإلى أي حدّ يتم تشويه الواقع لنيل هذا الانتباه، وهل نحن قادرون على تغيير هذه الحقائق، كل هذه المحاور سنسلط الضوء عليها في تقريرنا التالي.
ما هو اقتصاد الانتباه؟
الانتباه جزء من التجربة الإنسانية، ووسيلة تربطنا بالعالم الخارجي، كلمة انتباه بسيطة، ولا تحتاج إلى شرح، ولكن لدى ربطها بالعالم الرقمي والاقتصاد، ينتج لدينا مفهوم جديد يدعى “اقتصاد الانتباه” وهذا المصطلح يشير إلى النظام الاقتصادي الذي يعتمد على اهتمام المستخدمين وتركيزهم وتفاعلهم مع المحتوى على الإنترنت، حيث يتنافس المحتوى والشركات والمعلنين على جذب انتباه الجمهور وتفاعلهم معها. هذه الفكرة تعتمد على أن الانتباه هو المورّد الأكثر قيمة في الاقتصاد الحديث، بحيث يتم تحويل هذا الانتباه إلى قيمة اقتصادية من خلال تحويله إلى مبيعات أو إعلانات أو عمليات تسويقية أخرى. اقتصادية الانتباه يعتمد على تحليل سلوكيات المستخدمين على الإنترنت، بحيث يتم تحديد الأنماط السلوكية للمستخدمين والأشخاص المستهدفين للإعلانات والمحتوى المستهدف لجذب اهتمامهم، وكما تعتمد على استخدام تقنيات الذكاء الصنعي وتحليل البيانات لفهم سلوكيات المستخدمين بشكل أفضل وتحسين جودة الخدمات والمحتوى المُقدّم لهم. شركات التكنولوجيا الكبرى مثل “فيسبوك” و “جوجل” و “تويتر” وغيرها من منصات تستخدم اقتصاد الانتباه لتحقيق الربح من خلال الإعلانات والتسويق، وتُعد هذه الفكرة أحد المفاهيم الهامة في عصر الإنترنت والتكنولوجيا الحديثة.
كيف تجني منصات التواصل أرباحها؟
مع مرور الوقت، ومع توفر المزيد من المعلومات والمزيد من الخيارات في متناول أيدينا أكثر من أي وقت مضى، أصبحت التكنولوجيا أكثر تعقيدا مما مضى، وهذا ما أسفر عن زيادة التشتت لدى المستخدم، وأضحت عملية الانتباه والاهتمام من الأمور النادرة، وهذا ما دفع شركات التكنولوجيا لصرف مبالغ طائلة لتصميم تقنيات تُغذي شعور الإلهاء المستمر للمستخدم والتي تعتمد على جذب انتباهه لكسب المال. لطالما كان الإعلان يهدف إلى إقناعك بفعل ما يريده المُعلِن، يمكن أن يكون شراء بعض الألبسة، أو حضور فصل دراسي عبر الإنترنت، أو التصويت لمرشح سياسي. الإعلانات التقليدية على التلفاز أو الصحف أو المجلات أو اللوحات الإعلانية عامة جدا، والجميع يرون نفس الإعلانات، هذا النوع من الإعلانات لا يقدم بيانات دقيقة للمعلنين، فيما تتمتع إعلانات وسائل التواصل الاجتماعي بالعديد من المزايا الفريدة التي تجعل الإعلان أكثر قوة. أغلب منصات التواصل بدأت تستثمر الذكاء الصنعي، لتحليل سلوكيات المستخدم لدى تصفحها، لتقدم إعلانات أكثر ذكاءا واستهدافا، فهي تقدم إعلانات مخصصة تختلف من مستخدم لآخر، وتعتمد في ذلك على مراقبة الأصدقاء الميول والهوايات. شركات وسائل التواصل الاجتماعي تقوم بجمع بيانات متعمقة حول كيفية التأثير على قراراتنا، ثم تبيع هذا التأثير لمن يدفع أكثر، كلما زاد الوقت الذي يمكنهم فيه قضاء التمرير والنقر، زادت البيانات التي يمكنهم جمعها والمزيد من الإعلانات التي يمكنهم بيعها، والحقيقة هي أن تطبيقات الوسائط الاجتماعية مجانية لنا؛ لأننا نحن المنتج الذي يتم بيعه.
اقتصاد الانتباه يعزز التطرف
الشبكات الاجتماعية هي أكبر مثال على استغلال اقتصاد الانتباه، إنهم يعتمدون بشكل تام على نقل تركيز المستخدم والنقرات لتحقيق جزء كبير من إيراداتهم، وللقيام بذلك يصممون خوارزميات تعرض المعلومات الأكثر إثارة للاهتمام واللافتة للانتباه المتوفرة ضمن شبكاتنا الاجتماعية. على سبيل المثال، إذا كان الموجز الذي يتم عرضه على منصة “فيسبوك” مكرر وممل، فسيتوقف المستخدم عن مشاهدته، لذلك تعرض منصة “فيسوك” الأحداث الأكثر تطرفا القريبة من الشبكة الاجتماعية للمستخدم، لسبب بسيط هو أن الأحداث المتطرفة تجذب أكبر قدر من الاهتمام. لكن هذه العملية لها آثار جذرية ليس فقط على تصوراتنا للمجتمع ككل، ولكن أيضا على كيفية إدراكنا لحياتنا الشخصية، فكل ما يتم عرضه والتركيز عليه يكون في قمة المثالية، وهنا يبدأ الكثير منا في الشعور بالظلم بطريقة أو بأخرى. اقتصاد الانتباه يكافئ الأشخاص النرجسيين والترويج الذاتي؛ لأن هؤلاء الأشخاص يتفوقون في جذب الانتباه، لذلك يبدو أن الجميع أصبحوا أكثر سطحية.
الآراء الأكثر تطرفا تحظى بأكبر قدر من الترويج؛ لأنها الأكثر تميزا، وتحظى بأكبر قدر من الاهتمام، وتصبح التهديدات مثل الإيبولا أو الإرهاب مثيرة، ليس لأنها تشكل تهديدا في الواقع، ولكن بسبب مقدار الاهتمام الذي تحظى به.
الترويج ولفت الانتباه يتم لكثير من الأحداث الدرامية التي لا طائل من ورائها مثل أخطاء وعثرات المشاهير الغبية التي تأخذ أهمية ثقافية أكبر بكثير مما هي عليه في الواقع، فالشبكات الاجتماعية قد تروج على الانغماس في العالم الافتراضي عوضا عن العالم الحقيقي، وتسهل الوصول إلى المحتوى السطحي والترفيهي دون التركيز على المحتوى الثقافي والتعليمي، وتساعد أيضًا على تعزيز ثقافة الاهتمام بالمظاهر الخارجية والاستعراضية والانتقائية، وتقليل الاهتمام بالقيم والمبادئ والتطور الفكري.
اقتصادية الانتباه العالمية
هذا النوع من الاقتصاد، تعدّى مرحلة التسويق والإعلان على مستوى الشركات، هذا ما يراه يونس الكريم، الرئيس التنفيذي لمنصة “اقتصادي”، والذي أوضح في حديث خاص لمؤسسة ” إكسڤار”، أن هذا النهج الجديد من الاقتصاد بدأ يُستَغل على مستوى الدول أو الشركات متعددة الجنسية، والتي تريد أن تصنع أو تبتكر حدثا معينا، كما حدث في بداية انتشار وباء “كوفيد-19”.
أولا، يتم خلق المشكلة، ولفت انتباه العالم بخطورة الأمر، ومن ثم يبدأ العالم أجمع بالبحث عن المعلومة، وإقناع الأغلبية بضرورة تلقي لقاحات الوباء، تم دفع المليارات على هذه اللقاحات، ومن ثم اختفاء “كوفيد-19” ولقاحه أيضا، هذا هو اقتصاد الانتباه العام، فهو يحتاج إلى موارد مالية ضخمة.
ازدهار أم انتكاسة؟
تغيير النظرة السائدة عندما نفكر في حجم الأضرار التي نواجهها يوميا على الإنترنت وحجم الشركات المتنافسة في اقتصاد الانتباه، نشعر بالعجز، وبالأخص أن معظمنا منغمس بالتكنولوجيا بشكل هستيري، ولكن رغم ذلك لا نريد أن تستغلنا الشركات. من أجل بناء نظام أفضل، سيتعين علينا إعادة النظر بعمق في الكثير من ممارساتنا اليومية على مواقع التواصل الاجتماعي، بالرغم من أننا نواجه شركات ذات اقتصاد ضخم، وقامت وما تزال تدفع المليارات لجذب وإدمان المستخدمين لصفحاتها، وهذا ما تعتمد عليه هذه الشركات لزيادة إيراداتها. عند وجود أصوات ترتفع لممارسة الضغط على الشركات، تضطر الشركات إلى إنفاق الوقت والمال لمعالجة الأضرار، ومن الممكن أن يصبح نموذج أعمالهم الذي كان مربحا في يوم من الأيام غير مستدام. على سبيل المثال، هناك الكثير من الدعاوى والغرامات ضد بعض شركات التكنولوجيا حول العالم، المتعلقة بانتهاك الخصوصية أو جمع البيانات دون معرفة مستخدميها أو فرض إعلانات غير مناسبة، كل ذلك تعد خطوات واعدة نحو فهم كيفية مقاومة التكنولوجيا التي تسبب الضرر، والسعي إلى بناء تكنولوجيا جديدة مبنية على افتراضات أفضل.
المصدر : موقع إكسڤار exvar.