هاني كرزي
سعت روسيا على مدار سنوات للتدخل بمختلف القطاعات في سوريا، بما فيها القطاع الزراعي والصناعي، سواء عبر استثمارات لها في البلاد أو عبر تقديم الدعم المالي لحكومة النظام لإنعاش الواقع الصناعي والزراعي لديها، وآخرها دعم الصناعات الغذائية عبر تمويل مشروع تديره منظمة “يونيدو” التابعة للأمم المتحدة.
ويتحدث خبراء عن رغبة روسيا في تحويل سوريا إلى مركز لتصدير منتجاتها الزراعية عبر المياه الدافئة إلى أنحاء العالم، وهو الأمر الذي يدفعها للاستثمار في هذا القطاع.
كما أن ترويجها لدعم القطاع الزراعي يهدف أيضًا لتجميل صورتها أمام الشارع المحلي، الذي يبدي تململًا من عدم مساعدتها لسوريا في أزمتها الاقتصادية الخانقة.
ومنذ عام 2012، تحدث وزير الزراعة السوري الأسبق، رياض حجاب، عن التعاون مع روسيا في القطاع الزراعي.
الاستثمار الروسي في البداية ضمن قطاع الزراعة، كان عبر مشاريع الاستمطار وبناء السدود لري الأراضي الزراعية، إضافة إلى تصديرها محاصيل زراعية مثل الشعير وكسبة الصويا والذرة الصفراء إلى النظام السوري.
قطاع الحبوب
بعد عام من التدخل الروسي في سوريا، بدأت موسكو تسعى للاستثمار في قطاعات مختلفة لتحصيل فاتورة دعمها العسكري لنظام الأسد.
وفي شباط 2016، قررت شركة “سوفوكريم” الروسية بناء أربع مطاحن للحبوب في محافظة حمص، بتكلفة 70 مليون يورو، على أن تغطي حكومة النظام تكاليف البناء.
كانت سوريا قبل عام 2011 سلة الخبز الإقليمية، كونها تنتج من الحبوب ما يفوق استهلاكها، لكنها منذ بداية الحرب تحولت إلى الاعتماد شيئًا فشيئًا على القمح المستورد، كون 70% من حقول القمح السورية تتركز في شمال شرقي البلاد، أي خارج سيطرة النظام.
استغلت روسيا حاجة النظام إلى القمح، وقامت بتوقيع عدة عقود لتصدير مئات آلاف الأطنان إلى سوريا، بغية كسب القطع الأجنبي من عمليات التصدير.
ففي أيلول 2017، قال وزير التجارة الداخلية السوري الأسبق، عبد الله الغربي، لوكالة “رويترز“، إن بلاده أبرمت اتفاقًا لشراء ثلاثة ملايين طن من القمح من حليفتها روسيا على مدى ثلاث سنوات.
مدير عام هيئة دعم وتنمية الإنتاج المحلي والصادرات في سوريا، المهدي الدالي، أعلن في عام 2017، أن حكومة النظام ستدفع نقدًا 60% من قيمة صفقة القمح الروسي، و40% تكون عبارة عن تصدير منتجات زراعية من حمضيات وفواكه ومنتجات نسيجية ومنظفات إلى روسيا.
الاستثمار الروسي لم ينقطع، ففي 7 من تموز الماضي، أعلن مدير “المؤسسة العامة السورية للحبوب”، سامي هليل، عن خطة مشتركة بين النظام السوري وروسيا تهدف إلى إعادة ترميم وبناء العديد من المطاحن والصوامع المدمرة في سوريا.
تشمل الخطة نقل التكنولوجيا الروسية اللازمة لخطوط التشغيل والإنتاج في الصوامع والمطاحن السورية، ووفق هذه الخطة، كان من المقرر وضع مطحنة “تلكلخ” بريف حمص التي أعادت روسيا بناءها بالخدمة في آب الماضي، وتعد من أكبر المطاحن في سوريا، إذ ستنتج نحو 600 طن يوميًا من الدقيق، وذلك ضمن المرحلة التجريبية.
تهدف هذه الخطة، وفق مدير “المؤسسة العامة للحبوب”، إلى زيادة إنتاج الدقيق وتغطية حاجة البلد من المادة، وتوفير أجور نقل وشحن الدقيق بين المحافظات.
وقال الدكتور في العلوم المالية والمصرفية، فراس شعبو، لعنب بلدي، إن رغبة روسيا بالاستثمار في قطاع المطاحن والصوامع، يعود لوجود نية مستقبلية لديها لتكوين نقطة انطلاق في سوريا لتصدير القمح عبر المياه الدافئة في البحر الأبيض المتوسط، وإيجاد نقطة عبور أخرى للمنتجات الروسية نحو أوروبا أو القارة الإفريقية من خلال الأراضي السورية.
بدوره، قال الباحث في الشأن الاقتصادي يونس الكريم، إن روسيا كانت تسعى من تصدير القمح للنظام السوري لتحقيق ثلاثة أهداف، الأول كسب القطع الأجنبي حيث كانت موسكو تجبر النظام على دفع قيمة شحنات القمح نقدًا ولم تسمح له بالدَّين، والهدف الثاني محاولة تأمين مواد غذائية، حتى لا تضعف بنية النظام، ولا تدخل البلد في حالة مجاعة، ما يستدعي حينها تدخلًا دوليًا قد يضر بالمصالح الروسية.
الهدف الثالث لروسيا من الاستثمار في قطاع الحبوب، محاولتها دراسة وتطوير السلاسل الزراعية وإجراء التجارب عليها، حيث قدمت روسيا مسبقًا شتلات زراعية تسببت في حدوث صديد بالقمح، ما يعني أن موسكو حوّلت الأراضي الزراعية في سوريا إلى حقل تجارب لها، وفق ما قاله الكريم.
الفوسفات.. مطمع روسي
الاستثمار الروس بالقطاع الزراعي في سوريا، امتد لوضع يدها على حقول الفوسفات، حيث سيطرت شركات روسية على حقول الفوسفات ومعمل الأسمدة في حمص، بعد أن صدّق مجلس الشعب، في 6 من شباط 2019، على مشروع القانون المبرم بين المؤسسة العامة للصناعات الكيماوية وشركة “إس تي جي انجينيرينغ” الروسية، لاستثمار معمل الشركة العامة للأسمدة في حمص.
ومنذ توقيع العقد، سادت مخاوف من أن تسهم سيطرة الشركات الروسية على قطاع الأسمدة في رفع الدعم عن الأسمدة الزراعية، وبالتالي غلاء أسعارها نتيجة تصدير الشركة الروسية للأسمدة، ولا سيما أن العقد يجيز لها التصدير، ولكن “في حال اكتفاء حاجة السوق المحلية”.
وبعنوان “أوروبا تشتري فوسفات ملطخة بالدماء من سوريا”، كشف تقرير صادر في حزيران 2022 عن مجموعة صحفيين استقصائيين بقيادة “Lighthouse Reports” (لايتهاوس ريبورتس) و”مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد”، عن تصدير فوسفات بقيمة ملايين الدولارات من سوريا على يد شركة روسية خاضعة للعقوبات الأوروبية والأمريكية، شقّت طريقها إلى أسواق الأسمدة الأوروبية منذ عام 2018.
برعاية الأمم المتحدة
أعلنت وزارة الصناعة بحكومة النظام، في 8 من أيلول الحالي، عن فتح باب التسجيل أمام الشركات الوطنية، للانضمام إلى مشروع يهدف لتنشيط قطاع الصناعات الغذائية، الذي ستنفذه منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (يونيدو)، بتمويل من روسيا.
وقال وزير الصناعة السوري، عبد القادر جوخدار، لوكالة “سبوتنيك” الروسية، إن المشروع الذي تدعمه روسيا يعد أول مشروع تنموي حقيقي، بعدما اقتصرت المشاريع السابقة على الاستجابة الإنسانية لحاجات المواطنين الأساسية، كالصحة والغذاء والتعليم.
ويشمل المشروع الصناعات الزراعية (الألبان والأجبان والفواكه والخضراوات وزيت الزيتون وصناعة القطن والنسيج وغيرها).
مشروع دعم الصناعات الغذائية جرى الإعلان عنه منذ أيار 2023، وقالت وكالة “سبوتنيك” حينها، إن المشروع يمتد على ثلاث سنوات بميزانية 2.5 مليون دولار أمريكي، بتمويل روسي، لكن المشروع لم يدخل حينها حيز التنفيذ، واقتصر على الإعلان فقط.
لكن في شباط الماضي، قال رئيس اتحاد غرفة صناعة دمشق وريفها، غزوان المصري، إن روسيا رصدت نحو مليون دولار لدعم مشروع الصناعات الغذائية في مناطق سيطرة النظام، وهو ما يظهر تناقضًا مع الرقم الذي ذكرته وسائل الإعلام الروسية منتصف العام الماضي والبالغ (2.5 مليون دولار).
ويرى المحلل السياسي المختص بالشأن الروسي محمود الحمزة، أن الحديث عن تقديم روسيا دعمًا ماليًا بقيمة مليون دولار لإنعاش الصناعات الغذائية هو أمر مثير للضحك، فالنهوض بهذه الصناعة التي دمرتها الحرب يتطلب مليارات الدولارات حتى تستعيد عافيتها، وحتى لو أرسلت روسيا هذا المبلغ سيذهب لحساب “الأمانة السورية للتنمية” التابعة لأسماء الأسد، كما حصل مع مساعدات الزلزال.
مكاسب روسية
وحول أهداف روسيا من دعم الزراعة والصناعات الغذائية في سوريا، قال الباحث بمجال الاقتصاد السياسي والإدارة المحلية في سوريا بمركز “عمران” للدراسات الاستراتيجية أيمن الدسوقي، إن روسيا تسعى من خلال هذا الدعم إلى تحقيق عدة أهداف هي:
- مواكبة مشاريع التعافي المبكر المتوقع إطلاقها لسوريا، والترويج لخبرائها ومنظماتها بأنها مستعدة وقادرة على تنفيذ مشاريع التعافي المبكر في سوريا.
- توظيف وكالات أممية لرفع تقارير وتوصيات بضرورة رفع العقوبات عن سوريا، باعتبارها المعوق الرئيس أمام انتعاش القطاع الصناعي السوري، ولا سيما أن هذا المشروع برعاية منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (يونيدو).
- تطوير بعض الصناعات الغذائية التي تستهدف الأسواق الخارجية عبر تحسين جودة منتجاتها وقدرتها التنافسية، في محاولة روسية لدعم الاقتصاد السوري المتداعي بطريقة غير مباشرة، فضلًا عما يتيحه هذا المشروع لروسيا من بناء شبكة مصالح وعلاقات مع النخبة الصناعية السورية.
- محاولة روسيا تصويب صورتها أمام الحاضنة الموالية للنظام، ولا سيما في ظل انتقاد الأخيرة للدور الروسي وتجنبه التدخل للمساعدة في حل المشكلات الاقتصادية والمعيشية للسوريين في مناطق النظام.
في السياق ذاته، قال المحلل السياسي محمود الحمزة، إن حديث مسؤولي النظام ووسائل الإعلام الروسية عن تقديم تمويل روسي لدعم الصناعة الغذائية، هو مجرد “بروباغندا” دعائية، ليظهروا للعالم أن سوريا عادت إلى حياتها الطبيعية وعجلت الصناعة تدور فيها.
وأضاف الحمزة أن هدف روسيا من تقديم الدعم المالي هو الاستثمار في سوريا بغية تثبيت أقدامها أكثر، فهي تنتظر المصالحة التركية- السورية، وتسعى لخلق بيئة ملائمة في سوريا لاستجرار الأموال الخليجية، لهذا تريد موسكو أن تسبق الآخرين وتضع يدها على الصناعات الغذائية من أجل المستقبل، باعتبار القطاع الغذائي في سوريا هو “رقم واحد”، ويمكن يدر عليها المليارات.
ولفت الحمزة إلى أن ما يهم روسيا هو خدمة مصالحها، ولا يهمها النهوض بالاقتصاد السوري أو الأمن الغذائي، ولا حتى إنقاذ الأسد المنهار اقتصاديًا، فلو أرادت موسكو ذلك لدعمته بكميات ضخمة من القمح للمساهمة في خفض أسعار الخبز.
سوق للمنتجات الروسية
الاستثمار الروسي في مجال الزراعة، كان كذلك عبر تصديرها مواد أولية وآليات تخدم هذا القطاع وتعود عليها بالنفع المادي، وبالتالي أصبحت سوريا بمنزلة سوق للمنتجات الروسية.
وزير الزراعة السوري، محمد حسان قطنا، أفاد لـ”سبوتنيك”، أن النظام السوري يقوم بتأمين مستلزمات المكننة الزراعية، ومستلزمات تصنيع الأدوية والأسمدة من روسيا.
من جهته، أكد المهندس مهند الأصفر، ممثل إحدى الشركات الروسية في سوريا، لـ”سبوتنيك”، أهمية الاستفادة من الآلات الزراعية الروسية، مشيرًا إلى أهمية توريد جرارات زراعية من موسكو في ظل الحصار الاقتصادي الغربي الذي زاد بشكل كبير من صعوبات تأمين المعدات والآلات الزراعية.
وفي هذا السياق، قال يونس الكريم، إن روسيا سعت لتحويل سوريا إلى مركز تسويق لمنتجاتها سواء الزراعية أو البتروكيماوية أو حتى المواد الأولية التي تنتجها، أي أن موسكو لم تسعَ لتطوير الصناعة في سوريا، وإنما أرادت توفير منتجات شبيهة بمنتجاتها وإيصالها من سوريا إلى المستهلك المحلي أو فتح حتى أسواق جديدة منها للخارج، مستفيدة من رخص الأيدي العاملة في سوريا، والتسهيلات التي يقدمها النظام.
وأضاف الكريم أن اهتمام الروس بالصناعات الغذائية هو محاولة فقط لتلطيف الوجود الروسي الذي بات يتعرض لضغط من الحاضنة الشعبية النظام، إضافة إلى محاولة روسيا سرقة الكثير من التجارب الزراعية وخبرات السوريين لتطوير منتجاتها.
ووفقًا للإحصاءات الرسمية الصادرة عن حكومة النظام، فإن 23 شركة في القطاع العام (مملوكة للحكومة)، وأكثر من 60 شركة خاصة تعمل في القطاع الغذائي، وتوفر نحو 8% من القوى العاملة النشطة في البلاد.
المقالة منشورة على موقع عنب بلدي